العيب والاحتشام في كتابات المرأة



بشرى ناصر
2006 / 4 / 11

تثير الجرأة في (الكتابة) وفي الفن عموما عند المرأة داخل الوطن العربي جدلا كثيرا ومواقف متباينة، بين مؤيدة ومعارضة..ويزعم بعض النقاد أن جرأة الكتابة لدى المرأة هي نوع من لفت الانتباه وتسليط الضوء على الشخصية المبدعة ونوع من الإغراء الذي تمارسه المرأة منذ أزمنة خلت. هي عملية أنثوية تستهدف الجذب بما تمتلكه المرأة من سلطة إغراء كسلطة(أزليةوحيدة( فما المقصود إذن من جرأة الكتابة وكتابة الجرأة
يبدو أن الجرأة هنا هي أن يقتحم القلم المناطق المحرمة والمواضيع التي ظلت دائما تنتمي إلى مجال المحرموما نطلق عليه (المسكوت عنه) (زنا المحارم، الجنسية المثلية، الاستمناء) والتحدث عن علاقات تعد في قائمة التابو، وهو ما يسمى بالأدب المكشوف، أي الأدب الذي يترك جسد النص ينفتح على أكثر اللحظات حميمية وارتباطا بالجسد دون أن تخرس صوته، لتصبح الانفعالات عبارة عن كلمات وصور، ويحتفي التصوير الحسي بالتفاصيل التي تكون أكثر عفوية والتحاما بنسيج النص دون مواربة أو استحياء أو استهجان بفعل هو في صميم السلوك الإنساني.
فما الذي يمنع إذن الأدب من أن يتطرق إلى مواضيع العهارة والجنس ؟ وماهي وظيفة الأدب والفن إذا لم يفتح الأبواب المغلقة، واقتصر على دخول الأبواب المفتوحة ؟ وماذا ينفلت من ممارسة الأدب إذا لم يكسر الحواجز ويخترق جدران الصمت ؟؟؟
واذا كنت اشتغل في الكتابة منذ ما لا يقل عن الربع قرن ... مكنتني من القراءة أكثر مما أكتب أضعاف المرات ؛ وجعلتني أكثر إيماناً من ذي قبل بأن الإبداع : صناعة الشعوب الحرة ومع ذلك ... ورغم يقيني أن الكتابة بالنسبة لصاحبها هي أفضل وسيلة ليس لخلق (جمهورية) فقط بل لتضعك في مواجهة صارمة مع نفسك ...وكأحسن ما تكون المواجهة ؛ وكإمرأة حاولت قليلاً اقتحام (المسكوت عنه) هل تعرفون النتيجة ؟
لقد تعاطف الذكور معي واكتسبت عدداً أكبر من القراء بينما نعتتني النساء بالجرأة واحياناً (قلة الأدب) ... فكيف أربط الأدب بقلة الأدب ؟
وهل استطعت فعلاً ككاتبة قطرية الخروج عن الخطوط الحمراء وإطلاق شجون النساء دون خوف أو خجل ؟
أليست مشكلات المرأة مشكلتي أيضاً ؟ أوليست برودة وخواء وسائد من فاتهن قطار الزواج قضيتي ؟ الا يوجعني استلام امرأة ما شهادة طلاقها عبر (مسج بالموبايل) كما يوجعها هي ؟
كيف لامرأة تتعذب بالمخاض والولادة كل هذا العذاب ليكافأها الرجل بالطلاق لأنها خيبت أمله وأنجبت له بنتاً أخرى بدل الولد ؟ لماذا تتحدث النساء في مجالسهن عن خوفهن اليوم على (الولد) أكثر من الخوف على البنت ويصرحن بأن الخوف من حوادث السيارات ومخالطة رفاق السوء ... ويضمرن في أنفسهن الخوف الأكبر ولا يعترفن به ؟
أعرف أن المهمة صعبة ... أن نتطرق نحن النساء للمسكوت عنه (بالتفصيل) ؛فالتقاليد والعادات تكاد تكون (سلطة) أقوى وأشرس من سلطة القانون تلك المتحكمة بنا والتي تصنفنا كائنات من الدرجة الثانية ؛ واذا كنت لا أجد تحرجاً من الاعتراف أنني كغيري من النساء أكتب بصوت ضعيف وخائف؛ وأشعر بالأغلال والقيود تكبلني كل لحظة ؛ قيود الخوف والخجل مع أننا بدأنا فعل الإبداع هنا في قطر في نفس التوقيت الذي بدأ به الرجل ؛ يحسن بي هنا تعريف(خطاب المرأة) :هو أفكارها التي تطرحها في بنية نصية أو سردية ؛ولأنه يقوم على محاولة لاكتشاف هوية المرأة وخروج (الأنا) التي لا تنجلي وتتوضح الا بتعرفها بالآخر وتوصيلها له؛ والحديث عن خطاب المرأة أو نقده ودراسته لا تتم بمعزل عن المنظومة الثقافية / منظومة الخطاب نفسه على اعتبار أن خطاب المرأة مشروعاً أيدلوجياً يفترض به أن يوازي إبداع الذكورة ولا يقل عنه ويرفض أن يكون تابعاً له أو ملحقاً به ؛فهل استطاعت المرأة في مسيرتها الإبداعية تحقيق نقلة نوعية تمكنها من الإفصاح عن (الأنوثة) ؟ لتخلق بذلك معادلاً موضوعياً لإفصاح الذكورة في إبداع الرجل ؟ ذلك الخطاب الذي ظل غائباً ويحاول التعويض عما فاته من زمن؟هل يستطيع مجاراة الخطاب النقدي الذي يصر على (الوصاية الأبوية)ويشكله المحافظون والإصلاحيون والمتنورون ودعاة المجتمع المدني ودعاة تحرير المرأة ويكاد يكون الخطاب النقدي بمجمله مفتقراً للموضوعية والجدية ...والأهم من هذا كله كيف تنتج المرأة خطاباً حداثوياً فاعلاًًً في ظل القمع اليومي المتربص بالفرد العربي (عموماً) ويطاله بالتكفيروالتفريق عن الزوجة ؟
كيف تصبح المبدعة حرة والمجتمعات خائفة ؟ نخاف من الأجنبي ونخاف الديمقراطية ونتربص بها ونخاف الفكر الحر ونخاف من الماضي (المقدس) ونخاف الحاضر ونخاف جداً من (ذوي العمائم) ؟فمجتمعاتنا لا تكتفي بتهميش وإقصاء النساء فقط وتستفرغ علينا عبر وسائل إعلامها ليل نهار أن المرأة نصف المجتمع بل وتتعمد التعتيم وحجب حتى أسماء النساء وليس أجسادهن فقط ؛ فوضع المرأة عندنا معقداً أشد تعقييد لدرجة أننا نقع في التباس كبير بين (حقوق المرأة) وبين(احترام المرأة) بمعنى أن مجتمعاتنا تنظر لمن لم ينلن حقوقهن أسوة بالرجال بنظرة احترام وتقدير بينما لا تنال المطالبة بالمساواة الاحترام الكافي ... ولا تزال مجتمعاتنا تنتج قناعة مشتركة بين الذكور والإناث أن النساء للمنزل والرجال للعمل ؛ فالوصاية الأبوية قائمة وغير قابلة للزحزحة ؛ اسألوا العاملة العربية هل يساعدها زوجها في شؤون المنزل وتدريس الأولاد؟ فالقبول بعمل النساء لم يخلق تغييراً راديكالياً للأدوار؛ ولذا نسمع يومياً صيغاً على شاكلة : المجتمعات (تسمح) و(تمنح) و(تقبل) بمشاركة المرأة وليس باعتباره حقاً طبيعياً وأن النساء يشكلن فعلا نصف المجتعات .
فخطاب المواطن العربي يكاد يكون بمجمله خطاباً خائفاً غير حر؛ لأن الذات العربية تفضل الاختباء خلف ضمير الجماعة أو الضمير المجهول وتخاف الإفصاح حتى في الكتابة والأدب ولذا لا يزدهر أدب السيرة الذاتية في عالمنا العربي باستثناء بعض التجارب القليلة ؛فالشخصية العربية مطاردة تتغذى على الخوف وتلتحف (المبادئ الجميلة) هذا على العموم؛ فكيف بالنساء المحملات منذ بدء التاريخ بالخطأ والخطيئة ؟
والسلطة الأبوية تمتد لتشمل كل شئ ولتنتهي عند مفهوم (الأمة) ولذا ترى النساء عندنا يعشن تحت وطأة(التأثيم) ؛ ناهيك طبعاً عن المتغير السياسي والاقتصادي الذي يطبع بصماته مباشرة على وضعية النساء من خلال برمجة المجتمعات لحضور النساء بين حجب الجسد أو كشفه تبعاً لتأثير المتغير على التقاليد الاجتماعية أورد هنا مثال (الثورة الإيرانية) وهكذا تظل الظروف ضد النساء وحتى تمضي اللعبة على أتم وجه يتم ضخ الآف الحجج والبراهين التي تؤكد أن المرأة (عورة) و(جوهرة مصونة) و(درة ثمينة) فهي تضطر للخروج من منزلها لتعمل ولتشارك الرجل تبعات الحياة ومحاربة العوز والحاجة لخلق ظروف اقتصادية أفضل لكنها مقيدة بالحجب فقد تم تحريرها من (المنزل) تحريراً نفعياً استغلالياً ولذا يصبح مشروطاً بعدم الاختلاط أو مشروطاً بالحجاب والنقاب ومشروطاً بعدم التزاحم والمواجهة مع الذكور.
فهل نستطيع نحن المتهمات بالشجاعة والحرية رفع أصواتنا والمطالبة بتوفير إرادة سياسية قوية تؤثر على تفعيل وتعزيز القضايا الحاسمة فيما يخص النساء؛ ونطالب بإدخال تحسينات على النظام التشريعي وإصلاح القوانين التي تميز ضد النساء ؟
فالالتباس في قضية المرأة ينعكس على الواقع ليخلف التباسا ثقافيا مما يدعونا للسؤال : هل يحمل خطاب المرأة في قطر دلالة ما ..... وهل يمتلك خصوصية ؟ اذا كان خطاب المرأة العربية لا يزال عاجزاً وخائفاً ومتردداً ومغلفاً بالكبت ؛ فكيف نتعجب من النساء القطريات حينما ينتجن خطاباً مستسلماً عنصرياً خائفاً لا يقترب من المحظورات ولا يطال الثوابت بل تكاد أصواتهن لا تنفصل عن أصوات المجتمع وكثيراً ما يصبحن صوت المجتمع لأنهن يخفن الخروج قيد شعرة عن النمط الاجتماعي المرسوم ؛مع أن الكتابة هي وعاء الأدب وهي انفصال عن الأنا وارتماء بين أيدي المتلقي، والنص المكتوب هو امتداد (وجودي) للذات الكاتبة، ومع أن الكتابة هي أيضا أن تتجول عاريا بزهو وخيلاء وكبرياء في شوارع الإبداع وتمارس الفضيحة في وضح النهار، هي صرخة معلنة عن مكبوتات النفس واحتباس وجعها ؛ إذن أن تتحدث المرأة في أدبها بلغة الجسد، يعني أنها تدوس الألغام وتفتح حوارا متواصلا مع الحياة، مع الحب، مع الآخر من خلال تجارب ذاتها الأنثوية، هذه الذات المنصتة المتحدثة بجسدها عدة لغات، ليست اللغة التي تحول الجسد موضوعا للرغبة في إطار الاستغلال والاستهلاك الذكوري، وفي ظل نظام لا يسمح إلا بمتعة الرجل وتجاهلها عند المرأة؛ لهذا تحاول أن تختلق لغة مختلفة لجسد راغب ومرغوب، جسد نابذ ومنبوذ، جسد في كل توتراته الرغبوية، لترسم المرأة صورة ليست كما هي عليها في الواقع، ولكن كما تريد أن يراها الآخر، تلك الصورة التي تسعى دائما إلى تغييرها ووضعها في حجمها الذي يجب أن تكون عليه، الجسد حين ينعكس في مرآة الكتابة عند المرأة يغدو جسدا آخر مغايرا، ذلك الجسد الذي تعيد تشكيل جغرافيته، تميته وتعيد إحياءه في صورة أخرى تنطق خطابا يمارس سلطة فعلية في وعي الآخر. تحاول دائما تفكيك النظام الرمزي الذكوري لتقاوم كل الأشكال والمفاهيم التي تضعها في خانة ولا تفارقها، هي الخانة التي نحتها منطق الرجل عبر التاريخ.... ودعوني أختتم بأن التواصل حين ينعدم بين المرأة والرجل تصبح الكتابة أداة فعالة وضرورية ؛ونحن علاقتنا بالرجل ليست صحيحة ولا معافاة فهل تتمكن الكاتبات ... أو أتمكن (أنا شخصياً) يوماً من تجاوز خجلنا ومخاوفنا لننتج أدباً حقيقياً دون زيف أو (نقاب) يصل لدرجة (الوقاحة) إذا شاءوا أن يسمونها ؟
وهل تلك الوقاحة بدورها تقوم على خلخلة الواقع المتخلف ؟ وإذا كانت الكتابة (فعل مقاومة) والأدب هو الجرأة والمشاكسة ونبش المسكوت عنه من أجل التغيير والتطوير فهل لنا نحن النساء القطريات القدرة على التنازل بسهولة عن الميراث الكبير الذي حقنونا به منذ الطفولة من تعاليم ووصايا ؟ وكيف نتخلص من سيطرة ورقابة (الأنا) القوية بداخلنا ؟