قصة فاطمة



محمد مسافير
2017 / 9 / 17

تنتمي لأسرة غير متزمتة إطلاقا، فلباسها يبدو عصريا أكثر مما تسمح عنده حدود العرف، رغم ذلك، لم يسبق لها أن اتخذت خليلا، والأنكى من ذلك، أنها كانت من ذاك الصنف الذي يعتقد أن الإنجاب قد يأتي بالقبلة، هكذا كانت فعلا، ولهذا ربما، كانت تتحاشى الحب وتتجنبه...
كان يجاور مسكنها تلميذ يدرس في نفس مستواها، الأولى ثانوي تأهيلي، ورغم هذا التوافق الذي فرضته الصدف، إلا أنهما لم يتبادلا يوما الحديث، لم يكن في الأمر شيء عدا أنها كانت غير مهتمة، وكذلك كان...
ذات ليلة، أخذت إلى مسامعها الأقدار خبر قراره المفاجئ، لقد بلغها تصميمه على هجر الدراسة نهائيا، ولأنها كانت متفوقة كما يشهد على ذلك أقاربها ومعارفها، فقد آمنت بلاجدوى قراره، واعتقدت أن من واجبها الإنساني تحميله على العدول عن قراره... أصابها الأرق ليلتئذ، كانت تحاول انتقاء الكلمات المناسبة، تراجعها، تحاول حفظها، ثم تعيد تسلسلها مرات عديدة...
إنها المرة الأولى التي تتحدث فيها إلى شخص لا ينتمي إلى أقاربها أو إلى مجموعة الفصل، ولهذا السبب بالذات ما يبرر ترددها وخوفها مما ستقدم عليه... اقتربت منه، استأذنته في الحديث، رحب بها، انشرحت أساريرها، ثم انفرجت عقدة لسانها، فحذرته من التهور في اتخاذ القرار، وأوصته بالاصطبار، والتركيز في الدراسة دون سواها...
وفعلا... نجحت في إقناعه، فإطلالتها البهية كانت أعظم حجة، سعد كثيرا بمبادرتها وأعجب بروحها وكلماتها وربما بكل شيء فيها، دون أن يصارحها بشيء مما خالجه، ولم تكن هي الأخرى أقل إعجابا به، والأرق الذي أصابها ليلتها لا يمكنه إلا أن يبرر انبهارها به... استمرت علاقتهما حتى انقضت ثلاث سنوات، كانا خلالها يغرقان في وحل الحب دون أن يدركا عواقبه، كان يبتلعهما دون رحمة، وفي صمت قاتل ينهش قلبيها دون أن يقدرا على البوح، ودون أن يعلما سبب العجز...
كانت تقدم له يد العون وقتما استطاعت، تمده بالدروس والطاقة عبر التحفيز، لكن لم يسبق لهما أن التقيا خارج أوقات الدراسة، أو في طريق غير المؤدي إلى الثانوية، كانت علاقتهما مغلفة ببراءة باطنها ملتهب بالبراكين...
يوم الإعلان عن نتائج الباكلوريا، انتظرا سويا الإفراج عنها أمام باب المؤسسة، انتظرا وكل منهما يُسر في نفسه الخوف مما قد تولده النتائج من احتمالات الفراق أو اللمة...
ذهلتْ كثيرا حينما وجدت اسمها في لائحة الناجحين دون أن تعثر على اسمه هو، قلبت عيناها مرات ومرات، والدمع ينطلق من عينيها دون روية، كانت أول مرة تحس فيها بمرارة النجاح، أخذها من يدها بعيدا عن الجموع، جلسا إلى مقعد عمومي ويديه تمسحان الدمع من وجنتيها، وهو يقول دون مقدمات:
- أحبك...
استقبلتها كصاعقة في الظلماء، كاد قلبها ينفجر من سرعة الخفقان، سعادة تخطفها بقسوة من غياهب الغم، بماذا ستجيبه:
- ماذا؟
- أريدك زوجة...
اشتد قلبها خفقانا، شفتاها ترتعشان، أحست بشيء دافئ غريب، استسلم جسمها لبعض العرق:
- ومن سيصرف علينا؟
- أبي...
أحست ببعض الفتور...
- لكن... لن أقبل أبدا بذلك، إنك تشعرني بالحطة والوضاعة !
- إذن، سوف أبحث عن عمل...
هكذا اتفقا على الخطبة بعد أن يجد عملا...
التحقت فاطمة بالجامعة، واستطاع بفضل بعض من معارف أبيه إصابة عمل بإحدى الشركات الصغرى، استمرت علاقتهما عبر رسائل ورقية، لم يكن الهاتف وقتها، ثم طفقا يخطان أحلامهما على الورق بشبق وشوق بليغين..
تقدم لخطبتها بعد أن استنفذ العام من العمل، لكنه أجل موعد الزواج إلى حين، حيث لم يكن مدخوله الشهري يسمح له بمثل ذاك الرباط..
خلال دراستها بالجامعة، كانت تصاحب إحدى بنات بلدتها، وزميلان آخران كانا من الأصدقاء المقربين لخطيبها، كانت علاقة الأربعة رائعة وبريئة، كما كان خطيبها يثق في صديقيه ثقة عمياء صماء...
في أحد أيام شهر رمضان، استدعى الصديقان صديقتيهما إلى الفطور بالشقة التي يكتريانها... وبحسن نية، وكذلك نتيجة إصرار الصديقان، لم تجد الفتاتان منفذا إلى رد الدعوة، فانصاعتا لأمرهما، وتناولا وجبة الفطور جماعة...
خرج أحدهما على حين غفلة، ثم اشترى وجبة العشاء، ليجعل منها ذريعة لإرغام الفتاتين على البقاء، توسلا كثيرا وطمأنوهما قدر المتاح، خافت فاطمة من ردة فعل خطيبها، لم يكن أخذ رأيه من اليسر الذي يتيحه الهاتف اليوم، ولم يكن بإمكانها رد الدعوة، كانت بين المطرقة والسندان، في حين، لم تكن صديقتها تبدي نوعا من الاعتراض الصادق، بل كانت في الغالب تطمئنها، استسلمت للأمر الواقع، تناولوا وجبة العشاء متأخرين إلى ما بعد منتصف الليل، ثم بدآ في الاعتذار عن التأخير وتبرير المبيت، لأنه لا مجال لمبارحة الشقة في ذاك الوقت...
لم يطيلا الحديث هذه المرة، أخذ أحدهما صديقتها برفق إلى إحدى الغرف، ثم رافقها الآخر ببعض الإلحاح إلى الغرفة المجاورة، سلمها الأغطية، ثم غادرها دون أن يغلق خلفها الباب، فالغرفة أصلا كانت دون باب، أطفأ النور، ثم تركها لحالها بعض الوقت، قبل أن تحس بيد تنسل إلى جسمها المرتعد من الخوف، حاولت ثنيه عن ذلك، لكنه أصر، ذكرته بكونها خطيبة صديقه وأنهما في شهر رمضان، طمأنها أن لا أحد سيخبر صديقه وأنهما سيغتسلان قبل الآذان، لم تقتنع بكلامه، تدافعا وتعاركا طويلا، إلى أن سمعا آذان الفجر، وكي تنتقم منه، ولسذاجتها المفرطة، بدأت تتقرب إليه، ويقابلها بتصنع النفور، أخذت تشده إليه، تغويه كيفما استطاعت، تدعك قضيبه، تقبله رغما عنها، حتى قضى وتره، ثم صرخت في وجهه بقسوة:
- الآن انظر ما أنت فاعله، صم ستين يوما أو اطعم ستين مسكينا !
ظنت المسكينة أنها أحسنت الانتقام، أخبرت خطيبها بالقصة أملا في التفهم، ووشاية بمن يعتقده محل ثقة، لكنه صدمها بالرد:
- إذن فقد دفعت ثمن الفطور والعشاء بالرذيلة..
كانت تنتظر منه الإشفاق والمواساة، لكن رده خان توقعاتها، انقطع عنها طويلا، وكذلك كفت عن مراسلته زمنا، حتى جاءها ذات يوم يسألها:
- سأسامحك... لكن شرط أن تتحجبي !
- وأنا لن أقبل شرطك، ألتمس منك حبا غير مشروط بعُقد، أريد حبا صافيا يتقبلني على حالي...
- مممممم أوكي، يمكنني أن أقبلك كيفما أنت، لكن ليس في كنف هذا المجتمع، إنه مجتمع قاس لا يعرف الرحمة، سأعمل على إعداد الترتيبات اللازمة لمغادرة البلاد، سوف أغادره من أجل أن يستمر حبنا...
- وذاك أيضا شرط لن أتقبله... لن أهجر وطني أبدا، لأني إنسانة واعية ومثقفة، وبلادنا في أمس الحاجة إلينا...
لم يأخذ اعتراضها الثاني على محمل الجد، عادت أمورهما إلى سابق العهد، يتراسلان، يخطان الأحلام، يذكرها بحلمه بالهجرة، ويعدها بالرجوع إلى موطنهما في سيارة حمراء جميلة، وأبناؤهما يشاغبون في الخلف ويؤنسون طريقهما...
كانت علاقتهما رغم كل شيء، مضرب المثل في الحارة، فحرارة حبهما لسعت كل من في الحارة، كانا لا يفارقان مطرحا إلا وأحرقتهما دموع الشوق والرغبة..
غادر البلاد نحو بلجيكا دون أن يكفا عن تبادل الرسائل، كان ينوي أخذها معه حال أن يستقر وجوده القانوني هناك، لكنها كانت متمسكة بموقفها، فظلت تذيل كل رسائلها بعبارة أقرفته: "عد إلى وطنك، فهو محتاج إلى أمثالك"
حتى بلغ به الغضب مبلغا ذات رسالة، فحذرها من تكرار العبارة، وأنه لن يعاود المراسلة إن هي تمادت في ذكرها، استقبلت رسلته بغضب، ثم قابلته بأخرى غاضبة ذيلتها بعبارة: تُفٍّ على من باع وطنه بالرخيص...
ثارت حفيظته، أحس بالإهانة، قاطعها... لكن قطيعة هذه المرة، كانت أبدية، لم تراسله ولم يراسلها أبدا، أحست بضجر شديد وغم عميق، أصابها العصاب سنينا، حاولت نسيانه بنسج علاقات حميمية عابرة ومتعددة، ساعدتها قليلا في التخفيف والترويح عن النفس.. لكنها لم تساعدها كثيرا في النسيان...
بعد خمس سنوات، وذات صباح، غادرت فاطمة البيت إلى البقال كي تجلب الفطور، وهناك فوجئت بخطيبها متسمرا مذهولا كحالها، لكنها سرعان ما غابت وعيا، بدأت تسمع بعض الكلمات التي تنادي بإحضار الماء لإغاثتها، وحينما فتحت عينيها وجدت نفسها في غرفة نومها... أدركت فيما بعد أن خطيبها السابق من استقدمها إلى البيت، وأنه قد عاد بسيارة حمراء جميلة، لكن رفقة زوجة وابنان...
الآن، أصبحت فاطمة في الخامسة والأربعين من عمرها، ولا تزال تعيد قصة حبها دون أن تستطيع منع دموعها من الانسياب !