المرأة و إعادة إنتاج الهيمنة الذكورية



محمد بن زكري
2019 / 3 / 21

في الدول العربفونية ، و بمرجعية الثقافة التوراتية - التلمودية المعرّبة ، تُعتبر المرأة كائنا وظيفيا ، تحكمها طبيعة الأنوثة بدور الخادمة ، لا يخرج دورها في الحياة عن أن تكون خادمة منزلية و خادمة جنسية ، تحت تصرّف سيدها الرجل ، بحق امتياز الذكورة ، المرسّم دينيّاً في علاقات مؤسسة الزواج ؛ فنجد في التوراة : " إلى رَجلكِ يكون اشتياقكِ ، و هو يسودُ عليكِ " (تكوين 3 : 17) . و في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس : " أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح ، و أما رأس المرأة فهو الرجل " (11 : 3 - 4) . و في القرآن : " الرجال قوامون على النساء ، بما فضل الله بعضهم على بعض " (النساء : 34) ؛ ففي الديانة العبرية ، بنسخها الثلاث ، تصبح الأنثى في المجتمع الأبويّ ، مجرد كائن بيولوجي مستلب ، بل و تصبح مجرد أداة استعمالية لا تملك من أمر نفسها و لا من أمر جسدها شيئا ، منتزَعة من كينونتها الإنسانية ، منفية في مفاهيم (الأنثوية) السالبة .

فالأنثى في الذهنية الذكورية التوراتية ، السائدة اجتماعيا في الدول العربفونية ، حتى بين النساء من منتحلات النسوية ، و بين الرجال من منتحلي صفة اليسار ؛ هي أدنى منزلة من الذكر ، سواء في الفضاء الخاص داخل البيت و العلاقات الأسرية ، أم في الفضاء العام و علاقات العمل و التواصل الاجتماعي . و هي مجرد جسد جنسي (دمية جنسية) ، مصمم لغرض الاستعمال الجنسي بتصرف الرجل ، بما يحيل إليه الجنس في الذهنية الذكورية - المصاغة توراتيا - من صور العيب و الإثم و القذارة . و هي كائن موصوم وصمة أبدية بالكيد " إن كيدهن عظيم " و الشهوانية و الغواية و الخيانة وما إلى ذلك من مفاهيم و تعبيرات ، تستبطن أو تفيد التحقير و التتفيه و الازدراء . و لذلك فهم عندما يودون الحط من شأن رجلٍ ما ، ينعتونه بأنه امرأة (مرا) ، فنعت الرجل بأنه امرأة ، ليس مجرد شتيمة مقذعة ، تنطوي على تقييم اجتماعيّ و (جنسانيّ) سالب و ازدرائيّ ، بل هو أشد أشكال العنف اللفظي عدوانية ، للحط من قدره و إهدار كرامته و النيل منه معنويا ، بإسقاطه رمزيا ، من علياء المذكر إلى حضيض المؤنث .

إن التمييز ضد المرأة ، بكل أشكاله الاجتماعية و الاقتصادية و الجنسية و العقائدية ... ، هو سمة لصيقة بمجتمع الاستبداد الشرقي (استعمل هذا المصطلح بمفهوم شمولية الاستبداد المرسّم دينيا) ، بميراثه الثقافي و نمط تفكيره - الذكوري - ذي المرجعية الدينية ، التي تضع المرأة في مرتبة أدنى من الرجل ، و تجعله (قوّاما) عليها ، و تمنحه حق الوصاية على حياتها . فالرجل في علاقته التسلطية بالنساء داخل بيته و في عائلته ، يمارس ما يعتبره حقه (الشرعي) المكفول له اجتماعيا . و ذلك بالتساوق و التطابق مع ما تمارسه النظم التسلطية بالدول العربفونية ، التي تنص دساتيرها على أن الإسلام دين الدولة (!) ، في سياساتها الاجتماعية و التشريعية كافة ، المتعلقة بحقوق المرأة كإنسان أنثى ، بمبرر الخصوصية الثقافية و بمرجعية الشريعة الإسلامية ، كما ظهر ذلك بكل الوضوح في مواقف الدول العربفونية من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ، المعروفة اختصارا بِاسْم (سيداو / cedaw) .
فعلى الرغم مما استقر عالميا ضمن قواعد العلاقات الدولية ، من أنّ القانون الدولي يعلو فوق القوانين و التشريعات المحلية . و بالرغم من أنّ كل الدول العربفونية ، تَقبل بمبدأ كونية القانون الدولي ؛ فإنها جميعا قد تحفظت على اتفاقية سيداو ، و إنْ جاءت تحفظاتها متباينة و بمستويات متفاوتة ؛ حيث شملت التحفظات المواد (2 ، 9 ، 15 ، 16 و 29) من الاتفاقية ، و ذلك بدعوى تعارضها مع أحكام الشريعة الإسلامية و الخصوصية الثقافية .
و لم تُجمع الدول العربفونية على أمرٍ ما ، كإجماعها في التحفظ على المادتين 2 و 16 ، من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ! الأمر الذي استوجب من لجنة الاتفاقية بالأمم المتحدة (هيئة خبراء مستقلين ، لمتابعة تنفيذ الاتفاقية) ، أن تصدر - يوليو 1997 - بيانا قويا ، تؤكد فيه عدم جواز التحفظ على هاتين المادتين تحديدا ، حيث جاء في نص البيان : " تعتبر اللجنة المادتين (2) و (16) جوهر الاتفاقية ، ولا يجوز التحفظ عليهما بموجب المادة (28 / فقرة 2) من الاتفاقية ، التي تحظر التحفظ الذي ينافي موضوعَ الاتفاقية وغرضَها ، كما أنَّ التحفظ عليهما يعتبر أيضًا منافيًا لأحكام القانون الدولي العام ، و أنّ تَعارُض المادتين (2) و (16) مع الممارسات التقليدية ، أو الدينية ، أو الثقافية ، لا يمكن أن يبرر انتهاك الاتفاقية ، و أنَّ التحفظ على المادة (16) - الخاصة بالأسرة - سواء أكان لأسباب قومية أو تقليدية أو دينية ، يعتبر منافيًا لموضوع الاتفاقية وغرضها ، وبالتالي لابد من سحبه " .
و تنص المادة (2) ، على وجوب أنْ : " تشجب الدول الأطراف ، جميع أشكال التمييز ضد المرأة . و توافق على أن تنتهج بكل الوسائل المناسبة و دون إبطاء ، سياسة القضاء على التمييز ضد المرأة .. " . و تنص المادة (16) ، على أنْ : " تتخذ الدول الأطراف ، جميع التدابير المناسبة ، للقضاء على التمييز ضد المرأة ، في كافة الأمور المتعلقة بالزواج و العلاقات الأسرية ... " .
و بالرغم من أن تونس ، عادت فرفعت رسميا - أبريل 2014 - تحفظاتها الأساسية على الاتفاقية ، فإنها أبقت على تحفظ عام ينص على أن الحكومة التونسية : " لن تتخذ طبقا لمقتضيات هذه الاتفاقية ، أي قرار إداري أو تشريعي ، من شأنه أن يخالف أحكام الفصل الأول من الدستور التونسي " ، بنصه على أن الإسلام هو دين الدولة في تونس (!) .
و بالرغم من أن ليبيا قد انضمت إلى اتفاقية سيداو في 1989 ، كما صادقت على البروتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية ، فإنها قد ربطت مصادقتها على الاتفاقية بالتحفظ على المادة (2) ، و على المادة (16) / فقرة (ج) و فقرة (د) ، فيما يخص المساواة بين الرجل و المرأة : في " نفس الحقوق و المسؤوليات أثناء الزواج و عند فسخه . و في " نفس الحقوق و المسؤوليات كوالدة ، بغض النظر عن حالتها الزوجية .. " . و تشترط التحفظات الليبية (وجوب) ألّا يتعارض تطبيق الاتفاقية مع الشريعة الإسلامية . و في يوليو 1995 ، أضافت ليبيا تحفظا جديدا يشترط ألا يتعارض تطبيق الاتفاقية مع قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية ؛ الأمر الذي يتنافى مع موضوع الاتفاقية و غرضها ، كما لاحظتْ لجنة الاتفاقية ، في بيانها سالف الذكر .
و بالتطابق التام مع مواقف الدول العربفونية ، في تحفظاتها على تطبيق اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ، استنادا إلى الشريعة الإسلامية ؛ نظمت رابطة الجامعات الإسلامية ، بدعوة من جامعة الأزهر ، مؤتمرا (دوليا !) حول أحكام الأسرة بين الشريعة الإسلامية والاتفاقيات والإعلانات الدولية ، انعقد بمركز المؤتمرات في مدينة طنطا بمصر (7 -9 أكتوبر 2008) . و جاء في توصيات المؤتمر : " يعلن المؤتمر رفضه لكافة الإعلانات و الاتفاقيات ، التي تخالف نصوصُها الشرائعَ السماوية ، و تسعى إلى إعطاء المرأة حقوقا ، لا تتفق مع فطرتها ، أو تسعى إلى إلغاء الفوارق الفطرية ، بين رسالة الرجل و المرأة في المجتمع ، كالمساواة التامة في الميراث ، أو حق الرجل في إيقاع الطلاق ، و قوامة الرجل في الأسرة ، و واجب الرجل في الإنفاق على بيته و تربية أولاده ، و غير ذلك مما هو ثابت في الشريعة الإسلامية " .
و لعله من نافلة القول في القرن الواحد و العشرين ، أنه في واقع بيئة ثقافية متصحرة ، تشمل بظلاميتها الماضويّة كل جغرافيا البلاد الناطقة شعوبها بالعربية ، حيث تتبنى الكتلة الأكبر من النساء ، بمن فيهن النساء المؤهلات أكاديميّا ، قيم تبخيس المرأة و تبعيتها للرجل ، بمرجعية الديانة العبرانية الخرافية المعرّبة ، التي تعتبر المرأة (عورة) و مصدرا للغواية و شر (الفتنة) ؛ فنرى تفشي ظاهرة الحجاب حتى بين النساء الأكاديميات في هيئات التدريس الجامعي ، بل و نرى الأجيال الجديدة من النساء اللواتي تلقين تعليما عاليا (حتى في الفلسفة و علم الاجتماع) ، يتشرنقن في الحجاب ، بما يحمله الحجاب من رمزية الهيمنة الذكورية ، المعزّزة بالمقدس الديني ، و يدافعن بشراسة عن مقولات : نساؤكم حرث لكم فأْتوا حرثكم أنّى شئتم ، و اهجروهن في المضاجع و اضربوهن ، و انكحوا ما شئتم من النساء . في هذا الواقع ؛ يصبح حديث ناشطات و نشطاء حركة التحرر النسوي عن مأزمية وضع المرأة في البلاد الناطقة بالعربية ، نوعا من المفارقة ، و ممارسة لترف فكري تتعاطاه مجموعة من المثقفين المعزولين في أبراجهم العاجية بعيدا عن الواقع ، حيث تبدو المرأة في واقعها المعاش على الأرض ، أعدى أعداء تحرر المرأة ، في الدول العربفونية .
و إن أسوأ ما في الأمر ، هو أن تتماهى المرأة مع دونية وضعها الاجتماعي و القيمي ، فتصبح أشد (ذكورية) ثقافية من الذكور ، و أشد عداء من الرجال للتحرر النسوي ؛ عندما تتبنى النساء نظرة المجتمع الذكوري إليهن ، فيستدمجن - حسب تعبير بيار بورديو - مبادئ الرؤية المهيمنة ، في شكل ترسيمات إدراك و تقدير ، تَحملهن على أن يجدن النظام الاجتماعي عاديا أو حتى طبيعيا كما هو عليه (الهيمنة الذكورية . ص 143) . فتكون المرأة بذلك أشد مُدافع عن قيم التخلف الاجتماعي ، المكرِّسة للهيمنة الذكورية ، من خلال التمسك المتزمت بوضعيتها الدونية ، والالتزام بالمعايير السائدة في ايديولوجيا التخلف ذات المرجعية الميتافيزيقة في الموروث الثقافي السائد اجتماعيا ، وذلك كمصدر للاعتبار الذاتي والشعور بالأهمية في المجتمع البطريركي ؛ نتيجة لغياب الوعي بالظلم ، أو كمحصلة لغياب القدرة على مواجهته ، و استسلاما لسيطرة رُهاب الخوف من الحرية .
فثقافة المجتمع البطريركي المتخلف ، بحكم مرجعيتها الميتافيزيقية الأسطورية التلمودية المعرّبة ، تضع المرأة في مرتبة ثانوية على هامش الحياة ، في خدمة الرجل . وبقدر تماهي المرأة مع دونية وضعها ، بقدر ما تكون موضع رضا وقبول المجتمع . و حتى تتماهى المرأة مع دونيتها الاجتماعية ، فإنها تتعرض لمجموعة من الاختزالات ، تنتزعها من ذاتها كإنسان أنثى متكامل الكينونة الإنسانية ، و تنفيها في دور كائن وظيفي ، تحكمه طبيعة الأنوثة بتلبية احتياجات الرجل (الذكر) و الخضوع لإرادته . و ذلك عبر ما يسميه د. مصطفى حجازي بالاستلاب ثلاثي الأبعاد : اقتصاديا و جنسيا و عقائديا ، حيث تتبنى المرأة في الاستلاب العقائدي وضعيتها الدونية " فهي لا تتصور لها وضعا غير وضعها الذي تجد نفسها فيه . و هي تقاوم تغييره ، و كأن هذا التغيير خروج على طبيعة الأمور ، و على اعتبارات الكرامة و الشرف " ؛ ذلك أن " الاستلاب العقائدي ، هو أن تقتنع المرأة بدونيتها تجاه الرجل ، و تعتقد جازمة بتفوقه ، و بالتالي بسيطرته عليها و تبعيتها له " (التخلف الاجتماعي - مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور . ص 217) .
ومن ثم فإنه بحكم كون المجتمع الشرقي ، في الدول العربفونية ، مجتمعا ذكوريا متخلفا . فإن أغلب النساء فيه ، يتمثلن في أنفسهن عن أنفسهن - وفي حياتهن عموما - كل أفكار ثقافة الموت و احتقار الذات ، بمرجعية تعاليم العقائد الدينية الذكورية و قيمها الظلامية ، التي تتمحور حول مفاهيم دونية المرأة تكوينيا و قصورها عقليا و كونها مخلوقا هشا ثرثارا مطبوعا على الشر و موسوما بالنجاسة و محكوما بالخطيئة الأصلية . و ليس لها من قيمة في الحياة غير القيمة الاستعمالية ، كوعاء جنسي ، في علاقات منظومة الاقتصاد الرمزي ، لمجتمع الاستغلال و التمييز الطبقي - الجندري .
وحتى يحظين بالتقدير الاجتماعي و الاعتراف لهن بالأهمية ، فإن النساء مع استدماجهن عقائديا و نفسيا لدونية وضعيتهن الاجتماعية ، فهن يُظهرن من العدوانية و العدائية ضد جنسهن ، أفظع و أقسى مما يبديه الرجال تجاههن ! و يأخذن على أنفسهن من خلال تربية الأبناء - و خاصة الإناث - مَهمّة إعادة إنتاج المجتمع البطريركي ، بكلّ ثقافته الذكورية ، المكرِّسة لدونيّة المرأة ؛ فنجد المرأة ، تدافع بشراسة غريبة عن وضعية عبوديتها في الأسرة و المجتمع ، وتصبح وصية أمينة على إعادة إنتاج دونيتها الاجتماعية وتبعيتها للرجل ، وذلك رغبة لاواعية منها في اكتساب القبول الاجتماعي ، فتستمر من ثم حاملة في ذاتها لشرف الرجل ، الذي أفقده أيّاه - كما أفقدها - مجتمعُ الاستغلال الطبقي و الهيمنة الذكورية ؛ حيث يكون الشرف امتيازا حصريّاً محتكرا للحاكم المستبد (الذكر المسيطر في القطيع) ، باسم العقائد الدينية المقدسة ، فلا يكون أمام العوام (الذكور العاديون في القطيع) غير أن يلتمسوا شرفهم في السيطرة على النساء داخل بيوتهم . و بحكم استلاب المرأة عقائديا ، فإنها تقبل بدور حارسة شرف ذكور العائلة الأبوية ، من خلال عملية التربية ، التي تتولى فيها وظيفة نقل قيم المجتمع الذكوري إلى البنات ، حتى إننا نجد الأمهات أشد قسوة على بناتهن من الآباء ، في عملية التنميط الجنساني و التربية على الأنثوية ، بمنظور ثقافة المجتمع الذكوري .
ففي عملية التنشئة ، و من خلال أسطرة الأمومة و تعليتها وهميّا إلى مستوى القداسة ، يوكل المجتمع إلى المرأة ، مسؤولية إعادة إنتاج اللامساواة ، و التمييز ضد النساء . و ليس بخافٍ أنه منذ اللحظة الأولى التي تأتي فيها الأنثى إلى الحياة ، تأخذ الأم على عاتقها مهمة تنميط هذا الكائن الصغير جنسويا ، بالتطابق التام مع ثقافة المجتمع البطريركي ؛ فالبنت يجب أن تحافظ على عذريتها كأثمن شيء في حياتها ، و عليها أن تتدرب على أعمال البيت من طبخ و كنس و عناية بالأطفال ، و عليها أن تكو خجولة و رقيقة و محتشمة و مطيعة ، و عليها أن تتقبل وصاية أخيها الذكر و تخدمه حتى لو كان أصغر منها .. وما إلى ذلك من صور و أساليب التربية ، على أساس التباين جنسانيا بين الأطفال الإناث و الأطفال الذكور من حيث الأدوار و القيمة الاجتماعية ، لجهة أفضلية الذكر على الأنثى . و المحصلة هي استدامة دونية المرأة و تبعيتها للرجل ، جيلا بعد ، في سلسلة متواصلة الحلقات من إعادة أنتاج الهيمنة الذكورية .
و سيظل ذلك كذلك ، إلى أن تتحرر المرأة ، في الدول العربفونية ، من إرث الثقافة التوراتية التلمودية المعرّبة إسلاميا .