الحلوة



محمد أبو قمر
2020 / 2 / 6

لو تأملت جيدا في عيون أي امرأة ، أي فتاة مصرية ستكتشف أنها تشبه نادية لطفي ، جميلة مثلها ، تمتليء روحها مثلها بالحيوية ، دلوعة مثلها ومفعمة بالمرح ، وقورة مثلها وفي لباقتها ، الحلوة نادية لطفي كانت نموذج للمرأة المصرية التي تعرف قيمة الوطن .
المرأة المصرية بلا أي مزايدة أو ادعاء ليست جميلة وبهية وذات معدن نادر وحسب وإنما يثبت التاريخ المصري العظيم أنها هي التي بنت هذا الوطن وصنعت قيمه الأخلاقية النبيلة وأحاطت رجاله بالعناية والرعاية وكانت معهم يدا بيد وهم ينشئون هذه الحضارة المذهلة علما وفنا وعمارة وأخلاقا وقيما إنسانية رفيعة ، لا يقال وراء كل عظيم امرأة علي سبيل المجاملة ، فالحقيقة الأكيدة هي أنه وراء كل الفضائل العظيمة امرأة أكثر عظمة.
في طفولتي كنت أصحو علي صوت جدتي لأمي وهي توقظ جدي قبيل الفجر وتقول له : قوم ياراجل القمر ع الباب ، فينهض جدي علي عجل ويتناول فأسه ويرحل مصطحبا البهائم في رحلته اليومية إلي الحقل في هذا الوقت من الليل ، بينما تبدأ هي في تنظيف الحظيرة وكنس الدار وملأ الجرار ثم توقظ جميع أفراد العائلة وتعد لنا طعام الإفطار وتروح بعد أن نشبع تحكي لنا الحواديت والحكايات عن ست الحسن والشاطر حسن وحكايات أخري عن الحب والشجاعة والمروءة والإيثار والنبل ، وقبل أن يؤذن الظهر تكون قد أعدت الغداء علي الكانون ، ثم تكلف أكبر النساء في الدار سنا برعايتنا والإشراف علي تناولنا طعام الغداء بينما تحمل هي جزءا من هذا الطعام وتذهب إلي الحقل حيث يكون جدي قد أنجز ما عليه من عمل وأدي فريضة الظهر .
مشيت خلفها مرة دون أن تشعر بي واختبأت في الزراعات فرأيتهما هي وجدي يتناولان الغداء معا ، وبعد فاصل من المداعبات شديدة العذوبة والرقة والدلال والخفة والجمال تنهض جدتي وبيدها فأس صغيرة يسمونها المعزقة وتغطس في الحقل بين شجيرات القطن وتبدأ في خلع كل النباتات المتسلقة حول كل شجيرة من شجيرات الفطن .
وأنا في هذه السن الصغيرة كنت أظن أن وظيفة جدتي هي التنظيف والطبخ وملأ الجرار لكنني الآن موقن أنها كغيرها من النساء كانت تصنع وطنا وتربي عائلة وتنشيء شعبا وتبدع الحكمة بحكايتها وحواديتها وترسخ قيم النبالة والفروسية والشجاعة والشرف والفضيلة.
الحلوة نادية لطفي واحدة من هؤلاء النسوة المصريات اللواتي صنعن الوطن وصنعن قوته التي جعلت من مصر - قبل الهجمة الصحراوية شديدة التخلف - منارة للحكمة وللمعرفة ولقيم الحب والسلام ، الحلوة نادية لطفي هي واحدة من النسوة المصريات اللواتي أبدعن حكمة هذا الوطن وأمثولاته الأخلاقية والوطنية النادرة.
في أيام الثورة حين صعدت علي المنصة في ميدان مدينتي لألقي كلمة نظرت أمامي فوجدت حشدا هائلا من النساء والفتيات المفعمات بالجمال والحماسة ، كن ينشدن أغان وطنية ألهبت روحي ، ياللهول!! ، أكل هؤلاء الجميلات جئن من أجل الوطن؟؟!! ، أنا نسيت ما رتبته في ذهني لكي أقوله ، نسيت تماما غير أنني وجدت نفسي أقول : مادامت المرأة المصرية العظيمة أرادت شيئا فسيكون ، وقد كان وتحقق لها ما أرادت ، وأظن أننا لن نتخلص من حالة الانحطاط الفكري إلا بإرادة وعزيمة المرأة المصرية.
أنظر إلي أي امرأة مصرية ، إلي أي فتاة مصرية ، تأمل فيهن متجاوزا آثار الهزيمة الحضارية التي فرضت عليهن الانكماش حول ذواتهن وأجبرتهن علي دفن أنوثتهن في أعماق أرواحهن ، تأمل في عيونهن مليا متجاوزا كل السخافات والبذاءات التي تصورهن كأوعية كل وظيفتها هي امتاع الرجال ، تأمل في أرواحهن المفعمة بالأنوثة والدلال وحب الحياة متجاوزا كل الدعاوي القميئة التي تآخيها مع الشيطان ، تأمل فيهن بعينين يود صاحبهما أن يزيل عن عينيه الظلام الذي كثفته في حياتنا خرافات المخرفين ستكتشف أن جميعهن في جمال وحلاوة نادية لطفي ، نادية لطفي كانت بنت مصرية بهية وجميلة مثل حكمت وسماح ووفاء وأمل وهديل ونهال ونوران وشيرين ويسري .
لن يدوم هذا الوضع البائس طويلا ، فالمرأة المصرية مازالت تلعب نفس الدور في صناعة الوطن وفي تنشأة الأمة وهي مضطرة إلي مواراة جمالها النادر تحت ضغط هذا الشذوذ الفكري الذي يعتبر جميلة مثل نادية لطفي مجرد مشخصاتية مآلها إلي النار.
سلام عليك أيتها الجميلة المصرية