الثورة اللبنانية.. المرأة والحرية



هوازن خداج
2020 / 3 / 8


فارس وتّي هوازن خداج
من تونس إلى سورية، شكّل حضور المرأة في ثورات الربيع العربي إشارةً واعدةً، بأن المرأة أصبحت حلقة مهمّة في إحداث التغيير، وستكون شريكًا فعليًا للرجل في “البناء القادم” الذي يُفترض انبثاقه عن هذه الثورات. لكن خيبة ثورات الربيع العربي، بتجاربها المختلفة، لم تقتصر على عدم قدرتها على تغيير الواقع المُعاش، وتثبيت ركائز جديدة لبناء مغاير يردّ الاعتبار للشعوب ويلغي حالة التهميش، بل كانت وبالًا على بعض الدول والمجتمعات بأطيافها كافة، مع تفاوت النسب، لتظهر مفارقتها الواسعة مع انطلاق الثورة اللبنانية، التي كانت فيها المرأة صورة الثورة ومحرّكها.

زوايا مختلفة ومتباينة كانت ترافق وجهات النظر حول الحضور النسَويّ البارز في ثورة لبنان، فبينما ذهب كثيرون إلى اعتبارها إشارة لتغيير أفق القوننة المجتمعية للمرأة، بمساراتها المختلفة التي تصبّ في قمقم التهميش والنظر إليها كتابع متأثر بالحدث العام، حيث تمّ وضعها في المكان الصحيح كعنصر محرّك لبنى المجتمعات وفاعل بالحدث، ولها حقّ الانتفاض للدفاع عن الحقوق السياسية والاقتصادية التي تنال منها كما الرجل، لجأ البعض الذي ما زال مختبئًا خلف جدران الموروث المجتمعي ومتمترسًا خلف قوالبه الجاهزة، إلى اعتبارها مجرّد صورة يتابعها كنوع من الترفيه الاستهلاكي، أو أنها ناتجة عن خصوصية المجتمع اللبناني، وفي كلتا الحالين كان هناك عدد من الأمور الواضحة:

أولًا: تجاهل المتغيّرات التي حصلت فعلًا في واقع النساء وقدرتهن على تأكيد وجودهن بكل الطرق، وهذا لم يقتصر فعليًا على لبنان وحده، فكل الثورات العربية شهدت مشاركة واضحة لنساء أسقطن فكرة الكائن المغيّب عنه أبسط حقوقه الإنسانية، من اختيار الزوج وحقّ العمل إلى الميراث والمساواة في الحقوق والواجبات مع الرجل، وكانت في الصفوف الأولى في نداءات “الحرية”، قبل التحوّلات التي شابت مفهوم الثورات العربية، الذي ألقى بثقله على كاهل النساء، ووصل إلى حدّ الضرر من تراجع التمثيل السياسي للنساء، وانخفاض الحضور النسائي داخل المجالس النيابية والحكومات عمّا قبل الثورات، أو ارتفاع معدّلات العنف الذكوري والسلطوي تجاه المرأة، وزيادة التحرّش الجنسي بالنساء، كما في تونس ومصر، أو تحوّلها إلى بلاء على النساء في المناطق التي خرجت عن منطق ثورات التغيير كـ “ليبيا، اليمن، وسورية”، لتنهشها الحروب وتتقدم فيها الممارسات الوحشية واللاإنسانية، فارضة إيقاعها الطاحن في الدمار والفقر والفوضى والتشرّد على الجميع. وكثيرًا ما يجري استهداف النساء والفتيات بالعنف الجنسي والاغتصاب والدعارة القسرية وزواج القاصرات وغيرها من انتهاكات، تُمارس بأكثر من شكل على كلِّ من تتحكم في مصايرهم الظروف المعيشية الصعبة، التي تشلّ قدرتهم على رفض ما يُقترف بحقّهم تحت عنوان البقاء ولقمة العيش المغمّسة بالذلّ ونكران حقوقهم البشرية.

ثانيًا: الاستهتار بأن ما يراه هو صورة حيّة للمرأة القادرة على صياغة مطالبها ومطالب مجتمعها، بالطريق الذي تختاره خارج نمطية التفكير الذي يحوّلها إلى جسد ومشروع بضاعة جنسية. فتلقُّف الشارع لحراك نسَويّ متميّز بالجرأة والخروج عن الكلام المنمّق والتوسّل، جَعَله عُرضة لكثير من المهاترات والسخرية وتداول الصور على صفحات (فيسبوك) دون إذن صاحباتها، لتسخيف الدور الفعلي للمرأة، وهو ما كان واضحًا في ردود اللبنانيات على التحرّش الإلكتروني الذي شهدنه إذ كتبت بعضهن: “نحن مش سلع، ولا عم نعرض أزياء، وريحة المظاهرة مش بارفان، ريحتها قمع”. ليختصرن بكلماتهن واقعًا واسعًا من التشويه الذي تعيشه المرأة في أنماط التفكير الذكوري الذي ما زال قابعًا في اعتقاده بأن كل ما تفعله المرأة هو لإثارة غرائزه، وبالتالي لا يمكنه أن يرى في الثورة، ثورة كرامة وحقوق، وأن أولئك النسوة لَسْنَ عورات، وأن لديهن حناجر تهتف ضدّ الظلم والاستغلال وغيره.

ثالثًا: خطف المرأة اللبنانية -من كل الأعمار والطوائف- للأضواء في الثورة، وإن شكّلت خصوصية لبنانية ناتجة عن التغيير الواضح وغير التقليدي في المجتمع اللبناني، وتراجع العلاقة من الترتيب السلطوي الذكوري لصالح الحوار والمزيد من الفردية للجنسين، وما رافقه من استقلال في اتخاذ القرار والاعتراف بتغيير دور المرأة. فالثورات بمجملها تعبّر دومًا عن السياق الثقافي والاجتماعي الذي وُلِدت فيه، وقد كان لبنان سبّاقًا في مجمل قضايا الديمقراطية وحرية التعبير، أما نسبة التعاطي والقبول المجتمعي العربي للحضور النَسويّ في ثورة لبنان، وتأييدها من قبل شرائح واسعة ومتعددة، فقد جعل الاتجاهات التقليدية التي تؤمن بالموروثات التاريخية وفكرة النقص الأنثوي وسيطرة النمط الأبوي الذكوري أكثر اضطرابًا، حيث سُحبت من يدها قدرة الدفاع عن وجود الرجل كممثل للرجولة التقليدية وهو الآمر الناهي انطلاقًا من شؤون الأسرة، إلى مسألة الحراك السياسي وقيادته، وهذا المتغيّر لم يعد بالإمكان إهماله، لا على مستوى لبنان الذي بقيت المشاركة السياسية للمرأة فيه محدودة، نتيجة سلطة المؤسسات الدينية ونظام الحكم البطريركي أو مقتصرة على مبادرات قامت بها نساء بمفردهنّ، ضمن القانون الانتخابي الجديد الذي يركّز على الحصص الطائفية، ولا على مستوى العالم العربي ككلّ الذي يشهد متغيّرات مماثلة لمطالب النساء وإن كانت تسير ببطء.

رابعًا: السعي الحثيث من قبل بعض الهياكل الإعلامية إلى ترسيخ ثقافة الصورة وتنميط الواقع، وفق منظومة متهالكة من التفاهة والاستهتار بمطالب الشعوب والتركيز على الثانويات، وإن كانت سببًا في إشعال ثورة كالثورة اللبنانية التي يجري تركيز السبب فيها حول قضية الضرائب على تطبيق (واتساب)، بدل التركيز على كونها ثورة جامعة وعابرة للطوائف، وحّدتها مطالب تمتدّ إلى مناحي الحياة كافة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وما عاد بالإمكان الخروج منها إلا بإسقاط النخبة السياسية، بأركانها كلها “كلّن يعني كلّن” الذي يحمل في عمقه القدرة على إنهاء المحاصصة الطائفية، إن لم يكن حاليًا فمستقبلًا. لتكون اللعبة التي يمارسها الإعلام، في تفريغ المحتوى الفعلي، لعبة باهتة وبلا معنى، ولا تقتصر على مواكبة الأحداث المفصلية بل تمتدّ إلى مجمل ما يقدّمه داخل بوتقة الواقع العربي الزاخر بالتحدّيات والمتناقضات، فالهدف الأساسي للإعلام تعزيز النزعة الاستهلاكية، وخصوصًا في موقفه من قضايا المرأة. فهذا الإعلام ما زال بعيدًا من اتخاذ دوره الفاعل في تغيير واقع المرأة وأوضاعها المتردّية، ومعظم الأحيان يخرج عن الاكتفاء برصد الواقع النسائي بكل ما فيه من سلبيات وإيجابيات، ويتّجه إلى الترويج لمنظومة القيم الاستهلاكية، من خلال استغلال المرأة من الإعلانات إلى الثورات على حساب التراث والنهضة القيمية والثقافية العربية ومتغيّراتها الواسعة، التي ما عاد ممكنًا إقفال الأبواب واعتبارها عارضًا خاضعًا بكليّته للتيار العولمي الشكلي، بدل اعتبارها جزءًا من حركة التحرّر والمساواة، وأن هذه الدول -مهما سعت للبقاء داخل الجدران الموصدة- ستبقى نوافذها تستقطب المتغيّرات التي تفعل فعلها باتجاه بناء مغاير، لا يكتفي بتخمة التفكير البطريركي والوصاية الذكورية التي تعشّش وسط بيئات معزولة وبعيدة من مواجهة المكبوت المجتمعي في معظم المجتمعات العربية.

ما سلّطت الثورة اللبنانية الضوء عليه في طريقة تعاطي الإعلام مع المشاركة النَسوية في الثورة ومحاولة تركيزه عليها، لا كشريك مساوٍ للرجل في المطالب وفي التوحّد والحرية، وفي حمل الهموم نفسها، بل باعتبارها منتجًا إعلانيًا ترويجيًا وفنيًا، جعل الإعلام يفقد غلافه الرقيق بوجود رؤية متوازنة بشأن القضايا المجتمعية ككل، ومن بينها قضايا المرأة وأدوارها ووظائفها ومسؤولياتها.

ما حملته المجتمعات العربية والإسلامية ككل من عقم الموروث المجتمعي الضيّق، في جعل المرأة كائنًا من الدرجة الثانية أو العاشرة، ورفع الجدران التي تحاصر حقّها في العمل والتعلّم والتعبير والقيادة والثورة والحرية، لم يعد ممكنًا السير فيه، فثوب التبعية المعدمة الذي ارتدته المرأة سنوات طويلة صار أضيق من حاجة هذه المجتمعات إلى وجود المرأة شريكًا فعليًا في الأمور كافة من الاقتصاد إلى السياسة والمجتمع، فالنعومة لا تلغي المطالبة بالحقوق، بل يلغيها الخنوع وقبول الاستعباد.