مواطنو الدرجة الثانية في مؤسسة الزواج



مها أحمد
2006 / 4 / 19

التابو كلمة بولنيزية لها معنيين متعارضين ، فهي تعني الشيء المقدس المكرّس ، ومن جهة ثانية ترمز إلى الشيء المقلق الخطر المحظور المدنس، وربما كان (الخوف المقدس) أقدر التعابير على إيضاح معنى التابو .
يقول "فونت" في كتابه (علم نفس الشعوب) : " إن الحرام يمثل الدستور غير المكتوب والأقدم للبشرية ومن المسلم به بصفة عامة أن الحرام أقدم من الآلهة وأنه يعود في أصله إلى زمن سابق على كل دين " .
فالمحرمات لا تعود في أصلها إلى أوامر إلهية لكنها قاموس وضع البشر مفرداته في اتفاق ضمني يترسّخ يوماً بعد يوم وجيلاً إثر جيل وكل من يتجرأ على إلحاق الخطر بالمجتمع بالتطاول عل محرماته ينال عقاباً يتراوح بين النبذ ، الجلد ، الرجم ، الحرق وحتى القتل .... ولتكريس هذا الواقع أخذت ترتبط هذه التابوات بالآلهة وغدا لمنتهكيها قصاص دنيوي وآخر تتولاه الآلهة .
وقد شكّلت المرأة في جميع مراحل التطور البشري ،مجرد كونها امرأة، تهديداً دائماً لمنظومة المحرمات التي وضعها المجتمع وأقرّها الدين ، فمنذ العهود الأولى للإنسانية عوملت المرأة كحيوان خطر ، ارتبطت بذهن الرجل بقوة غامضة وقدرة محيّرة على الخلق ، احتاجها دوماً ، أحبّها حيناً ، ألّهها طويلاً وخاف منها بالقدر الذي جعله يستميت في تحويلها من آلهة إلى أَمَة ومن رمز للخصوبة إلى وعاء دنس مهمته فقط حفظ بذرته المقدّسة ، فليس صدفة أن يلتقي الأنبياء ،وكلهم رجال، على تكريس المرأة مواطناً من الدرجة الثانية ف"الرجل رأس المرأة" و"الرجال قوّامون على النساء" ....
وبعكس القاعدة القانونية الشهيرة ( المتهم برئ حتى تثبت إدانته ) تظل المرأة مذنبة حتى يثبت العكس ويطلب إليها يومياً إثبات حسن السلوك إرضاء للمجتمع الذي هو رضا الرجل ، وحتى تكفّر عن خطيئتها الأولى المتمثلة في إخراج آدم من جنته المزعومة يتوجب عليها الخضوع كلياً للرجل : "يا أيها النساء اخضعن لرجالكن كمل يليق بالرب" !.. وقد استثمر رجال الدين هذه النصوص فيما بعد عل نحو يخدم مصالحهم ولو اضطروا أحياناً إلى تأويل هذه النصوص واستنباط ما هو غير موجود
بهدف تجريد المرأة من أي امتياز قد يساعدها على استعادة المكانة التي أهلّتها لها الطبيعة ، ففي نشيد الأناشيد لسليمان استقر رأي أحبار اليهود أن الحبيبة ليست تلك العذراء الجميلة جعداء الشعر ذات الشفتين القرمزيتين ، بل هي شعب إسرائيل والعاشق الموله ليس إلا يهوه (!) ولم يكن اليهود وحدهم من أوّل نشيد الأناشيد تأويلاً رمزياً بل جاراهم آباء الكنيسة الذي أقلقهم وجوده في الكتاب المقدس ، فراحوا يفتشوا عن المعنى الحقيقي ولم يجدوا صعوبة في العثور عليه : العاشقان هما المسيح والكنيسة وقُبل الفم رمز لتوق الكنيسة إلى لمس المسيح (!) فلا يجوز لملك بلغ من النبل والوقار ما بلغ سليمان أن يكتب في امرأة من لحم ودم غنائيات تفوح منها الرغبة والشهوة والعشق ، ولابد –كما يرى رجال الدين- أن نتجاوز النصوص الحرفية حتى تتضح لنا المجازات والمعاني التي تختبئ خلف المعنى الظاهري .
هذا نموذج قديم ومثال بسيط يشرح لنا آلية التفكير المبنية على منظومة مفاهيم لم تتغير معظمها حتى اليوم , وربما كانت مؤسسة الزواج هي التتويج الحقيقي لجهود الرجال عبر القرون للسيطرة على المرأة كما أنه الصيغة الأكثر فعالية بما يحمله من وعود براقة بالعيش المشترك ، لكن كون القفص ذهبياً لايقلل من قسوته .
يبدأ الإعداد لتلك الليلة الموعودة في مرحلة مبكرة ، فتدرّب الفتيات بمساعدة الأم على الأعمال المنزلية والاعتناء بالأطفال ويعزز دور الأم الحانية والزوجة الصالحة حتى في أنماط اللعب الأنثوية فالدمية التي تقوم البنت بإطعامها وهدهدتها وتفصيل ثيابها غدت تراثاً مشتركاً لكل الفتيات اللواتي يصلن مرحلة البلوغ وقد خضعن إلى غسيل دماغ حقيقي ، فينمن ويستيقظن عل حلم ثوب الزفاف الأبيض ويتقن جيداً أساليب اصطياد العريس الملائم بعد أن يكن اقتنعن أن الزواج أقص ما يمكن أن يطمحن إليه فبناء الأسرة وإنجاب الأطفال هو الإنجاز الوحيد الذي يمكن أن تفخر به وإلا فالبديل العنوسة ، هذه الكلمة المرعبة التي تلاحق أي امرأة قد تسوّل لها نفسه الخروج عن القطيع ، ومع أن الزواج هو المصير الذي يعده المجتمع الذكوري للمرأة إلا أنه لايهتم بجعل ظروف هذا المصير لائقة وعادلة للنساء ، بل يكون عقد الزواج في كثير من الأحيان صكّ انتقال ملكية امرأة من رجل – الأب أو الأخ – إلى رجل آخر ، أي عقد بين رجلين موضوعه امرأة لاتملك إلا الطاعة وحتى عندما توافق ليس هناك ما يؤكد أن تلك الموافقة ليست قسرية .
ومن لحظة تسليمها إلى المالك الجديد تتعهّد بطلب من الأهل بطاعته ، فتهب زوجها جسدها وحياتها وممتلكاتها وحريتها لتغدو أقرب إلى العبد بفارق بسيط هو أن العبد قد يجد بضع ساعات للنوم بعيداً عن سيده الأمر الذي لا تتمتع به الزوجة التي تنام وتستيقظ في الوقت المناسب لزوجها وتمارس الجنس عندما يريد هو وتعدّ الطعام الذي يفضّل ، أي أن عقد الزواج يستقدم للرجل خادمة وطاهية وخليلة ومربية أطفال لا يحق لها التصرف في شيء فهو صاحب القرار بدءاً باختيار أسماء الأولاد مروراً باختيار ثيابها وحق التصرف بمدخراتها الشخصية وأملاكها التي يمكن أن تكون قد آلت إليها بالميراث ، فالزوج والزوجة هما شخص واحد ما لها له أما ما له فهو له ، وهما شريكا حياة لكن نسبة مشاركة المرأة أصغر بكثير مما تفترضه هذه الكلمة فيس لها الحق فيما يخصها هي أو أولادها وهو قادر ببساطة أن ينكر نسبهم إليه في بعض المجتمعات ، ففي مصر يكفي أن يقف الزوج أمام المحكمة ويقسم "يمين اللعان" : (أشهد الله أني لمن الصادقين فيما رميتها به من أنها زانية وأن هذا الولد ليس ابني ) ويكرر قسمه أربع مرات ثم يقول في الخامسة (لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين) وعندها يكون على المحكمة أن تحكم بنفي نسب الطفل عن فيصبح الولد أجنبياً عن أبيه وينسب لأمه مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيم في مجتمع كالمجتمع المصري .
أما القضية التي توضح القهر الذي يلحق بالنساء في مؤسسة الزواج فهي الإجهاض ، هذه المسألة الشائكة التي غدت قضية رأي عام تطرح للنقاش في أوساط رجال الدين وعلماء الاجتماع ورؤساء الحكومات دون أن ينتبه هؤلاء أنها قضية محض شخصية يجب أن يعود القرار فيها إلى المرأة وحدها . وقد التقى رجال الكنيسة الكاثوليكية وبعض اليهود وأرثوذكس الشرق والبروتستانت المحافظون (على ما يفرقهم) في حركة تمتاز بكثير من التنظيم والنشاط السياسي تدعى" "pro-life
تعمل على الإبقاء على تحريم الإجهاض وبنص برنامجها في كما ورد في كتاب "الإجهاض" ل"دانيال كالا هان" : الحياة تبدأ منذ لحظة الإخصاب والإجهاض في أي مرحلة من مراحل النمو وتحت أي ظرف من الظروف يشكل جريمة .
أما علماء المسلمين فقد اختلفوا في حكم الإجهاض فمنهم من حرّمه بعد نفخ الروح في الجنين والذي يحدث بعد مائة وعشرين يوماً من الحمل وفقهاء الحنفية يحرمون
الإجهاض بعد نفخ الروح حتى لو عرّض بقاء الجنين حياة الأم للخطر " لأن موت الأم به موهوم فلا يجوز قتل آدمي حي لأمر موهوم" على حد رأيهم .
أما في الصين فيرى الفيلسوف كويندلن أنه" من الممكن أن يجرنا الإجهاض حسب الطلب إلى موضة الإجهاض لأن المرأة تفضل أن يكون ابنها من مواليد برج الأسد لا من مواليد برج الجدي" !..
وكثيراً ما يدعي معارضو الإجهاض أن هدفهم حماية النساء من مخاطره لكن الأطباء يؤكدون أن الإجهاض مأمون صحياً أكثر من عملية الولادة نفسها ( كل مائة ألف إجهاض هناك أربع وفيات مقابل أربع عشر وفاة لكل مائة ألف ولادة حسب إحصاء كونين 1988 ) وحتى لو سلمنا بخطورة مفترضة للإجهاض على حياة المرأة فذلك لا يبيح تحريمه وإلا يتوجب سن قوانين تحظر على المرأة التدخين مثلاً لأنه ضار بالصحة .
من المفروغ منه أن الإجهاض لم يكن سيشكل جريمة لو لم يكن الرجال هم واضعو القوانين ولو قدر للرجال أن يلدوا لكان الإجهاض واحداً من الطقوس المقدّسة .
في مؤسسة الزواج تسود المعايير المزدوجة في القانون الذي يفرق بين المرأة والرجل فالزاني يعاقب بالغرامة أو الحبس لمدة ستة أشهر إذا فاجأته الزوجة في منزل الزوجية فقط أما إذا ألقي القبض عليه في مكان آخر فليس للزوجة الحق في رفع دعوى ، أما المرأة فتصل عقوبتها إلى سنتين حبساً كما أن القانون أعطى الزوج حق العفو عن زوجته الزانية مما سهل له في الكثير من القضايا تلفيق التهم للزوجة لمساومتها فيما بعد للعفو عنها .
وبالإضافة إلى استخدام قوانين الأحوال الشخصية بطريق متعسّفة تكرس المرأة فردأ منقوص الحقوق والكرامة هناك الكثير من التشريعات صنيعة رجال الدين عبر التاريخ التي ليست من جوهر الأديان السمحة في شيء فاليهودية تبيح للأب بيع ابنته وتجعل الأرملة زوجة تلقائية لشقيق زوجها المتوفى رضيت بذلك أم أبت ، وفي الديانة البرهمية يعتبر الاستيلاء على المرأة بالقوة لتكون زوجة وسيلة مشروعة ويسمى زواج العمالقة أوالجبابرة وفي المجتمعات الإسلامية يعاقب الرجال زوجاتهم الناشزات بهجرهن في المضاجع وضربهن واستدعاءهن إلى بيوت الطاعة .
بإمكان مؤسسة الزواج إذا توافر فيها التكافؤ والندية والاحترام المتبادل أن تصبح نموذجاً رائعاً للديمقراطية له القدرة على تأهيل جيل سويّ , لأن أمهات فاقدات الكرامة لن ينجبن أبناء أحرار يعمرون أوطانا حرة والتكافؤ بين الزوجين في الحقوق والواجبات يفتح الطريق للرجال للارتباط بنساء كاملات الأهلية مالكات قرارهن لا مومياء أو جارية تكون خاتماً بيدك عزيزي الرجل وبيد غيرك !...
مها أحمد