المرأة والثورة



منى عوض الله
2020 / 3 / 8

تولد المرأة مناضلة. يضعها محيطها منذ بداية تكوينها أمام خيارات محددة محشوة في إطارات مصممة لتلائم ما يرتضيه لها المجتمع، فتظل تقاتل، إمّا داخليًا لتتأقلم مع تلك الخيارات، أو خارجيًا لتنقلب عليها وتجترح لها طريقًا داميًا خلافًا لخطة الوجود المرسومة لها مسبقًا.

ولا تستثني خصوصية الاحتلال المرأة الفلسطينية من هذه القاعدة، بل على العكس من ذلك تفرض عليها حالة من النضال المركّب تحملها على مضاعفة جهدها لتكون جزءًا من جسد المقاومة في حربها ضد العدو، إلى جانب نضالها ضد قولبتها ضمن دوائر المسموح والممنوع في قوائم تعاليم ذكورية تُملي عليها ما تقول وما تفعل وعلى أي هيئة تكون.

ليست الحرية ترفًا يرفل بثوبه هانئو البال وخليّو الأفئدة، بل هي غريزة يولد بها البشر مع جملة غرائزهم في الحياة. وليس تحرير الإنسان نفسه من سطوة القوالب النمطية التي يخلقها له الآخرون بأقل شأنًا من تحريره أرضه من سطوة احتلال خارجي. ولا يظنن أحد أنّ المرأة الفلسطينية حين تقرر مقاومة المحتل بجسدها، كأي فلسطيني منتفض، تفقد في خضم المواجهة صوتها كامرأة رافضة لسلطة الرجل الذي لا يرى فيها غير كائن قاصر منقوص الإرادة والتكوين.
إذا كان جمهورنا العربي لا يزال حتى اليوم مصرًا على تحويل حياة المرأة فيه إلى سلسلة مستمرة من الحروب العبثية، فللمرأة الفلسطينية رأي آخر يقول إنّ حروبًا هامشية تلاحق شكلها وهيئتها وأسلوبها في المقاومة لن تثنيها عن حربها الأساسية ضد الاحتلال

تقدّم لنا أدبيات الثورة سجلًا زاخرًا بأسماء فلسطينيات مقاومات تجاوزن حاجز المجتمع وتقاليده ليقفن في خطوط المواجهة الأولى جنبًا إلى جنب مع رفاقهن في السلاح. وفي كتابه "تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم"، يعرض معين الطاهر مشاهد نضالية متفردة لفلسطينيات انخرطن في الثورة بكامل تفصيلاتها، فخُضن معارك وقُدن عمليات.

أسماء كثيرة طرزت صفحات الكتاب من أوله حتى نهايته، بدءًا من المشاركات في معسكرات تدريب طالبات الجامعة اللبنانية في الجنوب، ومرورًا بدلال المغربي ابنة المخيم السمراء التي قادت عملية الشهيد كمال عدوان، وانتهاءً بأسماء مناضلات أخريات كآمنة جبريل، وأم أحمد القرى، وأم خالد، وأم أحمد البرج، وبهية ونجاة ودينا، وغيرهن العشرات. ومن بين هذه الأسماء جميعًا يبرز عاليًا اسمٌ قد لا يعرفه كثيرون؛ عطاف عليّان.

عام 1985، وفي اجتماع لقادة "سرايا الجهاد الإسلامي" بدأ التخطيط لتنفيذ عملية نوعية تستهدف مقرّ رئاسة الحكومة الإسرائيلية في القدس بمهاجمة مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق شامير، بسيارة مفخخة. ولتنفيذ هذه المهمة، وقع الاختيار على كل من سليمان الزهيري وعطاف عليّان.

عطاف عليّان فتاة من أسرة محافظة، التحقت بالثورة عام 1980. تعرّفت إلى الشهيد حمدي سلطان الذي سهّل لها سفرها إلى لبنان للالتحاق بدورة تدريبية خاصة عام 1985، بعد أن كانت في زيارة لبعض أقاربها في الأردن. لتعود بعدها وتقترح على الشهيد حمدي تنفيذ عملية استشهادية، قبل أن تعلم بأمر العملية التي كان يُخطط لها مسبقًا.

بدأت رحلة ترتيب طويلة للعملية الجريئة، فتجهزت عطاف بكل ما يلزم؛ تدربت على السلاح، وتعلمت قيادة السيارة، وتقدمت بطلب دراسة في الجامعة العبرية. وإضافة إلى ذلك كله تبيّن أنّ الأمر يتطلب منها أن تكون على هيئة مشابهة لهيئة المجندات اللواتي يترددن على المقرّ، ممّا يعني أن تنزع حجابها ليتسنى لها تنفيذ العملية، فلم تتردد بالقبول، بعد أن حصلت على فتاوى تبيح لها ذلك. لكنّ خللًا طارئًا استجد خلال ترتيبات العملية أدّى إلى كشفها وإحباطها قبل التنفيذ.

يقول الطاهر في كتابه: "إلّا أنّ الإخوة الشهداء الذين كان يسكنهم هاجس حول حجم المتفجرات اللازمة لتفجير المبنى، قرّروا تأجيل الموعد بعد ورود معلومات عن مصدر لديه بعض القذائف المدفعية من مخلفات الجيش الأردني في الضفة الغربية، فرأوا في ذلك فرصة ذهبية لتحقيق النتائج التي يطمحون إليها. طُلب من المهندس الزهيري استلام هذه القذائف وإضافتها إلى العبوة في السيارة، لكن يبدو أنّ هذا المصدر كان تحت أعين الاحتلال وعملائه". هكذا أُحبطت العملية قبل تنفيذها بساعات، وأُلقي القبض على عطاف عليّان فحُكمت بخمسة أعوام لم تكتمل حتى تجددت محاكمتها مرة أخرى بعشرة أعوام إضافية بتهمة خنقها سجّانها.

نموذج واحد لمناضلة واحدة كفيل بإبراز صورة المرأة القادرة على تحديد خياراتها والمضي قدمًا في التنفيذ، دونما التفات للمعيقات المحيطة. وإذا كان جمهورنا العربي لا يزال حتى اليوم مصرًا على تحويل حياة المرأة فيه إلى سلسلة مستمرة من الحروب العبثية، فللمرأة الفلسطينية رأي آخر يقول إنّ حروبًا هامشية تلاحق شكلها وهيئتها وأسلوبها في المقاومة لن تثنيها عن حربها الأساسية ضد الاحتلال.