لم تخلق المرأة من ضلع رجل



ربيحة الرفاعي
2019 / 1 / 14

منذ أساطير الشرق وربما قبلها، منذ تعلم الإنسان تدوين فكره وحكاياته؛ وجد الفكر الذكوري قواعد له في مقومات وعي ووجدان الناس، عبر ما غرس في أذهانهم من حكايات دينية حبكت لتوجيه الوعي الجمعي للانتقاص من قدر المرأة، وخلق الكراهية والإدانة نحوها، في نصوص كان الأصل فيها أنها وضعت ملاذا للإنسان من رعب الحياة التي يجهل كنهها ويخشى ظواهرها، وصلة مع قوى علويّة خارقة تحكم تلك الظواهر وتحميه منها، لكنها وظّفت بدلا من ذلك في خدمة سلطة رأس المال التي ربما أزعجها ما تمر به المرأة من ظروف صحية -كالحمل والنفاس والحيض- تعيقها عن العمل الصعب في زمن البدائي، ووجدت مصلحتها أكثر تحققا في تقييدها بالمهام الخدميّة، فاشتغل سدنة المعابد في تشريب النصوص الدينية بما يخدم ذلك التوجّه، وجاءت الأساطير محمّلة بما يصنع للمرأة قوالب تحدد مساراتها وتفرض تبعيّتها بذرائع دينية لا تناقش، ابتداءا من خلقها المتأخر ودورها الشرير، فزعمت الأسطورة السومرية خلق "نن تي" من ضلع سيّدها إنكي لتخدمه وتمرّضه، وزعمت الأسطورة الإغريقية خلق "باندورا" عقوبة من زيوس للبشر (الذين كانوا ذكورا فقط) ولخالقهم بروميثيوس، وتحدّثت أسطورة جلجامش عن هرب ليليث شيطانة العواصف بطشه، وقد عرفت ليليث لدى السومريين باسم ليليتو وهي إحدى آلهة الشر الثلاث في الأسطورة السومرية، ويرجع اسمها إلى الأصل ليل وتعني كيان ليلي أنثوي وغير ذلك كثير.
وفرضت أنثولوجيا الخلق في الأساطير سطوة هذه النظرة الدونيّة للمرأة على البشرية لاحقا؛ بما تسلل منها للآيديولوجيات التالية فالتالية حتى العقائد والديانات الوضعية والسماوية المعاصرة، موقعا على المرأة مظلمة ما زالت تعيد انتاج ذاتها منذ عصور ما قبل التاريخ، فذيُّلت للرجل في خَلقها، وذيّلت في دورها، وعذّبت وهُمّشت وأذلّت حتى عقدت المجامع لمناقشة صحة اعتبارها إنسانا. ولأن لتلك النصوص قداسة مستمدّة من رهبة الذوات المعبودة المرتبطة بها، تتحكم من خلالها بوجدان الإنسان فيتبناها ويرهن لها نفسه وفكره، مكرسا سلطةً لها عليه يستمرئ بها الخضوع لها في شعوري دينيّ استسلامي لا يسمح بمراجعتها، ولأن المرأة من الناس، فقد تسلل ذلك الفكر الذكوري لعقلها، فانضوت راضية تحت لواء استلابه إنسانيتها؛ مؤمنة بدونيّتها، راضخة لامتهانها، خاضعة للرجل أباً وزوجا، تُكره على ما يريد في كل أمرها مستسلمة لتشييئها لتكون من ممتلكات الرجل وأدواته، مسلّعة لا تزيد في نظر المجتمع والأسرة عن المتاع، حتى أن الزوجة كانت تباع وتشترى بشكل قانوني في بعض المجتمعات كبريطانيا مثلا والتي ألغى قانون بيع الزوجات فيها عام 1805 بصدور قانون يمنع بيع الزوجات أو التنازل عنهن، وما زالت النساء تباع في كثير من المجتمعات حتى اليوم تحت عناوين محميّة قانونيا، وليس أدلّ على ذلك من زواج القاصرات في عدد من البلدان العربية.
وما كان تسلل الفكر الأسطوري للوعي البشري اليوم ليكون لو لم تتورط الآيديولوجيات التالية في كل مرّة بتلك الأساطير تقبّلا واستنساخا، حيث يتأثر فهم وتفسير الآيديولوجيات القائمة دائما وبقوّة بفكر القائمين عليه، وبالثقافة الجمعية التي ينمو فكرهم في إطارها، فيستنسخونها في النص الموضوع أو في تفسير النص المنزّل، بما يستدعى بالضرورة إعادة قراءة تربك بشكل ما نمطية القراءة والتفسير، التي اهتدت في سيرورتها بموروث أسطوري، حنّط الوعي وحجر عليه في كهوفه، حتى بعد اضمحلال العقائد التي ولد في حضنها.
جاءت هذه المقدمة الطويلة لنقول أن الماضي ما زال متحكما ب الحاضر حتى اليوم، مؤطرا وجود المرأة وكينونتها ودورها، صانعا واقعا ماضويا مريضا تزداد مؤشراته بازدياد مؤشرات الرجعية والتخلّف في المجتمعات، وتتراجع كمؤشرات ظاهرة رغم عدم غيابه واقعا في المجتمعات الأكثر تقدما، لأن تلك الحكايات تسللت للأديان الإبراهيمة/السماوية، بما يذهل العاقل لما يظهر من استنساخها بعضها عن بعض منذ أسطورة ما قبل التاريخ، فقد حملت المرأة/حواء في هذه الأديان مجتمعة وزر الخطيئة الأولى، وحملت حكاية خلقها، وصفا متشابها أو متطابقا، اتفقت فيه جميعا على وضعها في ترتيب لاحق لخلق الذكر الأول /آدم، ثانوي مقارنة بخلقه، حتى حين لم يرد في ذلك الزعم نص كما في الإسلام، وهو ما سيدور فيه حديثنا هنا، حيث يعرف كل من قرأ القرآن متدبرا، أن آياته لم تحمل في أي منها وصفا تفصيليا لخلق المرأة، ولم تحمل ذكرا لاسمها أساسا، وأن ما ذكر كان خلق النفس وزوجها، ومع ذلك فقد اجتمعت جمهرة المفسرين على اعتبار النفس الواحدة آدم الذكر الفرد، والزوج "حواء"، وإن اختلفوا في تفصيل ذلك.
وبينما يرى المسلمون السنة أنه خلق من طين وخلقت هي –لاحقا- من ضلعه، يقول بعض الشيعة أنها خلقت من فضلة من الطين زادت بعد خلقه"( )، في تأكيد على صنمية الخلق التي تعيدنا للأسطورة المصرية للإله خنوم khnumالذي تصوّره النقوش المصرية القديمة صانع فخار شكّل الإنسان من طين ونفخ في أنفه نسمة الحياة( )، ولبروميثيوس يجبل الطين ويخلق الإنسان خادما للآلهة بعد فشل ما خلقت الآلهة الأخرى من البشر من حديد ونحاس وغيره، ولأسطورة إينوما إيليش البابلية حيث الإله مردوخ يذبح إله الشر كينجو ويجبل التراب بدمه ليخلق الإنسان خادما للآلهة وغيرها .
- فهل كان خلق المرأة قرارا استدراكيا، ناجما عن إحساس آدم بالوحدة كما يقول المسلمون السنة وقبلهم اليهود، أو عن وجود تلك الفضلة من الطين التي يتحدث عنها الشيعة؟
- وهل أعجز الخالق أن يقدّر ما يحتاجه من طين لخلق آدم وحواء اثنيهما؟
- وهل كان يعلم أن آدم لا يقدر على التناسل وحده؟
- وكيف ذكر عند خلقه إرادته استخلاف آدم في الأرض، قبل أن يخلق شريكته في التناسل؟
- و من ضلع أي من أزواجها تكون من كان لها أكثر من زوج برملة أو بطلاق؟
- ومن ضلع من تكون من لم تقترن برجل حتى ماتت؟
ولنا أن نتساءل علام يتكئ هؤلاء في ادعائهم أن ثمة ذكر فرد أول ، خلقت منه الأنثى الأولى بعد خلقه، مع علمنا أن الأنثى الأولى حواء التي يزعمون لم تذكر أصلا في القران، وأن حكاية الخلق فيه اقتصرت على ذكر نفس واحدة خلق منها زوجها
﴿هوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إليهَا فلما تغشاها حملت حملا خفيفا....﴾. (الأعراف 189)
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾(النساء 1) .
﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ (الزمر6).
وهي آيات واضحة لا تحمل إرباكا في فهم القارئ لها ، ما لم يقرأها ملبوسا بما أورثته التوارة استنساخا عن الأسطورة السومرية التي كانت تحكم ثقافة بابل وما حولها حين كتبت التوراة بعد سبعين سنة من السبي، وفي غياب الألواح التي سرقت في حروبهم المبكرة مع الفلسطينين.
- فمن أراد الله بالنفس الواحدة؟
- ولماذا استخدم اللفظ المؤنث النفس، واللفظ المذكر زوج مع علمه بصحة إطلاق اللفظين على كليهما؛ الرجل والمرأة ؟
- وإذا كان آدم "الذكر الفرد" هو النفس، وكانت النكرة المغيبة عن النص باسمها وإعلان خلقها هي زوجته كما يدّعون، فلماذا لم يذكر الله آدم في الآية ويسميه باسمه، ويعفينا من خطأ الفهم والتأويل؟
- ومن أراد الله بالسكنى "لِيَسْكُنَ إليهَا" من يسكن لمن؟
- ومالذي يمنع أن تكون النفس الواحدة في الآيات هي أنثى حقيقية خلق منها زوجها؟
ولنقف هنا ابتداء على حقيقة لغوية تقول أن النحاة يرون "التأنيث فرع التذكير" أي أن الأسماء مذكرة في أصلها، ويتعلق التأنيث بذلك في الضرورة اجتنابا للبس في المقصود، فلا يؤنث ما لا يلتبس، ويؤنث وجوبا ما يحتمل اللبس، وبالتالي فإن لفظة زوج أحق بالتأنيث حين تطلق على أنثى إن احتملت اللبس، ولن يكون موجب للبس أكثر من أن تكون اللفظة المطلقة على الذكر مقابلها مؤنثة " نفس" كما في الآية، والقرآن الكريم الواضح القول، البين المعنى، أحرى بإيماننا بمراعاته ذلك، وأنه لو أراد بالزوج المرأة لبيّن ذلك بتأنيث اللفظ "زوجة" أو بإيراد البيّنة على أنها أنثى في نفس الآية.
ولنقرأ آية الأعراف متحررين من التأطير المسبق لفهمنا فنرى ما تقول الآية:
﴿هوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَإليهَا فلما تغشاها حملت حملاً حفيفاً...﴾(الأعراف189).

ولنلاحظ أولا، أن القاعدة تقول بعودة الضميير على أقرب مذكور، ومنه ننطلق.
(منها)- من النفس التي هي أقرب مذكور، واتصل بها ضمير الغائب المؤنث "ها" ولم يقل منه، وفي هذا تكريس لأنوثة النفس.
(زوجها)- لم يؤنث الله "زوج" في الآية، وهي واجبة التأنيث لمنع اللبس لو كانت أنثى، وكذلك حَفِظ تأنيث الضمير المتصل بها زوجها ولم يقل زوجه، مكرسا تأنيث النفس، ولو زعم قائل أن التأنيث لازم بحكم اللفظ المؤنث للنفس الواحدة، فإن التذكير في"يسكن"بعد ذكر الزوج يبطل زعمه.
(ليسكن)- فعل مضارع فاعله مذكّر تقديره هو، وفاعل فعل السكنى وفقا للقاعدة هو أقرب مذكور في الآيه للضمير "هو" ، وأقرب مذكور هو زوج النفس، ما يعني أن الزوج مذكر في ذاته لا في لفظ المفردة، يدعم ذلك تكريس تأنيث النفس في الضمائر العائدة عليها في "منها" وفي "زوجها"
(إليها)- اتصلت إلى بضمير الغائب المؤنث، ولم يؤنث في الآية إلا النفس وما عاد عليها.
(تغشاها)-يعود الفعل تغشى على فاعل ذكر تقديره هو، ويقود التسلسل المنطقي تبعا لما تقدم إلى عودة "ها، على النفس الواحدة التي كرّس النص تأنيثها في ما تقدم من الآية ...فتكون " تغشى النفس الواحدة زوج النفس الواحدة.
ولقراءة أفقية يستعان فيها بالقرآن في فهم القرآن نستعين بالآية 98 من سورة الأنعام
﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾.
فــَـــ... الفاء حرف عطف يفيد الترتيب في المعنى، كما تفيد التعاقب
مُستقر... إسم المكان من الفعل استقر. فـــ "المستقر والمستودع" تأتي إذا مباشرة بعد الإنشاء من "النفس الواحدة".
ولم يختلف العلماء في تفسير المستقر/القرار المكين الذي بينه تعالى في قوله تعالى:
﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ (المؤمنون 13).
إنه الرحم بكل ما مكّنه به ليحتضن الجنين، فيقرّ فيه حتى يكتمل تخليقه، في ظروف استثنائية الرعاية، محاطا بغشاء رقيق سابحا في السائل الأمينوسي يقيه التأذي بالصدمات، متكئا للمشيمة التي تأخذ كل حاجاته من دم أمه لتمدّه بها عبر الحل السري.
- فأين كان هذا المستقر في آدم الذكر إن كان هو النفس الواحدة؟
- وهل يكون مستقرّ في نشأة المخلوق ذي النفس والدم إلا في رحم امرأة يكتمل فيه تخلّقه؟

فليست النفس الواحدة بآدم إذا، ولا يتفق ومعنى الآية الكريمة أن يكون، ولم تخلق المرأة من الرجل أو حواء من آدم ولا قالت الآية ذلك كما يزعمون، وقد سبق القول بذلك مفسرون كان منهم الإمام محمد عبده الذي نفى أن يكون آدم هو المراد بالنفس الواحدة في الآية من سورة النساء، مقدما قراءة مختلفة تقول أن المراد بـ منها أي من نوعها وتعود بالنفس على قريش أو عدن
" وليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ولا بالظاهر، فمن المفسرين من يقول إن كل نداء مثل هذا يراد به أهل مكة أو لقريش فإذا صح هذا هنا جاز أن يفهم بنو قريش أن النفس الواحدة هي قريش أو عدنا... والقرينة على أنه ليس المراد هنا بالنفس الواحدة آدم قوله "وبث منها رجالا كثيرا ونساء" وكان المناسب على الوجه أن يقول وبث منها جميع الرجال والنساء" .

ويتيح هذا لمتفكّر في آية الخلق من نفس واحدة أن يتساءل:
- ماذا إذا لم تكن الأنثى أولا؟ ولم تكن النفس الواحدة حواء ولا قريشا أو عدنا؟ من يكون الأول إذا؟
ونقول مطمئنين أن حكاية الخلق الصنمي التي فرضت علينا منذ الأساطير موروثا يحيّر العقل، ليست سيفا مسلطا على عنق القراءة، لأن فهم المرء لما يسمع وما يرى ويقرأ يجب أن ينطلق من سقفه المعرفي وما هو متحقق لديه من علوم ومعارف، لا مما هو موروث من فهم سابق، فالفهم والتفسير المتناقض مع توليفة المعارف القائمة على الحقائق العلمية وأدلتها المادية، فهم خاطئ يشي بقصور معرفة المؤول لا في العلوم وأدلّتها، ولنا انطلاقا من ذلك أن نحاول قراءة الآية برؤية أخرى نحقق فيها توازنا تطمئن عقولنا لاتساقه مع ما تحقق للإنسان اليوم من معرفة.
وربما يعيننا على قراءة الآية برؤية جديدة هنا فهم تكوّن التوائم في الإنسان، حيث تنقسم الخلية الأولى المكونة من جاميت أنثوي وجاميت ذكري؛ انقساما طبيعيا متكررا غير تام مكونا الزيجوت في بداية تخلّق الجنين، وبطفرة ما يكتمل هذا الانقسام انقساما تاما مشكلا خليتين ابتدائيتين.
إنها خليه واحدة، يخلق منها زوجها، فيكونان زوجين ليس بينهما أول، فإن حملنا فهمنا هذا مع فهمنا لأول مراحل تشكل الحياة من مكونات غير حيّة مما حوت الأرض "مرحلة الطين"، لنبحث بهما معا عن تصوّر أو فهم لنفس واحدة منها كان زوجها، فلن تكون تلك النفس بالمرأة ولا بالرجل، بل هي ما كان قبلهما وانقسم ليكونا...
وهي رؤية تمتلك الحق بالوقوف بديلا قائما إلى جانب رؤيتنا ببدء الخلق بالمرأة، بما تحمل من معقولية، وتعالق مع المنطق ومع الحقيقة العلمية، تمتاز بها عن حكاية الخلق من ضلعٍ المستحيلة تلك.
ولعل هذا يفتح أمامنا الباب للمقالة القادمة عن العلاقة بين الخلق من طين ونظرية الخلق العلمية