أين أنتم من حقوق الإنسان عندما تساهمون في اضطهاد المرأة؟



أكرم شلغين
2006 / 6 / 6

عندما أَعَد موقع "الحوار المتمدن" إصداراً خاصاً عن المرأة في يومها العالمي لم أستطع المشاركة به ليس لأنني أفاضل في أهمية مسائل دون أخرى وإلا لكان للمرأة الأولوية لما تستحقه قضيتها من تفحص ومراجعة، ولا لأنني أعتقد أن الكتابة عن المرأة هو شأن أحق به الأخيرة نفسها، بل لأنني كنت، ومازلت، أخشى الإفراط في التبسيط في العرض لموضوع بالغ الأهمية كهذا وأن يؤدي التركيز في الكلام عن حقوق المرأة ضرورةً، بالشكل الذي يسمح به حجم مقال معد لمناسبة، إلى صرف الانتباه، من بين الإغفالات الأخرى، عن أبعاد الموضوع السوسيوبوليتيكية والجذور الثقافية له، إلا أنّ ما تفوّه به أمامي من يُفترض أن يكون مدافعاً عن المرأة بحكم عمله يدفعني إلى الكلام عما تحاشيت الخوض به سابقاً، ففي جلسة يتحدث فيها مجموعة من السوريين عن الشأن السوري وعما يشبه الغياب التام للجيل الشاب عن ساحة العمل الوطني والضعف الملحوظ في مشاركة المرأة بالعمل السياسي انبرى أحد دعاة حقوق الإنسان السوريين ليتحفنا بمفاهيمه وملاحظاته حين قال إن المنظمات والأحزاب تفتقر إلى العنصر النسائي باستثناء حزب العمل الشيوعي لأن أعضاء الحزب المذكور – على حد قول داعية حقوق الإنسان هذا- "بيجتمعوا وبعدين بيختموا بحفلة نيا...ــة.... " [أي يعقدون الاجتماعات السياسية ثم يختمونها بحفلة جماع...].

لوتناسينا لبرهة الصدمة في قول يأتي ممن أتى منه وتعاملنا معه من أي باب شئنا، كان ذلك بسعة صدر وتفهم على أساس "اغفر لهم ...إنهم لا يدرون ما يفعلون" [ويقولون] أم من منطلق العكس وهو "لا تغفر" لهم.إنهم يدرون ماذا يقولون وماذا يفعلون، فإننا لن نتناسى أن هناك مشكلة كبيرة ثنائية الأوجه (بخصوص المرأة وبخصوص الجنس) قابعة في تفكير "داعية حقوق إنساننا" وأمثاله يجب تبويبها، توصيفها والحديث عنها، فالقول المقتبس أعلاه يحكي، أكثر من أي شيء آخر، عن التركيب الذهني لقائله وكيف ينظر إلى المرأة وكيف أنه يُضيّق أهداف العمل السياسي ليحصرها ضرورة في الممارسة الجنسية بما يفهمه من وجود المرأة جنباً إلى جنباً مع الرجل في ميدان العمل السياسي؛ بل ويتعدى قوله الحدود المعلنة ليصل ضمناً في مدلوله إلى حد اتهام من ينخرط في العمل السياسي مع شريحة ما أن دوافعه جنسية. لا شك أن لصاحبنا نظرة متخلفة للمرأة حين يراها تعمل وحين يراها تنشط وحين يراها بالمطلق محض مشروع جنسي، وإذا ما أردنا توصيف حالته لا بد لنا من أن نركز عموماً على الشروط التي أنتجت مثل هذه الذهنية. إذ لا يوجد لمفاهيم الجنس والجنسوية لدى "داعية حقوق إنساننا" معنى أو معان متأصلة (inherent) في داخله لكنه بالتأكيد اكتسبها خلال مراحل بدأت مع تنشئته وتثقيفه (enculturation) مروراً بكل شيء آخر إلى أن حط على موقع تختزل فيه المرأة إلى مشروع جنسي، ولا يستطاع رؤيتها من خلاله على أنها الشريك المعادل للرجل.

ليس زائداً، ونحن نتفحص ذهنية مفاهيم داعية حقوق إنساننا، أن نتذكر هنا ما أشار إليه، في سياق الدراسة التاريخية الاجتماعية، فريدريك إنجلز من خطأ تاريخي للمرأة ارتكبته بحق نفسها في الفترة الانتقالية من المجتمع الأمومي إلى المجتمع الأبوي حين ارتضت أن تكون أداة لنقل الملكية من السلف الذكر إلى خلفه حيث قبلت بالدور الذي أنيط بها، الأمر الذي أصبح بداية لسلسلة مفتوحة النهاية من الممارسات الجائرة بحق المرأة. ولا نأتي بالجديد عندما نلاحظ معاً أن المجتمعات البشرية رَكّبت كل شيء عبر التاريخ بشكل يتحيز به ضد المرأة، يهمشها، ويغيبها. وهذا لا يبدأ مع النواميس والمعايير اللغوية التي تركز مفرداتها، بشكل عام، على الشخص المذكَّر على أنه الموجود، الفاعل، والذي تقاس له، وعليه، المرأة وكافة المخلوقات والأشياء إلى الحد الذي يجعل الكثير يرتبك في الاستخدام اللغوي الدقيق في تسمية المرأة جندرياً (من الـ gender أو جنسانياً من الجنس في التصنيف اللغوي) في موقع عملها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يدري إن هي "عضوة" أم "عضو" في مكان كذا، ولا يبدأ التحيز ضد المرأة مع الديانات التي تشرعن في معظم الأحوال لعلاقة المرأة التبعية بالرجل أو على أساس من أنها متاع (في الدنيا ومتاع في الآخرة) لا أكثر أو أن وظيفتها تنحصر بشؤون الأسرة، ولا ينتهي بالتركيب الثقافي الاجتماعي الذي يقرن حضور المرأة في محفل عام مع الرجل بنوع من التدخل الخطر في ما يوصف بـ "نظام الأشياء" (the Order of Things) الذي لا يجوز الإخلال أو المساس به. وبالتأكيد يُفهم ذلك ضمن أطر عديدة في طليعتها امتلاك ما يسمى بـ"القوة" (power) وممارستها من قبل الذكور في المجتمعات.

من البديهي، في ظل ممارسة القوة، أن يكون هناك شبه تزاوج ما بين الخطابات المنتجة برمتها ذكوريا لتركيب قواعد اجتماعية يُشرعَن لها تارة عبر الدين وأخرى عن طريق تسويد العرف والعادة (Norm) وثالثة من خلال "ضرورة" مُنتَجة لتناسب زمان ومكان إنتاجها. من هنا، وتطبيقاً للأيديولوجيا الذكورية وخطاباتها، تصبح المرأة الغائبة (بالأدق المُغيَّبة) عن المحافل العامة هي المعتمدة والتي تمثل "صنفها" (أو جنسها) بخيال وتصور ومفهوم الرجل، وأما المرأة الحاضرة (خلافاً لما ينظمه عرف، عادات، تقاليد ودين "نظام الأشياء") فتشكل تحدياً للرجل وما أرسى له من قواعد تخص المرأة والعلاقة معها وما يتوقعه منها. وبالرغم من أن هذا التحدي لا أساس له واقعياً ولا يشكل منافسة جوهرية للرجل أوما إلى ذلك، ماعدا ما رُكّب اجتماعياً (socially constructed)، إلا أن الرجل يقابل ما فهمه "تحدٍّ" بكل ما يستطيع من وسائل عنيفة، بما فيها العنف الجسدي، والتشهير والتشويه: مرة كون المرأة خرجت على القواعد العامة التي تقتضي تغييبها وأخرى، لا تقل أهمية عن الأولى، كون عملها يحد من تبعيتها الاقتصادية للرجل (وهو ما لن نبحث به هنا)، فوجود المرأة في العمل والمحافل العامة، من هذا المنظار، كاف لدمغها بكاسرة المألوف أو المتحركة بدافع "الغرائز" وما يشبه ذلك من صفات تشيطن، تشوه وتعهر المرأة الحاضرة. ضمن إطار حضور المرأة وغيابها عن الميدان العام يبقى أن نتذكر أن الأفظع في علاقة الرجل بالمرأة هو الوجه الاستغلالي حين يرغب بحضورها مادامت، حاضراً أو مستقبلاً، ستبقى خارج دائرة حياته الخاصة، وهنا لا نرى المبرر لذكرالأمثلة التي لا تحصى على هذا الشكل من العلاقة بل نذكر بما تنبهت له الأديبة الفلسطينية سحر خليفة حين وضعت هذه المشكلة، وبأكثر من جانب، في دائرة الضوء بسردها البعض من ضيم المرأة الفلسطينية في علاقتها مع الرجل والتي تتشابه إلى أبعد الحدود مع هموم معظم نساء منطقتنا ـ وإن كان ذلك بتفاوت من حيث الشكل الخارجي لطبيعة المؤرقات ـ وفي أي بلد في المنطقة، ففي مثال لخليفة تتكشف انتهازية الرجل الذي لا يستطيع أن يفكر بعلاقة ارتباط زوجية مع هذه المرأة أو تلك بناء على أسس تتماهى في واهيتها حين تكون الذريعة أن تلك الفتاة عندها "ثلاثة مسيلات" (أي تعرضت لمسيلا ت دموع أثناء مشاركتها بمظاهرة لم يعارضها الرجل حينها بل فرح انطلاقاً من أنها تبغي "مؤازرته").

من البديهي أن لاتقتصر صيغ مسألة الهيمنة الذكورية في المجتمعات المركبة على هذا النحو من التباين (disparity) على إعادة إنتاج الخطاب الذكوري بل تتنوع أشكال وأنماط التعاطي في المجتمع إلى ما فيه، الشرعنة والتطبيع بحيث تصبح مظالم الذكر ضد الأنثى ممارسة اعتيادية لحق طبيعي غير قابل للنقاش، بل وأكثر حين لا ترى المرأة في الجور المطبق ضدها من قبل الرجل إلاحكمة دينية أو ضرورة اجتماعية، نرى ذلك بأنماط التعامل الاجتماعية السائدة عموماً ونراه في أصغر تفاصيل مظاهر الحياة اليومية، فـنادراً ما نسمع أن تسخير المرأة للأعمال المنزلية يدخل في تصنيف "العمل" بحد ذاته بل هو واجب طبيعي على المرأة وأقل أهمية من أن يقبل النقاش حتى لدى الكثير من النساء. ونراه أوضح في تبعية المرأة الاقتصادية الاجتماعية للرجل، الوضع الذي يتمظهر بممارسات تبدأ بتخللي المرأة الطوعي عن الكثير من ذاتها لصالح الرجل بدءاً من التخلي عن اسمها عند الزواج لصالح اسمه وكنيته وبنفس الوقت لتصبح عرفاً زوجة فلان، بل وأصبح العرف أن المرأة نفسها تقبل هذا النموذج من التبعية وتعتبره إعلاء اجتماعي من شأنها حين تكنى بزوجها، مروراً بقبولها أن دورها الاجتماعي يتلخص في بقائها في البيت للإهتمام بالشؤون المنزلية والأسروية، والغريب أكثر أن البعض يرى بهذا الدور المغيِّب للمرأة تحرراً لها!

نعود لصاحبنا داعية حقوق الإنسان السوري لنوضح أنه اكتسب التحيز ضد، الاستعلاء على، والشكوك في المرأة مع كل ماتشربه من كراهية ونظرة دونية في حياته منذ صغره وحتى اللحظة التي نضح فيها بما يحتويه أي عندما وازى بالضرورة وجود المرأة في حزب سياسي بطقوس جماع جنسي، تشربه عندما تعلم دينياً أن كلمته أعلى من كلمتها، وأن حقه في الميراث والتملك يساوي حق امرأتين، وعندما تعلم أن النساء يشغرن من الوفاء حين قرأ: "يكسرن قلبك ثم لا يجبرنه وقلوبهن من الوفاء خلاء،" تعلمه مع ما تعلمه من الأمثال و"الحكم" و"الأقوال المأثورة" التي طالما افتخر الذكور وطُربوا بترديدها، وتطويرها، مثل "كل النساء عاهرات إلا أمي.." ويتابعون "ومع ذلك فهي إمرأة"! تعلمها مع أول ما فعله عندما فتح عينيه في الصباح وأدار المذياع ليستمع لبرنامج صباحي أحبه وبدأ يومه به مثل الغالبية عندما سمع "مرحباً ياصباح" حيث دس بين أغاني فيروز (التي نحبها ونقدرها حقاً ولا تعليق لنا عليها) بـ "النصح والحكم" حين سمع صوت مقدمة البرنامج تقول: "يتطلع المرء لفم المرأة للابتسامة التي يرسمها ويتطلع لفم الرجل للكلمة التي يقولها" ومن ثم تتبعها بالقول "المرأة التي ليس لها أسنان جميلة تستطيع أن تضحك بعينيها"، وتعلم أن المرأة هي مادة تجريب وتفريغ شحنات عواطف الرجل، وحتى عندما أراد ان يتغنى بالمرأة وبحبها فقد تعلم من شعرائنا الكبار ـ والذين أحبوا وجربوا من النساء "عشرين ألف" ـ أن يرى في المرأة فقط "فم"، "عينين"، "وجنتين"،"نهدين" و..و.. من اختزال وسمات (blazon) لاتخرج من دائرة الوصف الجسدي.

وإذ نحاول فهم داعية حقوق إنساننا على هذا النحو من تجسيد لمجمل الشروط التي أنتجته يبقى لزاماً علينا أن نتساءل فيما إذا كان يتوجب أن نأخذه بالرعاية ونقول إنه يستحق الشفقة لأنه ضحية بحد ذاته ولا يعرف أفضل من ذلك أم أن الصواب أن نواجهه، وبالأخص كمن يزعم الدفاع عن حقوق الإنسان، بالشرخ الكبير والتناقض الحاد بين ما يدّعيه قولاً من دور اجتماعي حقوقي وبين ما يجسده واقعاً اتهامه ـ عن وجود العنصر النسائي في حزب العمل الشيوعي ـ من ضرر اجتماعي سياسي! وإذ استعرض ما عرفته من غيره، والذين يتبجحون بدور هم متنافرون مع في الصميم، فإنني أميل إلى الاعتقاد أنه يعي ماذايقول وماذا يفعل، ويذكرني هذا بعيّنات أخرى من متعلمي "بلادي" في تعاملهم بهذا المضمار، وأورد واحدة منها هنا. في النصف الأول من التسعينات زارني في بريطانيا أحد السوريين الذين تصادف وجوده هناك بنفس الفترة التي كنت بها هناك، بعد قليل من وصوله إلى سكني أخرج كاميرا تصوير وبدأ بالتقاط الصور لجاراتي في السكن في نفس المنزل وسط استهجانهن لسلوكه خاصة حيث كان يبرر ذلك بأنه يريد أن يحكي في سوريا ليقول "انظروا إلى المرأة في العالم ..كيف تعيش..."إلخ وبعدها بدأ يحدثني عن همومه الكثيرة في سوريا حيث هناك "اضطهاد حقيقي" في التعامل مع المرأة ويريد التصدي للمشكلة من خلال عمله في التعليم الجامعي حيث سيروج لموضوع النسوية (Feminism) ليعلم الطلاب والطالبات في "الجامعة" بسوريا عن المرأة وحقوق المرأة ونصرة المرأة، وأطنب في الحديث عن المرأة حتى ظننت أنه قاب قوسين أو أدنى من ذرف الدموع بسبب كثرة المظالم الواقعة على المرأة في "بلادنا" بعد أن تفتقت جراحه لدي رؤيته المرأة في أوربا. بعد بضع سنوات من ذلك، والمشهد هذه المرة ليس في أوربا بل في سوريا وفي الجامعة باللاذقية وفي مكتبه، يتناول ذات "نصير المرأة" سماعة الهاتف ويتكلم مع شخص سمعته يخاطبه بـ"سيادة المقدم نزيه..." فيطلب منه "أربعة عناصر جدعان..." يحتاجهم في المساء ليقوم معهم بجولة داخل الجامعة من أجل تربية هــ"الكام طالب حقير" ومن يقفن معهن في العتمة من "البنات الفلتانات"!! كدت أن لا أصدق ما رأيته وسمعته! فلم أكن أتوقع أن كلامه لي في بريطانيا عن تحرر المرأة يعني في سوريا أن تبتعد الطالبة الجامعية عن الوقوف مع زميلها الطالب تحت طائلة المسؤولية والشرشحة من قبل العناصر "الجدعان" يرأسهم نصير المرأة الأكاديمي، ولم أعد أعرف فيما إذا كان صاحبنا ذو نوايا "طيبة" في بريطانيا ولسبب ما لا يستطيع المضي قدماً في الجهر بها! أم أنه، في الواقع، يريد التغيير نحو الأسوأ في سوريا! لكن، وفي كل الأحوال، لا أسرح بتفكيري إلى الحد الذي أخال به أن سلوكه ليس مقصوداً ومدروساً، فكيف تُفهم المناداة بحقوق المرأة السورية في جلسة غير رسمية وضيقة في بريطانيا ونقمع المرأة عندما نكون في ساحتنا ونحن في موقع القرار!؟ كيف يمكن تفسير سلوك من يدعي المواقع الطليعية بخصوص قضايا المرأة في السر وأما في العلن فتقوده دوافع يمقتها الجميع إلا من يفتتي بآراء أصولية وبأعراف بالية!؟ وسحباً على ذلك نسأل من يدعي العمل من أجل حقوق الإنسان في سوريا عما إذا كانت الحقوق تشمل المرأة أيضاً لديه!

تكثر الأسئلة حول هذا الموضوع، وتكثر معها الحاجة لتذكير المرأة بإبراز صوتها وعدم الإستسلام لصوت الظلم وثقافة الإضطهاد، وأن عليها أن تقول أنها تعشق الحرية وتكره الظلم، و تستنير بالحرية ولا تريد أن تستظلم بقلب قبيسية لونه أعتم من لون ثوبها، وكذلك لتذكير العلمانيين بأن صوتهم سيختفي ماداموا غير جادين في إسماعه والدفاع عنه.