في 8 مارس...الى ميادة جون ورفيقاتها أسئلة ملحة : لماذا يتم التعتيم على استشهاد النساء؟ ولماذا ضرب الحصار على حالات الاغتصاب والانتحار ؟ النساء صانعات الثورة عبر تراكم طويل منذ انقلاب يونيو 1989



آمال جبر الله سيد أحمد
2020 / 3 / 11

في هذا اليوم نحي شهيدات الثورة السودانية اللائي قدمن أرواحهن في كل أنحاء السودان. فهن المنارات السامقات والتي تنير طريقنا نحو العدالة والمساواة. نحي التاية و سارة عبد الباقي وعوضية عجبنا وميادة جون ورفيقاتهن والنساء ضحايا الحروب. وعلينا أن نتساءل كم عدد الشهيدات طوال الثلاثين عاما من حكم الإنقاذ ،بل من هن الشهيدات خلال ثورة ديسمبر ؟ لماذا لا نعرف أسمائهن بل حتى عددهن بالضبط.. لماذا لا تظهر سيرتهن فى الإعلام ؟؟
أعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة معقدة بعض الشيء ولكنها مرتبطة بوضع النساء حتى في الاستشهاد.
إذ أن أغلب الشهيدات من الكادحات لم يعرفن الإعلام في حياتهن ،جسدت لهم المشاركة في الثورة الأمل في حياة أفضل، شاركن من مواقع مختلفة جماعية وفردية. كما أن هناك مفاهيم اجتماعية وثقافية حول دور المرأة في الأسرة والمحافظة عليها كنقيض للمشاركة في العمل العام ناهيك عن ثورة. فلم تر كثير من الأسر في استشهاد بناتها مدعاة للفخر ، وجرى فى احيان كثيرة التستر على جريمة الاغتصاب ، مما ادى لاخفاء حالات الاغتصاب والتعتيم على المغتصبات والمفقودات ناهيك عن اللاتي انتحرن من هول ما تعرضن له.
ولا يغيب عنا تأثير القمع والخوف الذي صاحب الثورة والضغط على الأسر الذي بلغ منع إقامة عزاء في بعض الأحيان، ففضلت بعض الأسر حماية بقية الأبناء من هذا العسف، ومن جانب آخر فأنه يكشف أن الحركة النسائية و السياسية المنظمة وأجهزة الإعلام بعيدة عن الفئات الشعبية.
هذه القدرات والقوة والجسارة المهولة التي ابدتها النساء في ثورة ديسمبر لم تحدث فجأة بل هي استمرار لتاريخ طويل للمرأة السودانية. وإن كان تاريخ بلادنا مكتوبا بعقول ومناهج ذكورية فأنه يضع علينا مهمة إعادة قراءة وكتابة هذا التاريخ لأنه مصدر الإلهام ولأنه حق لكل الأجيال ، من هذا التاريخ استمدت النساء قدراتهن على مقاومة ظلم نظام الإنقاذ طوال 30 عاما ليس في العاصمة والمدن الكبيرة فقط. بل في كل موقع في مناطق الحروب حيث كشر الإسلاميون عن أنيابهم وعدائهم للمرأة
فوسعت الجبهة الإسلامية دائرة الحرب واستخدمت سلاح الاغتصاب بجانب القتل والتعذيب وسياسة الأرض المحروقة، ولن ننسى ماتم في معسكرات السلام في كردفان في مطلع التسعينات من الاغتصاب الفردي والجماعي للنساء بقيادة حكومة الحسيني ، تم ذلك في ظروف قاهرة وتعتيم إعلامي فظيع .
وتوسع استخدام الاغتصاب كسلاح في الحرب والتطهير العرقي في دارفور منذ عام 2003 واشتهرت به المليشيات الحكومية والجنجويد. لقد دفعت النساء في هذه المناطق ثمنا باهظا إذ أصبحن أهدافا عسكريا وأصبح الاغتصاب جزءا من العقيدة القتالية لهذه المليشيات المجرمة لذا لم يكن غريبا عليها ممارسة نفس هذه الأساليب داخل الخرطوم والمدن الأخرى إبان فض الاعتصام وما تلاه.
هذا العار لن ينساه التاريخ، لقد حولوا أجساد النساء لساحات حرب وشردوا الملايين منهن في معسكرات النزوح واللجوء وحولوا حياتهن إلى جحيم من شظف العيش وتربية الأطفال في ظروف لا إنسانية ، فشردنا في كل أنحاء العالم وهن يحملن جراحهن العميقة .
قاومت النساء سياسات الإنقاذ في كل الجبهات بالاحتجاجات والمسيرات وإعلاء الصوت والرفض بكل اشكاله وضد عسكرة الحياة وضد تجييش أبناءهم ليكونوا وقودا لحربهم الجهادية في الجنوب .
ضد غلاء الاسعار، ضد قانون النظام العام وضد قوانين الجامعات التي قصد بها قهر الطالبات . وانتظمت احتجاجات أسر الشهداء والمعتقلين والمعتقلات طوال سنوات الانقاذ، وضد مطاردات "الكشات" بائعات الأطعمة ، ضد المهووسين الذين يطاردون النساء في الشوارع ، ضد محاكم الذل والهوان ، وشاركت النساء بفعالية في تنظيم العمل المقاوم بكل أشكاله .
في الإضرابات وتجميع النقابات واستعادة الاتحادات المهنية والطلابية . ورفضت النساء وبأشكال مختلفة الانصياع لتوجهات السلطة والانخراط في مؤسساتها وتنظيماتها بما فيها النسائية إلا فئة قليلة من الانتهازيات والمنتفعات مع نساء المؤتمر الوطني وأمثاله .
انها مقاومة جسورة ومتواصلة رغم لحظات الصعود والهبوط التي مرت بها ،ودفعت النساء ثمن تلك المقاومة من المطاردة والاعتقال والفصل من الخدمة والمراقبة والتجسس بل والتهديد والإرهاب والقتل والتنكيل والتضييق في كل شيء. ولذلك فإن النساء لم يلتحقن بالثورة بل هن جزءا ومكونا أصيلا من هذه الثورة، وهن ثوريات بذاتهن وليس بالتحاقهن بآخرين.
ولقد تحملن مسؤوليات ومهام متقدمة في مسار الثورة . فتقدمن بعزم وشجاعة ونكران ذات في جبهات التنظيم والتعبئة وفي حماية التروس وفي قيادة المظاهرات ، وما تلك الزغرودة الا رمزية لتلك الجسارة في مواجهة الرصاص والبطش . عملن في المخاطبات السياسية. في الاعلام وفي صنع الطعام وتوزيعه، في جلب المؤون والتبرعات، في برامج التوعية والثقافة والإبداع ، في إثراء الحوارات حول قضايا الوطن ومستقبل الثورة ، في حمل الجرحى وعلاج المرضى وانقاذ حياة الكثيرين ، في حملات التضامن والاتصال ، في صد البمبان ،وكشف أعوان النظام ، في تحمل غياب أبناءهن في غياهب المجهول ، في الثبات في المعتقلات المجهولة ، وفي بذل أرواحهن فداء للوطن فأصبحن المنارات السامقات التي تضئ طريق الحرية والسلام والعدالة .
هكذا تصدت النساء لكل مهام الثورة وما زلن. إن هذه التجارب العميقة تضيف لرصيد الحركة النسائية وتدفعها للأمام مهما كان مسار الثورة والمخاض الذي تمر به حاليا .ولابد من وقفة جماعية لقراءة التحولات واستخلاص الدروس منها :
1. إن قوة وقدرة النساء خلال سنوات المقاومة والثورة هزت كيان القوى الظلامية والمعادية للمرأة والتقدم. وفتحت المجال واسعا لإعادة النظر في كل المفاهيم والمواقف التي تحتقر المرأة وتكرس لدونيتها.

2. كما استعادت الحركة النسائية بكل مكوناتها الثقة في قدراتها الكامنة وأن النساء قوة حقيقية وقادرة على إحداث التغيير.
3. أكدت على ضرورة التنظيم والتنسيق والمبادرة بما يتناسب مع كل فئة وحسب قدراتها وظروفها وذلك من أجل مواصلة الجهود لنيل المزيد من الحقوق والعمل على تحسين بل وتغيير أوضاع النساء والتي عبرت عنها في الهتافات والأغاني والحوارات ولخصتها في شعارات "ضد الحرب والفقر ومن أجل المساواة مثل:

"حقنا كامل ما بنجامل "
"نبني حياتنا الند بالند "
"صوت المرأة ثورة"

4. بروز عدد كبير من القيادات النسائية في خضم هذه المعارك خاصة وسط الشابات ومن كل مناطق السودان لم يكن معروفات لكنهن قدن الصفوف وأثبتن جدارة وثبات لا تحده حدود كما عبرن عن مصالح وطموحات النساء من فئات اجتماعية ومناطق مختلفة.
5. ضرورة أن تستمر النساء في نضالاتهن والتصدي لقضاياهن وعدم التراجع عنها، وذلك في وجه ادعاءات بعدم أهمية هذه القضايا وأن هناك أولويات أهم – هكذا يتم التنصل عن حقوق النساء عقب الثورات .
ان ما تطالب به النساء في بلادنا في احتفالهن باليوم العالمي للمرأة لهذا العام هو المزيد من الحقوق الأساسية، وتحديدا إلغاء قانون الأحوال الشخصية للعام 1991 والذي أباح تزويج الطفلة في عمر 10 سنوات وإجبار الزوجة للرجوع منصاعة لمنزل زوجها عبر ما يسمى تاريخيا ببيت الطاعة بما يحفظ كرامة كل الاسرة. وما نتج عنه من مآسي بالإضافة لما تحفل به محاكم المرأة ، واستبداله بقانون للأسرة على ان يكون اساسه المساواة والعدالة ليحفظ كرامة كل اطراف الاسرة وذلك بناء على المواثيق الدولية لحقوق الانسان والتي تقر بعدم التمييز ضد المرأة و المضمنة في المواثيق الأساسية لقوى الثورة.
ان اكتساب النساء للمزيد من الحقوق وحده ليس كافيا لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية ، فهذه لن تتحقق الا بتغيير هذا الواقع الذي تسوده الحرب والفقر والأمية وارتفاع نسبة وفيات الأمهات وتسليع النساء وسيادة الثقافة التي تكرس دونية المرأة واتساع الفوارق الاجتماعية .
لكن هذه المكتسبات الحقوقية تدفع بنضال النساء خطوات متقدمة، ويضمن مشاركتهن الواسعة في إدارة شؤون البلاد من خلال وجودهن الفاعل والواسع والمتنوع في مراكز اتخاذ القرار وليس التمثيل الديكوري.
وحتما سيستمر نضال النساء من أجل تحول ثوري اقتصادي واجتماعي وثقافي يشكل الأرضية الصلبة لتصبح العدالة والمساواة حقيقية وواقعا، ذلك يتم بمشاركة كل الثوريين وقوى التقدم ، فغاية الوعي الثوري هو الاستعداد التام للدفاع عن مصالح كل المضطهدين وفي مقدمتهم النساء ..وثورتنا ثورة وعي