حكم النسوان



نضال نعيسة
2006 / 1 / 20

حتى عهود قريبة، ومع بعض الاستثناءات الضئيلة في التاريخ الإنساني المديد، فقد ظلت المرأة كائنا ملحقا بالرجل في البيت، والحقل، والحياة بشكل عام. وظل مفهوم النسوية مرتبطا بالأمّ الحنون الرؤوم المعطاف، والأخت الطيبة الودود، والعشيقة المخلصة، والزوجة الفاضلة، والملاك الساحر طافح الجمال ، ومصدر البهجة والسعادة والسرور، و"موئل متعة" واستغلال فقط لبعض ليس بيسير على أية حال. وحين يتخيل البعض الجنة فسرعان ما يربط أن فيها حورا عيناً يفضن رقة، وفتنة، وإغراء، ويملأن الفؤاد دفئا وحماس، ويجددن ما مضى من العمر المسفوح بالتمنيات. وقد وجمت المرأة بعيدا عن الواجهة، وفي ركن خلفي ما من اللوحة الذكورية الطاغية. إلا أنه ومع أفول عهود الجنون، والطغيان، والهذيان، إلا في المجتمعات التي آلت على نفسها ألا تخلع أثواب الجهل والانحطاط، فقد بدأ يلوح في الأفق عصر جديد للمرأة، وبدأ نجمها يلمع رويدا رويدا في سماء المجتمعات. إلا أن القفزة الكبرى البارزة هي في ولوجها عالم السياسة، ومن أوسع الأبواب ومركز القرار بعد دهر من الظلم، والتبعية، والإقصاء.

فـ “ المرأة " السياسية تزحف الآن في غير مكان بعد أن حققت المرآة الكثير من المكاسب على الصعد الاجتماعية، والاقتصادية ووضعت نصب عينيها الزعامة السياسي ليكون تحكمها بـ"الرجل" أعم وأشمل. والموضوع لايخرج في الواقع عن رغبة نفسية شديدة بالانتقام من الرجل الذي ظل سائدا وقويا في الحقب المشاعية، والزراعية، والقبلية، الأبوية الطويلة، وهي نقطة تحول جديدة في التحول والانعطاف في المسيرة الإنسانية الكبرى نحو الأفضل . و إذا استثنينا النظرة الضيقة للمرأة في محيطنا المتخلف سياسيا واجتماعيا واقتصاديا لجهة ولاية المرأة والنظرة الدونية التي تحظى بها بشكل عام، فيبدو أننا أمام تغير كبير في تولي المرأة زمام القيادة السياسية بشكل أوسع في أكثر من مكان على وجه البسيطة. وأرجو ألا يجادل أحد في المكانة التي وصلت إليه المرأة العربية مستعينا بالخطاب الرسمي العربي الكاذب والعقيم، لأن الوزيرة "المستوزرة" شكلا وديكورا لمواكبة عولمة " نسونة " السياسة، ففي هذه البلدان ما زالت تحتاج لموافقة الرجل، ولي الأمر للانتقال من قرية إلى قرية، كما أنها، شرعا وقانونا، مجرد رقم من واحد إلى أربعة، في مملكة الرجل الذكورية حتى الآن حسب القوانين المعمول لها في هذه البلدان.

فها هي المرأة، ومع المتغيرات العنيفة، والجذرية التي تصيب العالم من أقصاه لأقصاه، تحكم قبضتها على الرجل أكثر وأكثر. ولقد برزت في الآونة الأخيرة كوكبة من النساء في غير مكان من العالم ليتصدرن الأخبار والأنباء، ويقتحمن حصون الرجال التقليدية في السياسة والاقتصاد، محققات الانتصارات تلو الانتصارات. فهل من باب المصادفة أن تفوز إيلين جونسون سيرليف كأول رئيسة في تاريخ إفريقيا كرئيسة لليبيريا بعد تاريخ مرير من حكم العسكر، والانقلابات والصراعات الدموية في بلد تواجه صعوبات اقتصادية كبيرة بعد أن دمرتها سنوات حرب أهلية
(1989-2003) أسفرت عن مئات الآلاف من القتلى والمهجّرين؟ وأن تفوز أيضا، وفي نفس الوقت تقريبا، وسط فرحة عارمة من جماهير الشعب التشيلي، وفي انتخابات حرة ومباشرة الوزيرة الاشتراكية السابقة ميشال باشليه كأول رئيس لجمهورية التشيلي بعد العهود السوداء لجنرالات العسكر وأشهرهم على الإطلاق الديكتاتور والسفاح بينوشيه الذي أجهز على حكم الرئيس الشعبي اليساري سلفادو الليندي في بداية السبعينات؟ وتزامن ذلك مع تعيين رئيس الوزراء الإسرائيلي بالوكالة يهود أولمرت لـ" تسيبي ليفني" وزيرة للخارجية في الحكومة الإسرائيلية خلفا لسيلفان شالوم الذي استقال مؤخرا من منصبه، لتصبح المرأة الثانية التى تشغل هذا المنصب فى تاريخ اسرائيل. ولن ننسى بالطبع الصعود المثير لأنجيلا ميركل كأول مستشارة في تاريخ ألمانيا مقصية الزعيم "الكاريزمي" الألماني المحبوب جيرهارد شرويدر من سدة المستشارية الألمانية التي كانت دائما حكرا على الرجال، وتجلس في نفس المكان الذي شغله يوما ما الفوهرر هتلر مع بقية شلة الأنس النازية من رومل إلى غوبلز وليبرمان، مع التذكير الدائم بالوجود الأبدي للملكة البريطانية في قصر بكينغهام، بكل ما في ذلك من رمز، وما لبريطانيا من ثقل على القرار العالمي، وإن كان وجودها صوريا، ودستوريا إلى حد ما. كما إنه، ومن المستحيل، الآن، وفي هذه المرحلة الدقيقة بالذات، نسيان الدور المؤثر والهام للدكتورة كونداليزا رايس التي تقود دفة السياسة الخارجية الأمريكية بغض عن النظر عن الفشل والنجاح، وهو واحد من أكثر المناصب أهمية على الصعيد الدولي، بما للولايات المتحدة الأمريكية من ثقل ووزن دوليين على مختلف الصعد وأهمها الاقتصادية والعسكرية، وقوة، وانتشار الدولار.

هل يمكن اعتبار هذه مجرد خبط صدف عشواء تحدث هنا وهناك أم أنه تجسيد واقعي، لا يمكن تجاهله، لتحول الرأي العام باتجاه التسليم بالقيادة للنساء، ذاك الجنس البشري الناعم المسالم، بعد أن فقدت البشرية ثقتها بحكم الرجال الأجلاف الأفظاظ، وبعد أن جربت هذه الدول حكم الدول الذي جر الويلات والحروب والفضائح والأهوال على الإنسانية جمعاء، ولعل مايفعله بوش اليوم من خراب ودمار قد يعزز، حكما، من حظوظ السيناتور الديمقراطي هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس الأمريكي الفضائحي السابق بيل كلينتون، وتشير بعض استطلاعات الرأي العام إلى تقدمها على باقي الرجال للفوز بهذا المنصب. فهل فقد الرجال مصداقيتهم السياسية. وهل سنشهد ذلك اليوم التي تكون فيه القيادة كلها لـ" النسوان "، وتطعم الوزارة أحيانا، هنا وهناك، ببعض الرجال الودعاء، المسالمين، اللطفاء، للتأكيد على أنهم مازالوا موجودين في المجتمعات، ويصبح اصحاب الشوارب والعضلات أقليات مضطهدة في الحكومة والبرلمان، لتحل محلهم صاحبات النهود والسيقان والأرداف؟

هل هذه "الفورة النسونجية" هي مجرد ظاهرة عابرة في التاريخ البشري، لا يحكمها سوى قانون الصدفة، وتزامن غير مترابط، أو ممنهج هنا وهناك، قد لا تثبت فيه النساء جدارتهن بالزعامة والقيادة، ويغلب الطبع التطبع، وتعود فيه السطوة، والغلبة مرة أخرى للعتاولة من الرجال؟ أم أنه طموح مشروع، وناجح لكائن إنساني جميل، ورقيق، وهام يجب أن يشارك الرجال كل مناحي الحياة؟

المرأة موطن الرجل الأول، وحضنه الدافئ الذي نما وترعرع فيه، وحين يفكر الرجل بالخروج من هذا المحيط، ومن دائرة الحب والعطف والحنان الرقيقة تلك، والمؤثرات الإنسانية العالية، تبدأ حينها المشاكل، ويشرع في مسلسل ارتكاب الأخطاء، ولا بد من عودة للأصل للتصحيح الخلل وللاستدراك. فهل هذه هي عودة التوبة النصوح للأحضان الدافئة، وبداية لمرحلة تجريبية جديدة من تبادل الأدوار، والتسليم بقيادة النساء، تحقق فيه ما عجز عنه أعتى القادة والزعماء؟ هل هي عودة مباركة وصحيحة أم ستترحم البشرية، بعد أن يكون قد فات الأوان، على حكم الرجال القساة؟

إنه الزمن وحده، بالتأكيد، هو الذي سيجيب على كل هذه التساؤلات، وسيفكك، حتما، أعقد الألغاز.