علا غبور … فارسةٌ من بلادي



فاطمة ناعوت
2017 / 7 / 20

هذا المقالُ هو درسٌ صعبٌ في "كتاب القراءة"، ليدرسه النشءُ في بلادي. درسٌ ربما تقرره وزارةُ التربية والتعليم في مصر في حقبةٍ مشرقة ما، في زمن رفيع ما، قد يأتي، وقد لا يأتي أبدًا. وربما لا تقرره أيةُ وزارة على الإطلاق لأنه درسٌ صعبٌ، أو لأن لحظة السموّ لم يأتِ زمنُها بعد. لكن ذلك الدرسَ، وإن لم يُقرَّر أبدًا، يحمل اسمَ فارسة، اسمُها في ذاته درسٌ، درسٌ عظيم، ليس للنشء المصري وحسب، وليس للفتيات المصريات وحسب، وليس للمصريين وحسب، إنما للعالم بأسره. درسٌ صعبٌ اسمه: “علا غبّور". أيها النبيل "طارق شوقي"، وزير التعليم المصري، علّمِ الأطفالَ في مدارس مصر، ذلك الدرسَ النبيل، حتى تخلق جيلا من الأنقياء، علّ من بينهم تخرج فارسةٌ وفارسٌ مثل تلك السيدة العظيمة التي أغلقت في وجه الموت قبورًا كانت تتهيأ لالتهام أجساد الأطفال النحيلة.
مدتَّ كفَّها في طمي الأرض، لتحفر حفرةً، وتغرس نبتةً. صارتِ النبتةُ برعمًا مرويًّا بنُسغِ قلبها. ثم صار البرعمُ شجرةً وارفةً، لا تشبهُها أيّةُ شجرةٍ في العالم الأخضر. العالمُ يصيرُ أخضرَ، حين يُلوّنه الصغارُ بالفرح. والصغارُ لا يفرحون إلا إن غادرَهم السقمُ المُرُّ وبرحَهمُ الوجع. الموجوعون لا يقدرون أن يُلوّنوا العالمَ. الأطفالُ لا يكون بوسعهم أن يمسكوا فرشاةَ اللون حتى يُلوّنوا العالم؛ إلا إن كانوا أصحّاء. نظرتِ الجميلةُ حولها، فوجدت الصغارَ موجوعين يصرخون. ينخرُ عظامَهم العوزُ والمرضُ. ينهشُ الشريرُ في الخلايا، فلا يترك الأجسادَ النحيلةَ إلا بعدما يخورُ القلبُ ويصمتُ الخفقُ وتُغمضُ العيون. مدّت الجميلةُ إصبعَها في لهب شمعة الحبّ، حتى أضاءت أصابعُها بالنور. ثم مسحت بتلك الكفّ المُشعّة بالوهج على رؤوس الأطفال المُتعبَة، وطبطبت على قلوب الأمهات المحزونات، وهي تنظرُ إلى السماء وتُصلّي. بعد حين، رقّتِ السماءُ إلى وجيبها، وراحت تمسحُ معها على رؤوس الصغار حتى مسّهم الفرحُ، وطابوا. السماءُ تُحبُّ الطيبين. لهذا أحبّتِ السماءُ تلك الفارسةَ الطيبةَ وجعلت نبتتَها تنمو برعمًا، فشجرةً خضراءَ أغصانُها مجدولة بالحب تحمل اسم: 57357. وصار الناسُ في بلادي طيبين. جاء الجميعُ ليروي معها تلك الشجرة ولو بقطرة ماء، أو قطرتين، حتى صارتِ الشجرةُ جنّةً رغداءَ من الأخضر، ففردوسًا شاسعًا من الجمال ومن الحب.
ليس أقسى من مشهد طفل موجوع لا يدًا طيبةً تمتدُّ لنجدته. وليس أقسى من مشهد أمٍّ فقيرة لا تملك قروشًا تُطعم بها طفلتها، فأنّى تملك حقّ الدواء والإشعاع والكيماوي ومعجزات الشفاء من شرير لا يرحم، هو أخطرُ ما عرفت البشريةُ من أمراض وويل! وليس أقسى من عالمٍ لا يفرح فيه الأطفالُ ولا يركضون بين حقوله ووديانه وعلى ضفاف أنهاره يُغنّون. لكن ثمّة نبيلةً من أزمنة الأساطير كانت تجول في طرقات بلادي تصنع خيرًا. نبيلةٌ اسمها "علا غبور" هي ليست من طينتنا، بل من طينة أميرات الحكايا وقدّيسات الإشراق الأقدس. لم تتحمل الطيبةُ تلك المشاهد القاسية، كما تحمّلها غيرُها. ذاب قلبُها رأفةً ووجدًا فمضت تقطفُ من زهور عمرها، لتمنح الصغارَ أعمارًا جديدة يكتبها اللهُ برحمته. وراحت تمسح عن عيون الأمهات دموعًا ثخينةً كادت تُطفئ النور والبصر، وتستبدل بها فرحًا؛ حين تمنحهنّ الرجاء في قيام أطفالهن من فُرُش الموات إلى حيث حدائق الحياة. لم تكتف الفارسةُ النبيلة بغرس الزهور وريّها، بل أمسكت بيد كلّ طفل لينزع زهرته الخاصة من مزهرية عنبر المرضى ويمضي بها إلى مدرسته ليتعلّم وينبغ. فهي قد تعلّمت الدرسَ في مدرسة "الأم تريزا" التي قالت إن الأطفال الموجوعين لا يعانون إلا من مرض خطير اسمه: "نقص الحب". أخطرُ الأمراض وأبشعها هو مرض غياب الحب. فإن أنت أطعمتَ عصفورًا دون أن تمنحَه الحُبَّ، فلا تنتظر أن يصدحَ العصفورُ بالشدو. وإن أنت ألقمتَ طفلا جائعًا كسرة خبزٍ دون أن تمنحه الحُبَّ، فلا تنتظر أن يشبع الطفلُ وينمو. وإن أنت داويتَ مريَضًا دون أن تمنحه الحبَّ مع رشفة الدواء، فلن يُشفى المريضُ ولن يبرح الفراشَ الأبيضَ إلا إلى القبر المعتم. لهذا، اعتصرتِ تلك الفارسةُ كل ما في قلبِها من حُبٍّ لكي تمنحه لآخر طفل فقير مريض من أبناء مستشفاها، حتى وهن قلبُها في الأرض ليُكمل خفقَه الأبديَّ في السماء، حين استقبلتها الملائكةُ بالشموع البيضاء كما يليق بعروس بهيّة منحت الحبَّ للمحرومين وأضاءت قلوب الحزانى بالفرح.
جاء حينٌ حزينٌ، وكان على تلك العصفورة الفارسة أن تتركنا وتعود إلى السماء، حيث تنتمي وحيث يليق بها المُقامُ. لكنها لم تصعد إلا بعدما تأكدت أن شجرتها الوارفةً ستجد مَن يحمي أخضرَها، ومَن يرعى عصافيرَها، ومن يروي نُسغَها. فلابد أن يكون العالمُ أخضرَ بفرشاة الأطفال والعصافير. نامي ملء جفونك أيتها النبيلةُ؛ فإن عصافيرك ستعرفُ طريقها للحياة، ولن يصمت شدوُها مادام القمحُ ينبتُ بين كفّيكِ.