إمرأة نادرة متعددة الأبعاد ثرية المواهب -- فطوبى للوطن



عبدالرحمن إبراهيم محمد
2019 / 9 / 3

رجعت بى الذاكرة إلى يوم أربعاء ذى حر قائظ فى بواكير شهر يوليو أحد أعوام منتصف السبعينات – على أغلب ظنى -- وأنا منهك بعد طول يوم فى إجتماع اللجنة الإدراية والمالية لدار جامعة الخرطوم للنشر؛ وهو يوم كان ينتهى دوما بتعكير مزاجى. فأنا كما كان يقال عنى أنى رجل لحوح مناكف؛ لا لسبب سوى إستماتتى فى المنافحة عن إستحقاقات طاقمى من العمال والموظفين، فى موسسة أكاديمية تفترض فيها الإستنارة والعدالة لا التعلل بحجج بيروقراطية تحرم العاملين من حقوقهم وعائد نبيل جهدهم. وهذا شأن آخر سأوليه إستحقاقه فى مكان وزمان غير هذا. ولكنى أذكره لأشرك القارئ فى مزاجى يومها. فبعد طول إجتماع تجاوز الساعات الثلاث لما بعد الساعة الثانية ظهرا عدت إلى مكتبى مكفهر الوجه منقبض النفس عابس التقاطيع. ففوجئت بالصديق المرحوم الشاعر المبدع محمد عبدالحى فى إنتظارى؛ وتذكرت أننا كنا من المفترض أن نتداول فى أمر مجلة "آداب" لكلية الآدااب التى أسسها والتى كنا فى دار النشر نتولى نشرها. وكنا قد إتفقنا على أنه بعد تداولنا فى أمر المجلة أنه سيعود معى إلى داره فى الخرطوم بحرى. وما أن رآنى إلا وبادرنى بكلمات كانت كافيات لتزيل كل ذلك العبوس والغضب. فضحكنا وتوكلنا على الحى الدائم.

ولما كان دارى أقرب من داره وحركة السيارات مختنقة يومها والجو قائظ أقترحت عليه أن يتغذى معى وأوصله بعد الغداء. فأبتسم إبتسامته الفريدة المعهودة وقال لى: "دى أنا ما بقدر أعملها". فأستفسرته متسائلا: "ليه؟". فقال لى: "تعرف يا عبدالرحمن عاشة بتكون متوقعانى ومحضرة الغدا وأنا ما مكن أكسر خاطرها. ولا يمكن حتى أفكر فى أى بديل غير أنى أمشى البيت. فأحسن إنت العزابى تتغدى معانا." فقلت له لا يمكن أن أقحم نفسى دون إخطار مسبق لعاشة. ويومها لم تكن هناك هواتف جوالة. فقال لى: "ما تتحسس يا زول. والله عاشة بتفرح لما يجونا ناس". وظل يطنب فى ذكرها بكل جميل كعادته حينما يتحدث عنها بصدق أحساس تلمسه شعورا ينغم كلماته. ومن ما قاله: "تعرف عاشة دى إنسانة منظمة جدا ودقيقة فى مراعاة التفاصيل لكنها مرنة فى إستيعاب المستجدات والمفاجاءأت؛ وأنت ما البلى البنخاف منو." وضحك ضحكة مازلت أذكرها، عليه رحمة الله.

وياله من غداء كان. وما زلت أذكر الصينية المنسقة وفيها طبق ملوخية شهى المنظر والمذاق وسلطات منظوم تنسيق مكوناتها وأرز ولحم محمر. فسألت نفسى كيف يمكن للأستاذة عائشة أن تعمل كل هذا الطعام الشهى المنسق العرض وهى الإستاذة التى تقضى يومها فى التدريس والتصحيح والإلتزامات المنزلية الأخرى. وكل ذلك بأريحية فى النفس وإفراط فى الكرم مما أعقب ذلك الغداء متجليا فى تحلية وشاى --لا أدرى ما كان فى ذلك الشاى من الأبهرة التى تتسرب إلى خياشيمك باعثة إحساسا بالسكينة قبل أن يلامس براعم التذوق فى لسانك وفمك. أقول ذلك لأبرها حقها أنصافا لبراعتها وكرمها كـ"ست بيت" خلاقة – ينعكس ذلك فى تنسيق الشقة وأثاثاتها المريحة للنفس.

وكانت تلك التجربة هامة لتزيل عن نفسى كل تلك الكآبة و "العكننة" يومها، ولتكتمل الصورة فى ذهنى للدكتورة عائشة السعيد التى عرفت كثيرا من أبعاد شخصيتها، رغم ندرة لقاءآتى بها وقصر المرات القليلة جدا التى تقابلنا فيها لأعرفها معرفة لصيقة. ولكن رغم ذلك كنت أعرف عنها الكثير من حديث رفيق دربها وما كان يحدثنى عنها ذلك المحب الصدوق، شاعرنا الحساس المبدع. وكيف أنها كانت عونا له فى مواجهة واقع من الحياة كان سيكون أكثر قساوة لولاها. فكانت بلسم روحه وعونه ومتكأه. وكان دائم الحديث عن حذقها وصرامتها المنهجية فى التحقق والبحث وعمق الفكر والتفكر والتحليل والمناقشة. وكلها أشياء تأكدت لى حينما تقاطعت مداخلاتنا الفكرية على صفحاط الأسافير، رغم ما كان يفصلنا من مسافات عبر البحار والمحيطات -- كما يحلو دوما لصديقنا الأديب أحمد الأمين أن يقول. فوجدت فى كتاباتها ومداخلاتها عمق تفكيرها وسلاسة تعابيرها ودقة ترجماتها ورصانة تحليلها. وأكثر ما لفت نظرى هو ثبات مواقفها المبدئية رغم دبلوماسيتها ولطف طرحها لوجهة نظرها اليقينية حين تتباين الآراء وتختلف وجهات النظرجذريا. فلا ترى ردود فعل منها ولا من المتداخلين إلا فى حدود اللياقة والأحترام الذى تفرضه بنبرتها وقوة بيانها ورصانة طرحها.

ولما دنت ذكرى رحيل شاعرنا، أردت أن أستخرج لأول مرة قصيدتى فى رثائة وهى التى ظلت تقبع فى ثنايا صفحات ملفات من القصائد والنثر. ورأيت من اللياقة أن أستأذنها فى نشر القصيدة، عساى ألا أنكأ جراحات ذكريات كادت أن تندمل؛ وإعزازا لوفائها وقد سمعت كيف كانت تحمله من مقاعد السيارة لتنزله صباحا و تركبه ظهرا من أمام كلية الآداب بجامعة الخرطوم، بعد أن أقعده المرض ليلزم الكرسى المتحرك. فكان مقالى بعنوان " بادرة إجلال لأستاذة الأجيال الدكتورة عائشة السعيد وفاءًا لأخى بروفيسور محمد عبدالحى" والتى نشرت على عدد من المواقع فى التاسع من شهر فبراير عام 2016

فطوبى للسودان بإختيار هذه الكنداكة النادرة لمجلس السيادة إعزازا لدور المرأة فى ثورة الشعب وتقديرا لطول عطائهن عبر القرون من أعماق التاريخ، فمكانة المرأة فى تاريخنا القديم كان الأجلال والتقدير والسموق. فمرحبا بعودة روح ثقافتنا الحضارية إلى مسارها الطبيعى وسلام على البروفيسور عائشة السعيد وكل نساء بلادى.
----------------------------------------
" بادرة إجلال لأستاذة الأجيال الدكتورة عائشة السعيد وفاءًا لأخى بروفيسور محمد عبدالحى"

هذا يوم جليل من قلائل الأيام التى أتهيب فيها أن أكتب حرفا أو أسطر قولا على الملأ. فقد كنت فى لحظة غضب عارم فى يوم من أيام عام 1970 حين آليت على نفسى مقسما أن لا أنشر شعرا منذ ذلك اليوم. واستدام ذلك إلى اليوم الثامن عشر من شهر يناير عام 2010 حين "تحللت" من عهدى لنفسى، بعد مأساة جريمة بشعة آلمتنى. فما كان من الممكن لى أن أصمت عنها. فكتبت قصيدة نفثت عن وجعى ونشرتها. ويومها إندهش كثيرون حتى أقرب الأقربين منى، لانه ما خطر ببال أحدهم أبدا أننى أقرض الشعر أو أستلذ بالعروض. فحتى فى لقاءآتنا الفكرية والثقافية كنت كثير الإستشهاد بشعر الشعراء وتستهوينى قراءته، بل ويطلبون منى ذلك إلحاحا. ولكننى لم أنوه يوما إلى كتابتى للشعر إلا لثلاثة من خلصاء النفس.
.
وظللت بعد ذلك التاريخ من عام 2010 أنشر قليلا من قصائدى الحديثة. فكان الإلحاح من عدد من الأصدقاء أن أستخرج مما لا شك أن لى منه رصيد. فكنت أتحاشى ذلك. حتى كان يوم نشر مرثيتى فى محمد مفتاح الفيتورى، وكان قد ظلم حتى من الإستجابة لأمنيته الأخيرة، التى من المفارقة أنها تمنح حتى للمحكوم عليهم بالإعدام. ولكن الظلم تمدد فى وطنى وما عدنا نحمل بين جوانحنا تلك المشاعر الإنسانية؛ لأن من فرضوا أنفسهم على هذا الشعب الطيب خواء، ليس فيهم ذرة من شعور غير اللذة فى إزهاق الأرواح وقتل كل جميل، وجمع أموال السحت، وتكديسها مع زوجات تعددن، وكأنهن متاع منازل يتباهون بهن. ولكن، كما كان يقول شيخنا وأستاذى عبدالله الطيب رحمه الله "هذا شأن آخر".

وحين بدأت فى نشر مرثية الفيتورى فى موقع سودانيز أون لاين كموضوع "الفيتورى يا يــاقــــوت الـشــــعـر و قــصائــد أخـــرى فى الـــرثـــاء" تداخل خازن التراث المتبحر فى الفلكور النوبى الأستاذ على عبدالوهاب عثمان ومعه الرجل الرصين والقارىء النهم السابح فى الفكر والأدب أخى الأصغر، الأستاذ أحمد الأمين أحمد، وكلاهما له مكانة خاصة فى نفسى. وأخذا فى المحاورة والتداخل حتى أستدرجانى بحكنة ولطف لأن أبدأ بالبوح عن كثير مما خزنته طوال تلك السنين الخمسة وأربعين، والستة وثلاثين التى قضيتها بعيدا عن الوطن. فأستحلبا ذاكرتى لأعرج على أمور كثيرة فى تاريخى لا يعلمها حتى أقرب الأقربين.

وكان أن تحول البوست إلى توثيق لمبدعين عاشرتهم أو عاصرتهم أو صادقتهم وأيضا لشعرى فى رثاء بعضهم. وحبن تبين لهم غزارة القصائد وكثرتها بدأ الألحاح بضرورة نشرها فى ديوان إخترت له عنوان واحدة من أعز قصائدى إلى نفسى "نـزف العـيـن ودمـع القـلب" فى رثاء أمى الحبيبة الحاجة زينب هارون سليمان، طيب الله ثراها ووهبها من الرضا والنعيم والسعادة الأبدية على قدر ما غمرتنا به من حب وحنان ورعاية ومودة وصداقة. وسأدفع بالديوان للنشر فور إكتمال تنقيح المحتوى النثرى بإذن الله. فليهنأ أخى وصديقى الشاعر العبق الكلام رقيق أبيات العاطفة الشاعر المبدع الذى تنساب من يراعه أيضا قذائف شعر محمل بالصدق ونابع من القلب كزخات رصاص من الأمانة التى تصرع الخيانة والكذب والخداع. فشكرا لمولانا عبدالإله زمراوى لأنه ضميرنا، وشكرا لروعة كلماته وقوتها، وفوق ذلك شكرى له لأنه كان لحوحا دائم التحفيز لى لأنشر ما أختزنت من أشعار.

وقد أزف الوقت لأن أبوح بنصوص كنت أختزنها لأزمان طالت. ومن ضمنها رثائيتى فى أخى شاعر سنار البروفيسور محمد عبدالحى. رجل كان كالنسمة، كأريج المودة الذى يتضوع حميمية وصدقا فيجذبك إليه ويحتويك عقله بمدارات فى الفكر والأدب والثقافة كما لم يتأتى لأحد غيره -- أو هكذا يخيل إليك. وكنا نشير إليه بعميد مدرسة الهمس وهم، مجموعة من الشعراء من جيله تميزوا بإنخفاض الصوت عند الحديث ورصانة فى الطرح ومنطقية فى ترافد الأفكار، وهدوء نفس محبب يجبرك على الإصغاء والمتابعة وكأنما يسرون إليك قولهم. وكان هو عميدهم وقدوتهم. ألا رحم الله الصديق الصدوق ومد له من كرمه نزلا يليق بشفافية قلبه النزيه وتواضعه الجم وحبه للخير والجمال والصدق. فلينم قرير العين؛ فقلوبنا تنبض بدعوات الحب له، وعقولنا تلتمع بجميل الذكريات من سيرته العطرة. وسع الله قبره ويسر رقدته ووهبه نعيما أزليا.

لكننى ما كنت لأجروء على نشر نص مرثيتى فيه دون تقديمها أولا لرفيقة دربه وقد كانت نعم الرفيقة والصديقة والزوجه والأم والمثال النموذج للمرأة المعطاءة؛ أستاذتنا وأستاذة الأجيال الدكتورة عائشة موسى السعيد، ذات الفكر المتوقد والعقل المعطاء، الأديبة، رفيعة القلم، رزينه الكلمة، مالكة زمام اللغات وضروب الأدب والشعر. وهى فى المشاعر روضة فيحاء لطالما أطنب، رحمه الله، فى التغنى بمزاياها. فما كان غريبا عليها أن تظل إلى جواره، فى صبر الزهاد، ساهرة وهو يغالب المرض. وتضم فلذات كبدها وضاح وشيراز ومعتز وريل بعد رحيله فى حنان يجعل الشعور بألم الفراق محتملا بعض الشئ كما فى مقولة شاعر الرومانسية البريطانى وليم وردويرث: "هناك سكينة فى متانة الحب تجعل الشئ مطاقا والذى لولاه لقلب العقل أو فطر القلب." فإجلالا لها رأيت أن أقدم القصيدة بين يديها أولا قبل نشرها كاملة لأول مرة. فلم ينشر منها من قبل سوى أبيات قليلات ضمن حديثى حول شاعرنا الراحل فى ذلك البوست الذى ذكرت عن الفيتورى. فلك كل التقدير و عزائى المتأخر أختى "عشه":
-------------------------
بوسطن 9 فبراير2016
-------------------------

فى سويداء فؤاد سنار مرقدك
************************

سنارُ قد خَمدتْ مشاعِلُها
وأُوُصِدتْ أبوابُها
وزوىَ البريق ُ على الوجوهِ
وأطبق القحط ُ المُقيمُ
"على التِّلال السودِ والأشجارِ"
والغاباتِ والصحراءْ
فما "رجعت طيور البحر فَجْرَاً
من مسافاتِ الغيابْ"
لتحاضن الأرضَ الخواءْ
ولا رقصت حوافرُ خيلنا
فى عز مجدٍ آفلٍ
وممالكٍ "زرقاءْ"
فحارَ دليلـُنا
وتسابقتْ أفكارُنا
لنعودَ بالذكرى
إلى رجعِ الصدى
يوم أنبريتَ لنا
تستنهضُ الهممَ المهيضةَ
ثم أطلقت النداءْ
وضربتَ فى أعماقِ تاريخٍ
وجبتَ أصقاعِ البلادِ
تدعو جحافلَ قومنا
لمدارج ٍشماءْ
ولبستَ من جلدِ النمورِ عباءةً
والفهدُ فى كفيكَ
صار مخالبًا
هتكت ستارَ الزيفِ والتضليلِ
وكلَّ فريةٍ بلقاءْ
وسمقتَ تقرعُ طبلَ العزِ
طنَّ نحاسهُ
والرأسُ مزدانٌ
بقرنى فارسٍ
طاقيةً صفراءْ
مُتَمنطقـًا درعا من
ظهرِ تمساحٍ
وغمستَ سيفكَ
فى المدادِ مخضبًا
فأعدتَ لنا
سنارَ زاهيةً
أنشودةً عصماءْ
وقدتَ جموعنا
آلافـًا مُؤلَفة
وجحافلاً تدعو
إلى رصِ الصفوفِ
لنخمدَ نارَ أحقادٍ
وحربَ الردةِ الحمقاءْ
فكنتَ بشيرنا للخيرِ
للآمالِ والأحلامِ
تنشرُ ودًا خالصًا
فلا تـُسفكْ دماء
طَرِبَتْ سنارُ نشوى
إليك تشوَّقتْ...
نادتْ عليكَ
ليحتويكَ فؤادُها
وبَسَطتْ فراشك َ
فى رحمِ الحشا
ليضُم نـُبلكَ
طمىُ النيلِ والحصباءْ
-----------------------
عبدالرحمن إبراهيم محمد
بوسطن - الولايات المتحدة
31 أغسطس 1989