لإعادة تعريف الإنتاج بشكل يُقيّم دور النساء بشكل مُختلف



ريم حزان
2019 / 3 / 13

**عاملات البيوت

تناقضات النظام الرأسمالي وقيمه الاجتماعية ومكانة النساء الإنتاجية فيه تفرض علينا رؤية المنظومة الإنتاجية حتى في نضالنا من أجل حقوق العاملين والعاملات، من ضمن المفاهيم والتحليلات التي طرحها إنجلز لتطور المجتمع والدولة وما بينهما. فصحيح أن بعض الدول الإسكندنافية تعترف بربّات البيوت وقيمة عملهن وتؤمّن لهن أجرًا شهريًا، إنما في النظام الاقتصادي والسياسي السائد لدينا فذلك بعيد عن آمالنا القريبة والمرئية، إنما لا يمنعنا هذا من المطالبة بإعادة تعريف الإنتاج بشكل يُقيّم دور النساء بشكل مُختلف شرط عدم الانتقاص بتاتًا من نضالنا من أجل حقوق النساء في العمل وفي ضمان فرص وظروف عمل كريمة للنساء جميعهن.





تبعًا للماركسية، فإن المجتمع ينقسم لطبقتين، الحاكمة والمحكومة على أساس ملكية وسائل الإنتاج التي تتغير تبعًا للعصر، وتسعى فيها الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج لاستغلال الطبقة العاملة (قوة العمل) من أجل فائض إنتاج يُشكّل أساس رأس مالها وربحها على حساب حقوق العمّال وظروف عملهم ومعيشتهم.
نتج هذا الوضع، ويتواصل، بسبب سيطرة الطبقة الحاكمة على مبنى المجتمع وقيمه، من الدين، للغة، مرورًا بالأخلاق، الثقافة والتربية، والمزيد، والتي تمنع من البشر (وبالأساس الطبقة العاملة والمضطهَدين) رؤية علاقات الاستغلال المسيطرة على جميع نواحي حياتهم بهدف تفكيكها وبناء مجتمع وعالم أكثر عدلا في توزيع موارده وثمار إنتاجه الاقتصادي.
لم يتطرق ماركس إلى النساء على نحو منفصل في تأثرهن من هذه العلاقات، إنما تأتي الماركسية النسوية المعاصرة، لتُكمل طروحات فريدريك إنجلز في كتابه "أصل العائلة، الملكية الخاصة والدولة" في أن التفسير لانعدام المساواة بين النساء والرجال في المجتمع هو في استغلال الرجال لقوة عمل النساء، وفي مجالين تربطهما علاقة مباشرة وعضوية: المنزل وسوق العمل.
الآن، لم أكتب في ذكرى الأول من أيّار، التي مرت هذا الأسبوع، عن هذا الموضوع بالذات؟
لأنه برأيي عندما نأتي للحديث عن حقوق العمال والعاملات وقيمة العمل المأجور، تدني الأجور والفجوات الكبيرة في الأجور بين النساء والرجال، لا يُمكن التغاضي عن أحد المحاور الأساسية في العلاقة بين العمل ومكانة النساء – القيمة الاقتصادية لوظيفة ربّة المنزل (ولاحظوا هنا أن لدينا ربّ عائلة وربّة منزل – وهذا يقول الكثير!). على جميع الأحوال، يجب ألا تغيب عنّا التطورات التاريخية التي أدّت لوضع القائم اليوم وتأثيراته على تدني مكانة المرأة عالميًا.
في مقالها "ربّات البيوت والاقتصاد القومي"، تطرح الباحثة "نانسي فولبرا" هذه القضية بتوسع وتحليل عميق وتُظهر كيف أثرت التقارير الإحصائية على المفاهيم البنيوية المجتمعية، الثقافية والسياسية، وتجسّد في نفس المقال الفرضيات الذكورية التي حدّدت تصنيفات وتعريفات "العمل المنتج" في التعداد السكاني ونظرة الاقتصاد السياسي في حينه للنساء ومكانتهن ومساهمتهن في الحياة العائلية والإسقاطات الاقتصادية لهذه المساهمة.
بدأت استطلاعات التعداد السكاني في بريطانيا (ومستعمراتها) ولاحقًا في الولايات المتحدة في بدايات القرن التاسع عشر، على أساس احتساب المساهمة والإنتاج الاقتصادي للعائلة كوحدة اقتصادية واحدة، حيث تم إدراج النساء العاملات في "إدارة شؤون المنزل" في القرن التاسع عشر حتى منتصفه كإنتاج يُحتسب من ضمن اقتصاد المجتمع والعائلة، ثم مع تطوّر وسائل الإنتاج والتجارة والصناعة والمهن الفردية للرجال تغيير تصنيف النساء في هذه الخانة كليًا في بدايات القرن العشرين إلى خانة "المُعالة من الزوج" حيث تم احتساب المساهمة الاقتصادية بناءً على تلقي الأجر مقابل العمل. تجدر الإشارة هنا إلى أن تدني قيمة العمل في المنزل أدّت في حينه إلى احتجاج نسوي (مع الإشارة هنا إلى أن الحركة النسوية في حينه اقتصرت بمعظمها على نساء مثقفات، غنيّات و"بيضاوات")، فمثلاً طرح اشتراكيون نسويون الموضوع في إنجلترا في سنوات الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، وفي الولايات المتحدة طالب مفكرون ماديّون باستغلال أنجع للعمل في المنزل وإشراك مساهمة النساء المديرات لشؤون منازلهن في الاقتصاد.
ترى فولبرا أن عاملين أساسيين أثّرا على التوجّه هذا للعمل في المنزل في القرن التاسع عشر، الأول تطوير قالب "الأنوثة البيتوتية" التي هدّأت من روع أولئك الذين خشوا من التأثيرات الممكنة لتطور الرأسمالية على العائلة، ومكانة النساء فيها وخارجها وتأثير ذلك بالتالي على مكانة ودور الرجل في العائلة والمجتمع، بل خشية الرجال من تقاضي نفس الأجر سوية مع النساء وما يحمله ذلك من تداعيات. العامل الثاني، الذي ساهم أيضًا في تعزيز الطبقية والمظاهر الطبقية هو ازدياد عدد الخادمات والعمل المنزلي المأجور، الذي "حرّر" نساء الطبقة العليا من المهّام المزعجة والمنهكة من الأعمال المنزلية، وتزامن ذلك مع تطوير نموذج مجتمعي مثالي في الطبقات العليا التي حوّلت مكانة النساء المتزوجات ربّات البيوت إلى تعريف "الليدي" (ما قابلها في منطقتنا بالسيدة/الست/الهانم في المنظومات الإقطاعية ومثيلاتها) التي "تُوجّه وترعى" شؤون المنزل ولا تقوم فعليًا بالعمل اليومي الشاق.
لا تخفى علينا المصالح الجندرية في تعريف ربّات البيوت "كمُعالات" بينما يتم الدوس على الأفضليات التي بدأ يتمتع بها الرجال من عمل النساء في المنازل. وتقول فولبرا أن الباحثين في مجالات الاقتصاد والإحصاء قادوا سيرورة جعلت "الحياة العائلية" قيمة مثالية تفرض على النساء البقاء في البيت وإدارة شؤونه وقولبة هذه القيمة في إطار "أخلاقي" يرى في العمل المنزلي واجبا أخلاقيا على المرأة والأم – وإسقاط قيمته الاقتصادية، والأخلاقية!، كليًا من الحسابات الاقتصادية الإنتاجية للعائلة وللمرأة كفرد.
عودة لإنجلز، برأيي فإن تناقضات النظام الرأسمالي وقيمه الاجتماعية ومكانة النساء الإنتاجية فيه تفرض علينا رؤية المنظومة الإنتاجية حتى في نضالنا من أجل حقوق العاملين والعاملات، من ضمن المفاهيم والتحليلات التي طرحها إنجلز لتطور المجتمع والدولة وما بينهما. فصحيح أن بعض الدول الإسكندنافية تعترف بربّات البيوت وقيمة عملهن وتؤمّن لهن أجرًا شهريًا، إنما في النظام الاقتصادي والسياسي السائد لدينا فذلك بعيد عن آمالنا القريبة والمرئية، إنما لا يمنعنا هذا من المطالبة بإعادة تعريف الإنتاج بشكل يُقيّم دور النساء بشكل مُختلف شرط عدم الانتقاص بتاتًا من نضالنا من أجل حقوق النساء في العمل وفي ضمان فرص وظروف عمل كريمة للنساء جميعهن.
في هذا الأسبوع الذي احتفلنا فيه بالأول من أيار، تحية لجميع النساء العاملات، لجميع النساء الكادحات ولجميع النساء المُعطّلات عن العمل المأجور، تحية لجميع النساء اللاتي يعملن، يوميًا، من أجل رفاهية أفراد عائلاتهن دون تعريف هذا العمل كقيمة اقتصادية ومعيشية حيوية، ويقُمن بهذه المهام دون علاقة لوضعهن التشغيلي في سوق العمل.