هند الحناوي.. ومجتمع يفيق من إغفاءة



إكرام يوسف
2006 / 5 / 26

في نفس هذا المكان، كتبت قبل عام مقالا بعنوان "الفيشاوي والحناوي.. مجتمع يفقأ عينيه بأصابعه".. عن قضية أحمد الفيشاوي الممثل الشاب وابن الأسرة الفنية المشهورة، والمذيع بأحد البرامج الدينية الفضائية؛ الذي ارتبط بعلاقة زواج عرفي مع هند الحناوي ابنة اثنين من أساتذة الجامعات، بغير علم والديها. وأثمرت هذه العلاقة طفلة، رفض وأحمد الاعتراف بها. وظلت القضية تتداول في ساحات القضاء وعلى صفحات الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، إلى أن صدر حكم محكمة الاستئناف الأربعاء الماضي بنسبة الطفلة إلى أبيها. وهو حكم نهائي ملزم ولا سبيل للرجوع فيه وقالت المحكمة في حيثيات الحكم أنها اطمأنت تماما إلى أن الطفلة لينا جاءت نتيجة علاقة زوجية بين الفيشاوي وهند بشهادة الشهود.
وبطبيعة الحال، تناول القضية عدد من رجال الدين الذين اختلفوا في حكم الشرع من القضية ـ واختلافهم رحمة ـ فبعضهم تمسك بقاعدة "ابن الزنا لاينسب"، والبعض أفتى بصحة نسب الطفلة على أساس قاعدة "الابن للفراش"، وقيل في تأكيد هذا الرأي أن بعض الصحابة كان ابن زنا وتنازع أبوته خمس رجال، لكنه انتسب إلى الرجل الذي حددته والدته، ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبطل هذا النسب بعد إسلام الرجل الذي أصبح من كبار الصحابة. ورغم تشكيك البعض في صحة الزواج العرفي، إلا أنهم اعتبروا مصلحة الصغير فوق كل الاعتبارات وخشية اختلاط الأنساب أفتوا بنسبة الطفلة إلى أبيها تطبيقا للآية "ادعوهم لآبائهم" وإن حكموا بفساد الزواج.

اختلافهم رحمة

وبنيت مقالي السابق حول مسؤولية طرفي القضية وضرورة إيجاد حل يضمن تحمل الطرفين ـ على قدم سواء ـ تبعات علاقتهما، وعدم تحميل الطفلة مسئولية خطأ لم ترتكبه. واستعرضت وجهة نظر سادت في المجتمع وقتها من تحميل المسؤولية بالكامل على الفتاة "هند" والتماس الأعذار للشاب "احمد" وتصديقه في كل مراحل القضية رغم ثبوت كذبه أكثر من مرة ـ وفي أوراق رسمية ـ ففي أول التحقيقات بعد إبلاغ هند أنه سرق منها ورقة الزواج العرفي، أنكر الفتى تماما أنه يعرفها بالمرة. وهنا انهالت التعليقات التي ترمي الفتاة بالتجني عليه ومحاولة توريطه والسطو عليه باعتباره نجما شهيرا ومن أسرة مرموقة. وعندما تبين أن الفتاة من أسرة لا تقل عن أسرته ـ إن لم تكن تفوقها من وجهة نظر المجتمع ـ احتراما، لم يخجل المعلقون من اتهام أسرة الفتاة بالكامل بالرغبة في الشهرة. رغم أن أول من نقل القضية من ساحة القضاء إلى ساحة الإعلام كان صحفيون من أصدقاء الفيشاوي الذين اعتبروا القضية التي ظنوا أنهم ضمنوها قانونيا مع عدم وجود وثيقة زواج، فرصة لعمل دعاية واسعة حول الممثل الشاب تضمن له نجومية سريعة. بل أن البعض بالغ في التزيد واعتبر القضية مؤامرة من "العلمانيين" لتشويه صورة شاب مسلم ملتزم، يقدم برامج دينية لهداية الشباب. وعندما عاد الفتى تحت ضغط ظهور قرائن وأدلة على معرفته بالفتاة ليكذب، في تحقيقات رسمية أيضا، قائلا أنه شاهدها مصادفة في عمل جمعهما لكنه لا يتذكرها بالمرة، وبتوالي ظهور أدلة جديدة عاد ليعترف بأنه كان على علاقة بها، لكن إمعانا في العند ورغبة في الانتقام من الفتاة وأسرتها اختار أن يقول أن العلاقة لم تكن شرعية، وقبل على نفسه أن يصبح في نظر المجتمع زانيا وأن تصبح طفلته ابنة حرام، أملا في أن ترجح كفة من أقنعوه بفتوى "ابن الزنا لا ينسب". واستفزني كثيرا أن أجد قطاعات كبيرة ـ من الشباب خصوصا ـ حريصة على تصديق الفتي في كل مرة يكذب فيها، وينتقل من كذبة لأخرى. وحتى عندما اعترف بارتكابه جريمة "زنا" لم يعدم من يبررون له "شاب وأخطأ وإن شاء الله ربنا يغفر له". ولم تجد شريكته في العلاقة التي قبلت أن تواجه خطأها بشجاعة هي وأهلها وأن تعترف بالخطأ وتقبل أن تدفع الثمن على أن يدفعه معها شريكها صونا لحق طفلتهما، لم تجد بين هؤلاء من يقول "فتاة وأخطأت واعترفت بخطئها ولم تكذب وسيغفر الله لها"..بل انهال عليها وعلى أهلها الكثيرون بالتشهير كما لو كانت أنجبت من خطيئة ارتكبتها وحدها.

وبصرف النظر عن الحكم الفقهي، وله أربابه من أهل الذكر، إلا أن حكم القضاء النهائي والملزم يثير في الذهن عدة أفكار جديرة بالتأمل. فكم من بيوتنا العربية ـ من المحيط إلى الخليج فلا أستثني أحدا ولا يستطيع أحد المزايدة ـ يرتكب الشباب أخطاء دون أن يعلنوا عنها؟ وإلى أي مدى يساهم التستر والإخفاء في استمرار الخطأ واستفحاله؟. وكم من الأخطاء يدفع ثمنها مرتكبوها؟. وكم من الأسر التي تعلم بدقة أسرار بناتها وبنيها؟ وما عدد الآباء والأمهات الذين يستطيعون احتواء أبنا أخطأ أو ابنة أخطأت، ويأخذون بيديه/ها إلى جادة الصواب؟ وعلى النقيض كم عدد الفتيات اللاتي اضطررن للهروب من أسرهن والتمادي في الخطيئة، أو الانتحار بمجرد ارتكابهن خطأ ـ ربما يكون مجرد أنها شوهدت تتحدث إلى أحد الأقارب أو الجيران ـ خشية التعرض للقتل؟. لقد جرت العادة في معظم مجتمعاتنا على التحجج بذريعة "الستر" لإخفاء أي خطأ من هذا النوع، ويتمثل هذا الستر إما في التخلص من الفتاة، بعد إجبارها على الإجهاض إن كانت حاملا؛ بمعنى ارتكاب جريمة قتل. أو التحايل طبيا بإجراء عملية جراحية تعيد للفتاة عذريتها، ثم تزويجها لأي شخص بدون إبلاغه بالحقيقة؛ مما يعني جريمة غش وتدليس. كل ذلك بدعوى الستر الذي هو في الحقيقة تستر على الجاني الشاب الذي يجد نفسه غير مطالب بتحمل مسئوليته مما يشجعه على تكرار التجربة أكثر من مرة.

بين أهل وأهل

لقد نشرت صحف عربية في فترة متزامنة مع موضوع "هند" قصة فتاة عربية لم تتعد السابعة عشر خرجت مرة مع صديق لها، وعندما تأخرت خشيت العقاب، فظلت هاربة شهرا كاملا تداولتها فيه أيدي 17 شابا، حتى ضاقت نفسها فلجأت إلى الشرطة التي استدعت والدها فما كان منه إلا أن أحضر للشرطة ملابسها وقال لهم: "ليس عندي بنات". وغيرها من القصص التي باتت حديث المجالس والصور التي تتناقلها منتديات الإنترنت وأجهزة الجوال لفتيات من أسر محترمة، لكنهن لم يجدن في هذه الأسر والدا مثل الدكتور حمدي الحناوي والد هند أو الدكتورة والدتها. مأساة هؤلاء الفتيات أنهن خلقن يتيمات رغم وجود الأب والأم. وإلا فأين السند والدعم الذي تنتظره كل فتاة من أهل متفهمين وقادرين على انتشال أبنائهن من هوة الخطأ حتى لو تعثرت خطواتهم؟ . أعتقد أن قضية هند الحناوي كان لها جانب إيجابي، وهو أنها فتحت عيون الكثيرين على أن الأبوة والأمومة ليست مجرد توفير حياة سهلة للأبناء. وأعادت إلى أذهاننا أفكارا كنا نرددها دون أن نطبقها "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر"! .. ولكن أحجارا كثيرة ألقيت على هند وأهلها من أشخاص تمتلئ حياتهم بالعديد من المخازي التي نجحوا في إخفائها بأقنعة ضمنت لهم احترام مجتمع يعشق الرياء. "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابين".. لكن الكثيرين رفضوا اعتراف هند بالخطأ، بل ويا للوحشية! اعتبروا اعترافها جريمة مجاهرة. رغم أن قضيتها أحدثت صدمة مجتمعية ودقت ناقوسا أفاق على صوته كثيرون، ومازال البعض هانئا في غفوته إلى حين. تحية لشجاعة هند في الاعتراف بالخطأ التي هي أشرف وأطهر من كثيرات وكثيرين يلقون احتراما بفضل التستر عل ما يرتكبون بعيدا عن الأعين. وأحني الرأس احتراما لوالديها اللذين ضربا المثل في المعنى الحقيقي للأب والأم اللذين يحتضنان..ويحتويان.. ويسندان.. ويواجهان العالم كله بصلابة وشجاعة من أجل حصول ابنتهما على حقها.. وهنيئا للثلاثة ما حققوه من نصر لقيمة العدل والمساواة..قبل أن يكون انتصارا شخصيا لهم