ألمرأة الصخرية



حسن أحمد عمر
2006 / 4 / 16

مذهول أنا من هؤلاء النسوة العاملات المكافحات ليل نهار كأنهن قد خُلقن من حديد برغم كلّ ما يحملونه من أجنة فى بطونهن إذا كنّ حوامل أو أطفال على اكتافهن إذا كنّ مرضعات ولكنهنّ مع ذلك يأتين بأعمال كالمعجزات ويُنجزن أشياءا خارقات فى بيئات قلت فيها التكنولوجيا ولم يزل شبح الفقر والجهل يسكن معظم الأماكن ومما لا شك فيه أننى أقصد هنا ذلك النوع من النساء اللواتى لم ينلن قسطأ من التعليم وليس لديهن أى ثقافة تذكر غير ما اكتسبنه من الأهل والناس والبيئة والحياة وظروف المعيشة من شظف أحيانأ كثيرة ويُسر فى قليل من الأحيان .
تستيقظ الواحدة منهن قبل طلوع الشمس ولا تكف عن الأعمال إلا بعد غروبها كأنها آلة حديدية ذات تروس وأعمدة وسيور وكأنها ميكنة تصنع إكسير الحياة لزوجها وأبنائها وبناتها ولنفسها وفى معظم الظروف لوالدىّ زوجها أيضأ , تقوم على خدمتهم جميعأ تبدأ حياتها اليومية بنظافة البيت وما حوله حتى الشارع ثم تتجه لحلب الماشية وعلفها حتى تفطر ثم تتجه لطيورها فتجمعهم حولها فى شكل رائع كأنها أنجبتهم ولقد تعودوا أن يديها تبذران لهم الحبوب وبصوت معين يخرج من فمها تأتى الطيور بسرعة فائقة ويتجمعون حولها فيأكلون ويشربون ويلعبون , أمّا البقرة والجاموسة فهذه حكاية أخرى لقد تعودوا عليها وصاروا أصدقاءها فإذا سمعوا صوتها رقصوا فرحأ واهتزت ذيولهم ورؤسهم بهجة و تعبيرأ عن السعادة الغامرة لأن معنى قدومها نحوهم يحمل معه خبر إحضار المزيد من البرسيم أو التبن المخلوط بالفول أو بالذرة الصفراء حتى تتمكن من حلب ألبانهم بسهولة دون مشاكل الرفس أو كثرة الحركة حيث ينهمكون فى إلتهام الطعام ثم تُسعفهم بشُربة ماء تروى ظمأهم بعد هذا الإفطار الدّسم .
وعندئذ يكون زوجها قد إستيقظ من نومه حيث يؤدى شعائر دينه ثم يرتدى ملابس الحقل ويصطحب بهائمه ويمتطى حماره ويغدو إلى غيطه ويقوم بواجباته ولا يعود إلا بعد غروب الشمس فيغتسل ويجلس فى هدوء ويتعشى ثم يمكث قليلأ من الوقت ثم ينام , أمّا هى فإنها تظل كالديدبان فبعد خروج زوجها إلى حقله تبدأ فى إيقاظ أبنائها الذين هم فرحة عمرها لكى يستعدوا للذهاب إلى مدارسهم ألتى تعتبر بمثابة حُلم جميل رائع لها ولزوجها حيث حُرموا بسبب الفقر من هذه المدارس ويريدون رؤية أبنائهم وبناتهم متعلمين وحاصلين على شهادات وأصبحوا أفندية قدّ الدنيا .
يفطر الأولاد ويلبسون زى المدارس ثم يحمل كل منهم حقيبته ويرحل إلى المدرسة ولأن المدرسة توجد فى القرية الأم فإن على الأبناء المسير على الأقدام حوالى ثلاثة كيلومترات فى الذهاب ومثلهم فى الإياب حتى يتمكنوا من حضور دروسهم , وبعد ذهابهم تنشغل الأم بغسيل ملابسهم والحمد لله فإن لديها الآن غسالة كهربائية بعد دخول الكهرباء العزبة منذ عامين وعندما تنتهى من الغسيل تبدأ فى عملية تجهيز لقمة الغداء التى تستغرق منها ثلاث ساعات على الأقل حتى يعود الأولاد فيتناولون طعام الغداء أما هى فبعد إطعام أولادها تأخذ طعام زوجها وطعامها وتذهب إلى الحقل فيأكلان معأ ويشربان الشاى ثم تستودعه الله تعالى وتعود إلى بيتها لتكمل رحلة العمل اليومى المكرر بلا ملل او كلل.
لماذا أعرض هذه القصة المعروفة لدى معظم الناس ؟؟؟؟
لأن هذه السيدة المكافحة التى تبذل الغالى والنفيس من أجل سعادة أسرتها وزوجها ومن أجل أن تحيط بذراعيها حول بيتها فتحميه من أى سوء أو ضرر قد يلحق به , هى نفسها التى دمّرها الجهل وحطم إنسانيتها وجعلها تأنى تصرفات يرفضها الضمير الحى والعقل السليم فهى نفسها التى طلبت منى ان أختن طفلتيها فى سن الثانية عشرة والثالثة عشرة من عمريهما وعندما حاولت إقناعها بسوء هذا التصرف والآثار النفسية والبدنية ألتى تسببها عملية الختان المروعة لم تعبأ بى ولم تلتفت لنصائحى وصاحت فى وجهى وغضبت منى غضبأ شديدأ وذهبت بهما لآخر ( طبيب للأسف) قام بختانهما ضاربأ عرض الحائط بكل شىء من أجل الحصول على المعلوم المادى وحجته فى ذلك أنها ستذهب بهما لغيره وستعمل لهما الختان حتى لو وقف العالم كله فى وجهها فأىّ عقول هذه وأى تحجّر ؟ أليس هناك من مخرج من هذا المأزق الخطير ألذى توضع فيه الطفلة المسكينة فى عمر الزهور وتخوض به تجربة من أخطر التجارب التى تواجهها فى عمرها وتُنقش على عقلها بحروف من دم وصفحة حزن لا تنجلى مهما طال بها العمر ومر عليها الزمان.
لن أنسى تلك الليلة السوداء عندما عادت بهما من المدينة وقد خُتنتا وفى منتصف الليل دقّ باب بيتى بعنف شديد وقمت مفزوعأ فوجدت نفس السيدة المسكينة ومعها إحدى الطفلتين تنزف من موضع الختان وعلا صوتى فى وجهها مع بالغ حُزنى وأسفى لما تعانيه الطفلة المسكينة ولم يكن بد من تخديرها موضعيأ بسرعة وتطهير الجُرح النازف وخياطة هذا المكان الحسّاس ثلاث غرز حتى توقف النزيف وكتبت لها ما يلزم من علاج وتركونى شاكرين وأنا منهم غاضب وعلى الطفلة المسكينة حزين .
الأغرب من ذلك أن نفس الطفلتين بعد ثلاثة أعوام من ختانهنّ وقد كانت أجسامهن ممتلئة قد تقدّم لهن شابّان ممّن يعملون بالخارج وخاف الأب الفقير والأم المسكينة من ضياع هذه الفرصة من أيديهما – فرصة العريسين — فحضروا لى كالعادة وطلبوا منى تسنين الطفلتين حتى تصبحا مناسبتين للزواج قانونيأ – سن 16 سنة --- ولكننى رفضت بشدّة وقلت هذه جريمة أخرى ترتكبونها فى حق الفتاتتن للمرة الثانية , ورحت أشرح لهما مخاطر الزواج المبكر وما ينجم عنه من آثار وخيمة على حياة البنت وحياة طفلها لو حملت مبكرا وأنها قد تتعرض لنزيف فى الولادة بسبب عدم النمو الكامل للرحم ليصبح مناسبأ للحمل ولكن هيهات فلا حياة لمن تنادى فالفكرة قد أكلت عقولهم وسيطرت على حياتهم وقلت لهم يا جماعة حرام عليكم والله العظيم أتركوهما فى التعليم حتى يتخرجا ويبلغا أشدهما ويفهما معنى الحياة الزوجية وعرفت منهم ان العريسين لقطة— بضم اللام أى فرصة لا تُعوّض--- وأنهم لن يضيّعوها حتى لا تبور الفتاتان – أى تتعنسّا—وتركونى طبعأ متجهين إلى زميلى ألمثالى صاحب القلب الطيب والذى يحبه الناس كلهم ويقبلون عليه ولا تخلو عيادته من المرضى – اللهم لا حسد — فقام فورأ بعمل التسنين المطلوب وأعطى الطفلتين أعمارأ تزيد عن اعمارهن بأربعة سنوات وذهبوا بالشهادة لمأذون البلد الذى كتب الكتاب وعلّى الجواب وملأت الزغاريد القرية وكأنهم يغيظوننى ويقولون ( طز فيك لقد وجدنا من هو أحسن منك وعمل لنا ما نريد)
تزوجت الطفلتان من مراهقين أعمارهما تتراوح بين 20—23سنة وهى أعمار لو تعلمون صغيرة جدأ على الزواج وأعبائه وإرهاصاته ومشاكله الكثيرة وحاجاته التى لا تنتهى , وحيث يسيطر الجهل على النفوس وتتحكم السفاهة فى الإنسان فإنه لا يقدّر الأمور حق تقديرها ولا يفقه الأشياء بقدر ما تستحق فها هى أحدى الفتاتين تموت بنزيف حاد أثناء الولادة على يد الداية – المولدة – والتى سكتت عن الإستعانة بالطبيب خوفأ على سمعتها حتى نزفت الطفلة الأم معظم دمائها ولما همُّوا بالذهاب بها للمستشفى فارقت الحياة فى الإستقبال , اما أختها الصغيرة فلم تنجب لمدة الأعوام الثلاثة الأولى فطلقها زوجها بتحريض من أمه التى زوّجته فورأ بغيرها وعادت الطفلة إلى بيت أبيها حتى تصبح فى عداد المطلقات اللاتى يتزوجن بصعوبة بالغة إلا إذا كانت غنية ولديها مال وفير أو عقارات أو ظيفة ثابتة وهذا هو المستحيل فهم فقراء والمال بالنسبة لهم أصعب من الحصول على لبن العصفور
هذه المآسى عاصرتها بنفسى وما خفى كان أعظم
ارجو ألا اكون قد أزعجتكم
والسلام