-هذا ما جناهُ عليّ أبي وما جنيت على أحد-



فتحية علاية المعاوي
2020 / 1 / 1

عندما تلتحم النّطفة داخل جدار البويضة ثم تتحوّل البويضة إلى مضغة إلى حين تشكّل الجنين ونموّه داخل أحشائنا، يولد فينا نحن الأمّهات هوس عميق وهاجسي لكيفيّة ضمان الحماية اللاّزمة لصغارنا. يصاحب هذا الهوس المعرفة الحقيقيّة للإنسانيّة من المنظور الأمومي البحت. يتطوّر نموّ الجنين يوما بعد يوم في داخلنا على النّحو الذي يفتح أعيننا أكثر على قضايا هذا العالم الرّديئ و الموصوم بكلّ اللّعنات على إختلاف أشكالها.
وعندما يحين موعد استقبال الحياة لهذا الجنين، يبدأ الشّك بنخر عظامنا حول صحّة قرار الحمل وفي إمكانيّة أن يكون أكبر خطأ ارتكبناه في حقّ تلك الكائنات البريئة والتي تختزل أعظم معجزات الكون في خلقها. فنؤيد بذلك قرار أبي العلاء المعرّي في أن لا ينجب الأطفال كي يجنّبهم آلام الحياة "هذا ما جناهُ عليّ أبي وما جنيت على أحد" .
ندرك بذلك شدّة جهلنا او ربّما تجاهلنا العمد لفضاعة العالم ومآسيه و لعدد الأطفال الذين يموتون كلّ ساعة وكلّ دقيقة من أهوال الحرب والمجاعة والبرد والعطش والكيمياوي وتفشّي الأوبئة في زمن نتفاخر بأن نطلق عليه زمن"الحضارة" .
وهناك أطفال رضّع يهلكون لعدم توفّر أماكن دافئة تقيهم تجمّد الدّماء في شرايينهم أو لعدم توفّر قطرة حليب من شأنها بعث الحياة في أوصالهم ليوم أو ربما يومين إضافيين.
وهناك أيضا الأطفال الذين هم على قيد الحياة ولكنهم يعيشون على أنغام القنابل والرّصاص في كلّ لحظة من لحظات حياتهم.
وكذلك الأطفال الذين يفيقون من سباتهم مرتعدين جرّاء كابوس ما ولكن لا يجدون حضنا قادرا على تهدئة خوفهم وتجفيف دموعهم ومنع أجسادهم الصّغيرة من الارتجاف.
ولا ننسى أطفال الشّوارع و الأطفال الذين لا ترى فيهم الوحوش الآدميّة المفترسة سوى أعضاء بشريّة جاهزة للبيع لمن يملك القدرة على الدّفع...
وهنالك الأطفال المتروكين على عتبات الملاجئ لا لشيء إلّا لأنّ الأب والأمّ غير مؤهّلان لتحمّل مسؤوليّة تربيتهم عكس كفاءتهم في الانصياع وراء غرائزهم الحيوانيّة.
وهناك الأطفال الملقاة جثثهم على الشّواطئ نتيجة محاولة بائسة للهرب من ويلات الحروب التي أغدقها عليهم حكّامهم. فتناوب بذلك الحاكم ومن بعده البحر على لفظهم خارج حدود جغرافيّتهم.
وهناك الرضّع غير مكتملي النّموّ والذين سلّموا لذويّهم معلّبين في الصّناديق الكرتونيّة بعد خطأ في تشخيص التلقيح المناسب.
ولا ننسى تلك الأجنّة التي لم تحض بفرصة لقاء مع الحياة إلّا وهي مفكّكة لأجزاء وكأنّها لعبة فكرية لم يقع صنعها إلاّ ليتمّ تفكيكها و إعادة تركيبها. غير أنّ الفارق الوحيد بين الجنين وهذا النّوع من الألعاب هو أنّه ما من سبيل لإعادة تشكيل أطرافه الصّغيرة بعد أن استقرّت في الوعاء المخصّص للإجهاض.
وهناك الأطفال الذين يولدون جاهزين للموت وليس للحياة كما تقول الكاتبة أحلام مستغانمي.
وهناك وهناك وهناك...
ومع هذا نصرّ نحن الأمهات على منح الحياة لعدد أكبر من ضحايا هذه الحياة. وننسى اننا نعيش ضمن أكذوبة "القانون الدّولي" الذي قتل وشرّد ويتّم وهجّر بإسم قانونه. فمتى نعي أنّها مجرّد شعارات ذات إخراج إنساني لسيناريو غير إنسانيّ بالمرّة؟