نوال السعداوي .. مرة أخري



فريدة النقاش
2020 / 3 / 22

قضية للمناقشة



ينهي “ارنست إيمنيونو” محرر كتاب قراءة في أعمال “نوال السعداوي” مقدمته للكتاب قائلا: “بالنسبة لنوال السعداوي الكفاح مستمر”. فكيف سيكون شكل هذا الكفاح ومجاله, ترد “نوال” قائلة “يجب أن تبدأ بنفسك, من أرضك, وليس بوجودك في كل مكان, ولهذا يجب أن يبدأ الكفاح محليا, ثم يتمدد ليكون عالميا, يجب أن تبدأ من أرضك, من قريتك, من بلدك, من دولتك لتحرر نفسك”.

تحرير النفس إذن هو عمل مجتمعي بامتياز, ولطالما اثارت نوال السعداوي القلق, بل قل الخوف في نفوس كل ممثلي السلطة الرجعية والاستبدادية بل حتي في نفوس هؤلاء الذين استسلموا لما هو “ثابت” ومتفق عليه يقنع بعض الخاضعين بخضوعهم باعتباره وضعا طبيعيا, واطمأن المستبدون لدوام الحال الذي يمنحهم حقوقا وأمانا لتأتي مفكرة ومبدعة شأن نوال السعداوي فتفجر كل ما هو “ثابت” و”متفق عليه”, أي كل ما يؤكد اقتناع ملايين المواطنات والمواطنين بأن ما يعيشون في ظله هو “الأمر الطبيعي” هذا الأمر الطبيعي هو الذي قررت “نوال السعداوي” منذ تفتح وعيها أن تفككه وترجعه لأصوله شأنها شأن كل المكافحين من اجل تغيير العالم الذين راهنوا جميعا علي الوعي الجمعي للمواطنات والمواطنين.

وليس بوسعنا إلا أن نري في دعوتها هؤلاء جميعا إلي تحرير انفسهم رجالا ونساء, أن نري في هذه الدعوة غضبا ورفضا مبكرا جدا لازدواجية بعض الداعين إلي التغيير للافضل, اذ يفصل هؤلاء بين العام والخاص, ويمارسون في حياتهم الشخصية كل ما ينتقدونه من سلوكيات مريضة, ويفقدون بالتالي أي قدرة علي إلهام الآخرين, والذين غالبا ما يتطلعون إلي القدوة التي من المفترض أن يقدمها لهم دعاة التغيير.

طالما تمنيت أن لا تندرج مسألة التناغم والتوافق بين الاقوال والافعال في ميدان الاخلاق وحدها- رغم الاهمية البالغة لهذا الميدان- خاصة فيما يتعلق بممارسات المناضلين التقدميين وإنما تمنيت ايضا أن يصبح هذا التناغم والتوافق عنصرا عضويا مؤسسا في بنية الرؤي السياسية التقدمية حتي تتجلي المسافات والفروق الشاسعة بين هذه الرؤية التي تستهدف نهاية المطاف تغيير العالم إلي الافضل, وبين الرؤية المحافظة والرجعية التي تتضمن في صلبها (كل ما يمكننا وصفه بأنه غير أخلاقي) إذ أن شعارها الاساسي هو “اللي تكسب به إلعب به”, أيا ما كانت اهداف الكسب او الخسارة.



وربما يستطيع من يتابع المسلسل التلفزيوني “الجماعة” الذي يعاد بثه هذه الأيام أن يجد نموذجا تطبيقيا واضحا اثناء معالجة “الاخوان المسلمين” للموقف من الصراع بين “جمال عبد الناصر” ومحمد نجيب في بداية ثورة يوليو 1952. دار البحث في اوساط قيادة الجماعة لا عن افكار ورؤي هذا أو ذلك, وانما عن الكاسب حتي يقفوا معه وعن الخاسر كي يبتعدوا عنه.

استطاعت نوال السعداوي عبر كل من كتاباتها ومسيرتها أن تضع هذه القيمة العليا موضع التطبيق, وأن تصبح بالتالي قدوة للباحثات و الباحثين عن قدوة متحررة حقا وفعلا من التناقض بين الافكار والافعال, سواء عبر كتاباتها الغنية والمتنوعة أو عبر مواقفها لا فحسب من الاحداث الكبري وإنما ايضا من تفاصيل الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية والانسانية.

أما كتب نوال السعداوي فأنها لم يقرأها النقد بعد قراءة لائقة بأفكارها ومكانتها, وهو ما جعل البعض يختزل افكارها في مجرد الدفاع عن حقوق المرأة وتحررها- وليس تحريرها- كما هو التعبير الشائع, والفرق شاسع بين التحرر والتحرير, وهو ليس مجرد فرق لغوي بل هو أيضا اختيار ورؤية , لأن التحرر يعظم الفاعل, أما التحرير فيضع الانسان المتطلع إليه في موضع المفعول به.

والتحرر هو خطوة أولي في اتجاه التمرد الذي يفتح الباب واسعا للابداع الذي سيكون بوسعه اعادة كتابة النصوص التسلطية المحرفة من اجل تحقيق الشغف والمعرفة اللازمين لتغيير نظام قوي مستبد في العائلة والحكومة, واتوقف هنا أمام خط اساسي في العالم الفكري الشاسع والثري لنوال السعداوي ألا وهو الاقتران العضوي بين الطبقية والابوية. وكان الكشف العميق والمتصل عن مثل هذا الاقتران هو احد مشاعلها الاساسية, التي كشفت ايضا عن استخدام النظام الطبقي الابوي للدين عبر القراءات الحرفية ولتبرير قهر النساء وإبعادهن عن المجال العام وأيضا لاستغلال المهمشين والكادحين عامة وإذلالهم .

قامت نوال السعداوي وحدها بدور مؤسسة كبري للفكر الحر الذي طالما لاحقته وقيدته قوي الاستبداد والاستغلال, شأنها شأن العقول الكبيرة في تراثنا الثقافي, فكان “طه حسين” علي سبيل المثال يحاضر , ويلقي دروسه في الجامعة, ويطوف بالأقاليم كوزير للمعارف ليحث الاغنياء علي بناء المدراس. بعد أن كان قد اطلق شعاره الملهم “التعليم كالماء والهواء”.

قليلات هن النساء الباحثات والمفكرات اللاتي حصلن علي الجوائز الحكومية كبيرها وصغيرها . وأظن أنه قد آن الأوان أن يبادر القائمون علي هذه الجوائز ليكرموا “نوال السعداوي” بأرفعها, ذلك أن افكارها ورؤاها, ورغم كل اشكال الحصار التي لحقتها قد استطاعت ان تحفر عميقا في الوجدان الجمعي للمصريين والعرب, بل إن هذه الأفكار والرؤي قد اجتازت الحدود لتضع بصمتها علي الفكر العالمي كله.

كذلك فإن الدساتير والوثائق التقدمية التي أصدرتها نظم متتابعة لانصاف النساء والمهمشين والكادحين جزئيا لم تنبثق من فراغ, فرغم انها خرجت في ظل صراع ضار فإنها شكلت نتاجا غير مباشر في احد جوانبها لا فحسب للانتاج الفكري لمثل هذه العقول الكبيرة المبدعة والمتمردة, وإنما ايضا لنشاطها العملي وحضورها الفعال.

تحية إمتنان لنوال السعداوي.