الاغتصاب



راتب شعبو
2019 / 4 / 3

في تحقيق عن امرأة تعرضت للاغتصاب في ناد ليلي في أميريكا، تقول الضحية إنها لو استحمت بكل مياه العالم فإنها لن تتخلص من شعورها بالانتهاك، "أود لو أن جسدي ثوباً فأخلعه". لا يمكن تخيل ما هو أقسى. يتعلق هذا باغتصاب معزول وفي مجتمع متفهم إلى حد ما. لنا أن نتخيل، إذن، شعور الضحية في مجتمعنا، فهي تحمل فوق وزر الانتهاك، وزر انعكاس ما تعرضت له على أهلها ووسطها بفعل ثقافة اجتماعية سائدة تلحق العار بعائلة الضحية وتجعل، بعقلية عجيبة، التخلص من الضحية سبيلاً لاسترداد كرامة العائلة. الضحية في مجتمعنا يمكن أن تكتم مأساتها الشخصية وأن تسكت على جرحها، لكي تحمي العائلة من الشعور بالعار أو بالعجز، أو لكي تقطع الطريق على جريمة ثانية، على يد العائلة هذه المرة.
في الاغتصاب المعزول ثمة ضحية محددة ومجرم محدد، في مثل هذه الحالة فإن الدافع لا يعدو كونه شذوذاً جنسياً عند المجرم دون أن يكون للمجرم غرض آخر يتجاوز تفريغ دافعه الشاذ باستهداف الضحية كموضوع لفعلته. لا توجد هنا دائرة استهداف تتعدى الضحية، مع أن الثقافة السائدة في مجتمعنا، تزج عائلة الضحية في دائرة الانتهاك أيضاً، غير أن ذلك يكون عادة خارج قصد المجرم.
أما في حالة العنف الجنسي والاغتصاب الممارس في الحروب، فإن شخصية المجرم تذوب في عمومية الوظيفة التي يؤديها، كما تغرق فردانية الضحية في عمومية الجريمة. غير أن عمومية الجريمة لا يمكنها، مع ذلك، أن تمحو فردانيتها. في شهادات الضحايا، كما مثلاً في الفيلم الوثائقي الفرنسي المؤثر "صرخة مخنوقة"، الذي يتناول استخدام الاغتصاب كسلاح حرب في سوريا، نلاحظ كيف تحتفظ الضحية بتفاصيل نكبتها: باسم جلادها إن استطاعت، بملامحه، بحركاته، بتفاصيل المكان، بمفردات الذاكرة التي حضرت في تلك اللحظة المشؤومة ..الخ. ضحية الجريمة العامة هي في النهاية، ضحية فرد، وهذه الجريمة العامة ليست سوى مجموع نكبات فردية وخاصة.
في هذا يلتقي الاغتصاب المعزول بالاغتصاب الممنهج، رغم أن الاغتصاب في الحالة الثانية يتجاوز كونه فعلاً جنسياً شاذاً، إلى كونه سلاحاً في حرب يستخدمه أعداء ضد أعداء. لا يستهدف الاغتصاب الممنهج الضحية تحديداً كما هو الحال في الاغتصاب المعزول، بل يستهدف من خلالها الطرف المعادي ومحيطه. لا تستهدف الأنثى هنا لأنها أنثى فقط، بل لأنها أنثى تنتمي إلى الجهة المعادية، الإثنية أو الدينية أو القومية أو السياسية التي تنتمي إليها الضحايا، التي يُراد كسرها، والتي يراد لها أن تشعر بالعار والعجز عن حماية نسائها من "السبي".
التفكير في شيوع العنف الجنسي والاغتصاب في الحروب والصراعات المسلحة لا يقود إلى أن السبب هو إشباع الحاجات الجنسية للجنود المقطوعين في الحروب والمحرومين بالتالي من إشباع هذه الحاجات بشكل طبيعي، ولا يقود أيضاً إلى أن انفلات الغريزة الذكورية من ضوابطها الاجتماعية بسبب الحرب، هو ما يكمن وراء هذه الظاهرة القديمة التي لا تتقادم. في الأمر عنصر "ثقافي" ثابت وعالمي، وهو تصور الفعل الجنسي كفعل سيادة يتم فيه تكثيف الهزيمة المنشودة للعدو بالوصول إلى "عرضه" وتحويله عنوة إلى موضوع لذة. هذا ما يجعل من ظاهرة الاغتصاب في الحروب استمراراً مباشراً للحرب "بوسائل أخرى"، أو ما يجعله فعلاً حربياً شاذاً.
النظر إلى الفعل الجنسي بوصفه واقعة سيطرة أو سيادة أو انتصار للرجل، يشكل نواة اعتباره فعلاً "حربياً" يجري بواسطته "احتلال" النساء والسيطرة عليهن بالجنس بوصفه فعل حيازة واستملاك كما هو مستقر في الثقافة العامة. حيازة نساء العدو بالجنس وإجبارهن على خدمة الجنود، يعادل مهمة عسكرية تهدف إلى تدمير الحصون النفسية للعدو. هذا يجعل من المرأة أداة، ليس فقط بمعنى أنها أداة متعة جنسية للذكر المعادي، بل أيضاً، وفي الفعل نفسه، بمعنى أنها أداة إهانة وتكسير وقهر للذكر الصديق. على هذا الضوء يمكن فهم استعداد الذكر لقتل الأنثى القريبة، في لحظات الشعور بخطر سيطرة العدو، لكي يحمي "عرضه".
أن يكون قتل المرأة سبيلاً لحمايتها من الاغتصاب، أو لغسل "عار" العائلة بعد وقوع الاغتصاب، مؤشر صريح على مرض ثقافي مقيم في مجتمعاتنا، تماماً كما يشير النزوع الى الاغتصاب الممنهج للنساء في الحروب، إلى المرض عينه. والحق أن لهذا المرض حضور عميق لا تخلو منه ثقافة، وإن تباينت الدرجات.
لإدراك المرض الثقافي المذكور، يمكن أن نتصور الاغتصاب واقع على الذكور، وهو أمر يحدث بالطبع. الارتكاس النفسي لمثل هذا الفعل لن يكون من طبيعة مشابهة له فيما لو وقع الفعل على النساء. اغتصاب الذكر يشكل إهانة للضحية كأي فعل مهين آخر، أو ربما أكثر من أي فعل مهين آخر، ولكنه لا يطعن كرامة الوسط الذي ينتمي له الذكر مثلما لو أن الأمر يتعلق باغتصاب أنثى. سوف يبدو اغتصاب الذكر انتقاماً وسيندرج في إطار التعذيب أكثر من كونه انتهاكاً لكرامة الجماعة. وبقدر ما يبدو اغتصاب النساء نقطة مؤلمة للجماعة بقدر ما يميل العدو أكثر إلى اعتماد هذا السلاح لإبقاع المزيد من الأذى النفسي، في سببية دائرية تعبث بمصائر النساء وتسحق أرواحهن.
الاغتصاب المعزول يستهدف المرأة ويمكن أن يحطم كيانها النفسي بالكامل، في حالات معينة وبحسب البنية النفسية للضحية، ولكن في حالات الاغتصاب الممنهج فإن المستهدف النهائي هو البنية النفسية للوسط الاجتماعي للضحية ولاسيما الوسط الذكري، الاغتصاب في هذه الحالة وسيلة وليس هدفاً بذاته، وليست "نساء الآخرين" سوى الجسر الذي يوصل إلى طعن كرامة "الآخرين"، ولكنه جسر من أرواح فردية لنساء محددات بالاسم والميلاد والعنوان والذاكرة، يدفعن ثمن اختلال عام كما في السياسة كذلك في الثقافة، وهو فوق ذلك اختلال هن الأقل تسبباً في وجوده.