نشأة الكون ودور المرأة في الحضارة وظهور الأديان



محمد يعقوب الهنداوي
2020 / 1 / 8

نشأ الكون عن نغمة عشقت نفسها ففاضت مرايا لا حصر لها راحت تردد أصداءها في جوف العدم لتنسج في غياهبه أبعاد الزمكان ناثرة حبور التوهج راقصة متناغمة مع رحم السكون. وكلما أدركت النغمة أطيافها في المرايا ردّدتها بأجمل منها وأبعد شأواً لتمتد في أعماق العدم شذرات لا متناهية في كبرها ولا متناهية في صغرها مباهية بعضها بعضا بألق الحضور.

راحت دوائر تلك الاصداء تتداخل وتتفارق وتتفرع وتتناثر أمواجا تحت نظر النغمة التي استكبرت أن ترتضي إلا ما يحقق ذاتها وكلما صادفت نشازا أعادت تدويره في رحاب رحمها اللا نهائي حيث التناقض يلد تناقضا وتندغم المتناقضات لتخلق أبدع الأشياء والأشياء تحمل نقائضها كذلك لتلد من ثمّ اندياحاتها على شواطئ الوجود المتتالية كدوائر الماء وفيض النور الى ما لانهاية.

ولا تزال أصداء النغمة تتردد وتنمو وتنكمش وتمتد وتنداح سكرى أكوانا ومجرات لا حدود لمدياتها وفي مساماتها تتغلغل بروق أصداء لا متناهية الصغر لا تكف عن رقصها الأزلي على إيقاع عزفها البدئي.

وسواء وافقت هذه الرؤية هذيانات فلاسفة المثالية وأوهام الأديان أم خاصمتها، فالنغمة النبع في نشوة بهجتها لا تزال تستكشف مديات ذاتها متجلية في وعي وعلوم الانسان دهشة وانتشاء.

وفي غمرة تجلياتها أبدعت النغمة ما لا يحصى من الأشياء التي توالدت وتكاثرت واندثرت ومن بين صيروراتها اللا نهائية في غمرات الزمكان ظهر كائن ضئيل لا يقوى على الوقوف ورعاية نفسه وحمايتها والتغذي إلا بعد حين، وكان لا بد له من أمٍّ ترعاه وتحميه وتنظفه وتغذيه وتعلمه وتربيه وكان اسمه الانسان. وكانت الانثى هي النبع والدفء والمأوى ومصدر الماء والغذاء والأمن والأمان وبؤرة الحياة والغاية والملجأ.

وفي مدلهمات الغياهب استقرت النغمة فينا وبنا على ذرى ذرة من ذلك الوجود الذي فاض عنها ولا يفتأ يتسع ويدور حول شمس أدفأنا دفؤها وقمر أضاء ليالينا، وعلى ضوئهما وايقاعهما رحنا نبحث عن رؤى وأفكار ومعارف تمنح وجودنا غاية ومعنى، فأسمينا هذه الذرة الصغيرة "بيتنا" و"أرضنا" وألفنا قمرها وشمسها، وأنبتت النغمة فينا عشق الحياة وعشق المعرفة وعشق الجسد وأسميناها شعلة الحب والرغبة وعشنا جماعات بفضلها.

وفي بدء كينونته كان الانسان يعيش في جماعات فطرية تقتات على ثمار الأرض وما تصطاده من حيوانها، وكانت تلك الجماعات تهرول مرتحلة من بقعة داهمها البرد أو الجفاف أو الكوارث سعيا الى بيئة أكثر اخضرارا وثمارا وأمنا.

وفي ذلك الارتحال الذي رسمت معالمه دورة الشمس وحركة القمر وتعاقب المواسم والفيضانات والأعاصير والزلازل للجماعة البشرية المتوحشة، كانت نساؤها الحوامل تشعرن بشئ من التعب فيجلسن يسترحن عند نبع ماء وبقعة خضراء.

وسدّاً لغائلة جوعهن، كانت تلك النسوة يجمعن بعض القمح البري ليقضمنه عند نبع الماء أو مجراه. وكانت الكثير من حبيبات القمح البري تلك تتساقط من أفواههن، كما انهن كنّ يتركن ما تبقى في المكان.

ولأن دورة الحمل والولادة والاستراحة التي تعقبها تقارب السنة، كان طبيعيا ان بعضهن كن يأتين نفس المكان في العام التالي وهنّ حوامل من جديد، أو يرافقن صويحباتهن الحوامل، فيلجأن الى نفس الموضع تقريبا ويكررن ما فعلنه من قبل.

ومع تكرار الفعل ذاته كل عام تقريبا، لاحظت تلك النسوة أنهن لم يعدن بحاجة الى جمع سنابل القمح البري لأنه أصبح ينمو في نفس الموضع بجوار الماء. ولأن الفضول من طبائع الانسان، حاولن أن يجدن صلة بين ما خلفنه من بقايا السنابل والحبيبات المتساقطة في العام الماضي وبين وجود السنابل الجديدة عند مواضع جلوسهن.

ومع تبادل الرأي ومحاولتهن فهم تلك الظاهرة، جرّبن أن ينثرن بعض السنابل عمدا في مواضع محددة اخترنها. ولدهشتهن، نمت سنابل جديدة في تلك المواضع في العام التالي. وهكذا اكتشفت المرأة تلك الصلة المذهلة بين دورة الحمل البشري والدورة السنوية لنمو القمح البري، وأدركن أن لا ضرورة للانتقال من مكان لآخر بحثا عن القوت ما دمن قادرات على استزراع القمح. وهكذا اخترعت المرأة مهنة الزراعة وأصبحت فلاحة.

ومع هطول المطر عليهن أحيانا كانت حبيبات القمح تبتل بماء المطر فيضطررن الى تجفيفها عند النار التي يوقدنها للدفء. ولاحظن ان تلك الحبيبات المبتلة المتلاصقة كانت تصبح أكثر طراوة وألذ طعما عند تجفيفها بتعريضها للنار، فصرن يتعمدن فعل ذلك بوضع حبيبات القمح في الماء ومن ثم تعريضها للنار قبل أكلها لتخترع المرأة بذلك مهنة صنع الخبز أيضا ليكون الى جانب اللحوم التي تشوى بتقريبها الى النار، أول طعام مطبوخ في التاريخ يتناوله الانسان.

أقامت تلك النساء نوعا من الأكواخ لأنفسهن اتقاء الشمس والمطر ولحفظ ما يمتلكنه من طعام، لتصبح تلك الأكواخ بعد حين مساكن دائمة لهن وتشكل بؤرا صغيرة لقرى بدائية لم تعد المرأة مستعدة للتخلي عنها، بل صارت تتحكم بمن يحق له دخولها فكانت المرأة بذلك أول مبدعة للاستقرار البشري وبناء القرى التي ستصبح لاحقا ركيزة الحضارة وحصيلتها ومستقرا للجماعة البشرية بما أصبحت تحتويه من مؤن ولوازم بدائية.

أما الرجل فظل يطارد الحيوانات في البرية فيصطادها ويأكل من لحومها ويتدفأ بجلودها، بينما استطاع ترويض بعضها ورعايتها والسيطرة عليها وقيادتها الى أماكن الرعي. وبذلك أصبح الرجل أول راعٍ في التاريخ مقابل دور المرأة الفلاحة وصانعة الاستقرار.

ولم تتوقف معارف المرأة وخبراتها المكتسبة عند ذلك، بل تعلمت، من خلال تعاملها اليومي مع مزروعاتها وتفقدها وتذوقها، أسرار النباتات ودورة حياتها وصلتها بالفصول ودورة الشمس والنهار والليل وأجزاء النبتة وفوائدها واستخداماتها المختلفة. فتعرفت على النباتات الضارة التي إذا أكلتها أصيبت بالإعياء والمرض، والنباتات التي تمنحها الحيوية والنشاط، والنباتات التي تشفي من الأوجاع أو تساعد على التئام الجروح وعضات الأفاعي ولسع الحشرات، والنباتات التي تمنح النشوة والبهجة الى حدود الهلوسة وإطلاق عنان الخيال، ومن بقايا الطعام المتخمر، وخاصة الفاكهة، تعلمت صناعة الخمور، فكانت كل هذه الاختراعات والتخصصات مرتبطة بها وظلت تحتكرها لأزمان طويلة أضافت من خلالها الى قدراتها الطبيعية ومعجزة منح الحياة بالحمل والولادة والارضاع وعلاقتها بصغارها، قدرات جديدة أصبحت من خلالها الطبيبة والساحرة ومصدر القوى الخارقة التي لم يكن الرجل يعرف عنها شيئا. وعزز ذلك من موقعها كسيدة للجماعة البشرية وإلهة معبودة مقدسة بكل ما فيها وما تفعله لدى جميع المجتمعات البشرية البدائية التي عبدت المرأة بوصفها صلة الوصل بالطبيعة وقواها الخارقة.