عفواً سيادة القاضي..نساء سوريا يُشرّفن أيّ مهنة ومجتمع



إيمان أحمد ونوس
2017 / 2 / 10



حين يضيق أفق المسؤول، لاسيما في زمنٍ له خصوصية من نوع مُغاير ومختلف عن السائد، تُصبح المسؤولية عبئاً وعبثاً لا معنى له... وحين لا يرى أيّ مسؤول الواقع الحقيقي لحياة الناس، فيُطلق أحكاماً أكل عليها الدهر وشرب، حينها يكون في حالة انفصال عن هذا الواقع الذي يحتاج لرؤىً وأحكام تتناسب وحجم مأساته...
القاضي الشرعي الأول بدمشق محمود المعراوي وفي تصريح له لصحيفة الوطن مطلع الشهر الحالي، اعتبر فيه عمل بعض النساء والفتيات كنادلات في المطاعم والمقاهي لا يليق بالمجتمع السوري، وأنه غير مُحبّب في مجتمعنا، مُستنداً إلى تلقيه دعاوى طلاق من أزواج لا يرغبون أن تعمل زوجاتهم في مثل هذه المهن، رابطاً في الوقت ذاته بين قلّة اليد العاملة من الذكور والتي دفعت أصحاب المطاعم والمقاهي لتشغيل النساء من أجل ردم النقص الحاصل في العمالة لديهم.
لقد أثار هذا التصريح الكثير من الجدل والاستهجان في الشارع السوري، باعتباره جاء في الزمان والمكان الخطأ لأسباب متعددة، أهمها:
أولاً- إن العديد من الفتيات يعملن كنادلات في المطاعم والفنادق والمقاهي منذ ما قبل الحرب بزمن طويل بسبب البطالة المنتشرة منذ ذلك الوقت في صفوف الشباب، لاسيما الجامعي منه والذي يحتاج إلى مصاريف لا يتمكّن الأهل من تلبيتها بحكم الوضع المادي السيئ لشرائح كبيرة من المجتمع السوري نتيجة سياسات اقتصادية جائرة أدت إلى ما آل إليها حالنا اليوم. صحيح أن المجتمع حينها قد استهجن الحالة بدايةً، لكنه اعتادها وصارت مهنة مثل باقي المهن التي تعمل بها النساء بعد أن أثبتن أنهن قادرات على خوض غمار أيّ عمل دون خرق القيم الاجتماعية والأخلاقية.
ثانياً- حين يستهجن القاضي الشرعي مهنة النادلة، هل تساءل لمَ تمّ اختيار هذه المهنة من قبل النساء..؟ ألم يتذكّر أو يقرأ عن نسب البطالة المرتفعة في البلد بين صفوف الذكور قبل الإناث، وأن الدولة عاجزة عن تأمين فرص عمل لكل العاطلين عنه سواء بسبب تدمير أماكن عملهم أو لعدم توافر هذه الفرص لديها، ألم يتذكّر أن العمل من أهم حقوق الإنسان في أيّ مهنة شاء، وعلى الدولة توفيره للجنسين معاً بغض النظر عن الحاجة المادية أو المعنوية.
ثالثاً- لمَ لم يسأل سيادة القاضي أولئك الأزواج الذين أقدموا على طلاق زوجاتهم لأنهن يعملن نادلات إن كانوا يؤمّنون لهن كافة احتياجاتهن وأطفالهن أم لا، فإن كان الجواب لا، ألم يكن حريّاً بالقاضي أن يحاسب الزوج الذي كلّفه الشرع وأجبره بالإنفاق على زوجته حتى لو كانت تملك مالاً..؟ ثمّ، أليس هو من قال في ذات التصريح:(إن المبدأ العام في قانون الأحوال الشخصية والشريعة الإسلامية هو إلزام الزوج بالإنفاق على زوجته حتى لو كانت غنية وهو فقير، مبيّناً أن هذه من الواجبات المفروضة على الزوج بالقانون. وأضاف: لا يحق للزوج أن يطلب من زوجته العمل، لأنه مجبر بالإنفاق عليها، وإذا أجبرها ورفضت ووصل الأمر إلى المحاكم فيُعتبر الزوج مسيئاً حتى لو كانت الزوجة تحمل شهادات، لأن مهمتها الأساسية الإشراف على شؤون الأسرة، مبيّناً أنه في حال هي أحبت أن تعمل فهذا موضوع مختلف.) مسؤولية القاضي أمام حالات طلاق غير عقلانية أو واقعية هي أن يرأب صدع الخلاف، ويعطي لكل ذي حقٍ حقه بدل أن يستهجن هذه المهنة أو تلك..!!
رابعاً- القاضي الشرعي حين نطق بما نطق، لعلّه نسي أننا في بلد تعيش حرباً كارثية أدت إلى خلخلة المجتمع السوري على مختلف المستويات وأوّلها الأخلاقي، وباعترافه نفسه في العديد من التصريحات السابقة، هذه الحرب التي دمّرت كل شيء وأهم شيء وهو كرامة وقيمة الإنسان، حتى بات مشهد النساء المتسوّلات مع أطفالهن في الشوارع عادياً لا يثير أيّ استهجان من أحد لاسيما المسؤولين في بلدنا. وأيضاً، تفشي ظاهرة الدعارة التي باتت علنية وفي وضح النهار، نتيجة الجوع والفقر والعوز الشديد الذي دفع بالعديد من النساء والفتيات لاستسهال الحصول على المال من أجل أفواه جائعة وأجساد عارية. وكذلك الأُسر التي تفترش الشوارع والحدائق والأنفاق، لأنها لا تستطيع استئجار بيت بسبب جشع تجّار العقارات وأصحاب البيوت الذين لم يجدوا قانوناً يتصدى لهم أو مسؤولاً يحاسبهم، فمنذ أيام معدودات شهدت حديقة الفحامة بدمشق صباحاً ونحن معها منظر أسرة نائمة فيها رغم البرد والمطر.
خامساً- في ظلّ الحرب المُستعرة منذ سنوات ست، وبحكم غياب الرجل عن أسرته(أب، أخ، ابن وزوج) لأسباب يعرفها الجميع، وجدت المرأة نفسها أمام مسؤوليات جسام تجاه أسرة كبيرة قد تضم بالإضافة إلى الأولاد أبوي الزوجين وسواهم، ولأن الحرب رفعت نسب البطالة إلى مستويات قياسية، لاذت المرأة بأعمال لم تكن معتادة عليها سابقاً، فقط من أجل تأمين لقمة العيش لأسرتها في ظل غلاء فاحش يعجز الرجال عن احتماله، وكذلك من أجل أن تحفظ كرامتها فلا تلجأ لطرق أو أعمال غير أخلاقية( الدعارة مثلاً) فعملت في البناء أو إصلاح السيارات أو تعبئة وتبديل اسطوانات الغاز أو سائق لآلية ما.... الخ وكلنا شاهد بعض النساء في واحدة من هذه المهن، وهنا أثبتت المرأة السورية من جديد أنها تستطيع وبجدارة حمل أعباء مختلف المسؤوليات والمهن في مختلف الظروف المعيشية، مثلما أثبتت أنها لا تقلّ شأناً عن الرجال، إن لم تتفوّق عليهم في العديد من الصفات والتي أهمها الصبر والحكمة في إدارة أمورها وأمور من حولها..
وبعد كل ما ذُكِرَ أعلاه مما يُعاني منه المجتمع السوري في ظلّ حرب عبثية مجنونة، ألم يبقَ سوى مهنة النادلة التي لا تليق بل تُسيء للمجتمع السوري في نظرك سيادة القاضي..؟ اسمح لنا نحن نساء سوريا أن نقول لك: عفواً سيادة القاضي.. نساء سوريا يُشرفن أيّة مهنة وأيّ مجتمع يتواجدن فيه، وهذا ما أثبتناه على مدى سنوات الحرب وما زلنا.