المشي في حقل الأشواك



لطيفة الشعلان
2006 / 6 / 11

معلمات جزيرة فرسان اللواتي أظهرتهن الصور يخضن في البحر للوصول إلى قوارب صيد مكشوفة وبالية ستنطلق بهن إلى مدارسهن تنطق واقعا منفصلا عن طوباوبة التنظير المضطجع في الخطاب التقليدي فيما يتعلق بالجواهر المصونة والدرر المكنونة. فالحديث عن أهمية عمل المرأة لم يعد شكلا من الترف الفكري أو الثورة المخملية، بل حاجة اقتصادية واجتماعية، وضروة من ضرورات نمو المجتمع وتحديثه وتطور انتاجيته. لكن لاشك أن الاشكالية لايمكن تبسيطها بربطها بتناحر تيارين أحدهما يريد توظيف النساء وآخر يمانع، لأن المندس خلف الجدل الظاهري هو حقيقة أن موضوع المرأة يقع في القلب من الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي، والاصلاح الديني، وهكذا تتضح حاجة هذا الطرف أو ذاك إلى إضافة هالة من القداسة على الوضع القائم مهما كان مكلفا أو غير طبيعي، مع أن العقلانية تفترض قراءة التراث والعرف قراءة نقدية تاريخية تزاوج بين الانساني فيه وبين الانساني في حضارة العصر، مع الأخذ في الاعتبار حاجات الناس ومصالحهم، وإلا فالتمييز ضد المرأة ظاهرة عرفتها المجتمعات البشرية السابقة دون استثناء، فحقوق المرأة من اصطلاحات الحضارة الحديثة. وبإمكانك أن تحدث امرأة ما حتى الصباح عن مكانتها السامية في الإسلام الذي صان لها كرامتها وحفظ لها حقوقها، لكن ماسيعنيها في آخر الأمر هو ماتواجهه في حياتها اليومية من مواقف وممارسات .. وهي تود انجاز معاملة عالقة وليس لها من رجل، وهي تجد باب العمل موصدا في وجهها، وهي تقع تحت طائلة العنف الجسدي، وهي تمشي في الشارع لتختبر التضييق من فئة أو التحرش من فئة أخرى.. الخ.
إنها الأوضاع التي تدلل أن القضية قضية تشريعات وقوانين نافذة يقوم عليها المجتمع لا إنشاء مثاليا يطير به الهواء. أما الكلام عن أعداد المتخرجات من الكليات، وعن امرأة هنا برزت في طب العيون، وأخرى هناك في الفيزياء، ، فهي تقود إلى التذكير بالبديهيات، وهي أن وضع المرأة لا يٌقيمّ بهذه الخفة، لايقيم بمنأى عن مجمل مشاركتها الاقتصادية في قوة العمل، والاجتماعية في عضوية مؤسسات المجتمع، والسياسية في صنع القرار. فضلا عن أن بروز نماذج نسائية ناجحة في مجالاتها المحددة لايحيل على شروط موضوعية بقدر مايحيل على مجهودات فردية واستثنائية في صنع الذات وتهذيبها.
القول أن النسبة الغالبة من النساء راضيات بأوضاعهن لايثير السؤال حول الآلية الموضوعية لقياس هذا الرضا وحسب، ولا يثير مفارقة أن من يتهم خصمه بالحديث باسم النساء قد فوض ذاته بالمقابل متحدثا باسمهن، أو أن من يشيع عن خصمه أنه ينظر للمراة ككائن جنسي هو ذاته في توجسه الشديد من فساد المرأة أو إفسادها إذا خرجت للعمل لايعتبرها أكثر من كائن جنسي إنما بمعادل آخر، ولكنه يثير ماهو أعمق من ذلك، وهو ماحدث لوعي المرأة من تشويه طويل بعضه عفوي وأكثره ممنهج. البقاء بين حيطان البيوت والثرثرة على الهاتف وقضاء العصاري في طبخ المعجنات واستراق لحظات لتفتيش جوال وجيوب الزوج يضرب العقل ببلادة نوعية، إنه يفقد المرأة فرصة أن يتشكل وعيها بذاتها أو بكينونتها كانسان وكذات منفصلة. قل الشيء نفسه عن الخطاب التقليدي الذي يقولبها على فكرة الشعور بالدونية والترهيب من العاقبة في الوقت الذي يُخفّض فيه سقف اهتماماتها ومشاغلها إلى حدود دنيا، فحتى أصول تربية الأولاد تربية قويمة لاتكاد تشغل من هذا الخطاب شيئا أمام استشراء الاهتمام بالقيم الشكلية لوجود المرأة وهيئتها وحركتها ومظهرها.
الوعي الذي نحتاجه لخلق حراك نسوي لايرتبط بالضرورة بالتحصيل العلمي حتى يأتي من يذكرك بالقفزة في عدد مدارس البنات، فكثير من المتعلمات تعليما جامعيا وممن يحملن (شرف الدال) يأخذنك إلى أقاصي حدود الاحباط وهن يكشفن عن بساطة وعيهن ومعرفتهن باشكالية المرأة أو بآليات التغيير الإجتماعي. نحن لا نملك تيارا نسويا يمثل قوة دفع أسوة بما نراه في التجارب العربية ولذلك أسبابه المتشابكة. فتاريخيا يمكن القول إن التيار النسوي في العالم العربي من ناحية التشكل ومن ناحية انضاج وعي المرأة قد انبثق ضمن اطار حركات التحرر ومقاومة المستعمر.
أضف لذلك عامل الحياة الحزبية، فالأحزاب القومية واليسارية كانت هي الحاضن لحركات المطالبة بحقوق المرأة. وهناك العامل الأيديولوجي لدينا حين يتواطأ مع البنية الاجتماعية التقليدية، لكن من المؤكد ان نخبنا قد أحجمت عن القيام بأي دور تنويري فيما يتعلق بشأن المرأة مما ترك التربة خصبة لمزيد من الاستحواذ. كما أننا لم نعرف نموذج المصلح الإجتماعي الفاعل مثل ذاك الذي ظهر في مصر أو تونس ووقف مشروعه على النقد الإجتماعي واستنهاض الوعي، حتى مكتسب المرأة الوحيد وهو حق التعليم الذي اُقر قبل أكثر من أربعة عقود جاء بقرار سياسي رشيد لم تمهد له أو تعجل به أي مطالبات اصلاحية أو اجتماعية. وحتى لا نلج في اللوم فإن الحديث في موضوع المرأة يشبه المشي حافيا في حقل من الأشواك، ولن تفاجأ إذا لاحظت بأن المثقف أو المفكر الصامت في موضوع المرأة هو كبير في كل ما عدا ذلك من طروحات. كما أن الضغوطات التي تواجه بعض الفكر الديني المستنير في شأن المرأة غير خافية، إذ سرعان مايعلن أحدهم التنصل عما سبق وقاله، في حين سيبقى الاعتدال ثوبا فضفاضا لن يضيق بأحد. مع ذلك هي مواجهة طويلة لايكون المثقف مثقفا من دون أن يدخل في معمعتها ويكون له موقف تنويري واضح.
لابد أن نسأل أنفسنا هل نحن حقا نجرح ضميرنا الديني أو نتنكر لخصوصيتنا إذا طالبنا بتعديل أوضاع المرأة، هل الفرادة الثقافية لا تستقيم إلا بتعطيل النساء عن المساهمة في بناء المجتمع ودفع عجلة التنمية والتحديث؟ وإلى أي حد أصبحت فيه المجتمعات الإسلامية في مصر والمغرب وباكستان مجتمعات خارجة عن إسلامها و متحللة من خصوصياتها الحضارية؟ فربط شيوع الفاحشة والجريمة بخروج المرأة من المنزل يدوس على رقبة النظريات الإجتماعية التي تفسر الانحراف في أي مجتمع في ضوء الأسباب والمتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية قبل أي شيء آخر، كما أن هذا الربط يقف فاغرا فمه أمام شيوع كثير من الانحرافات الاجتماعية التي تطالعنا يوميا حتى مع قرار النساء في بيوتهن وتماثل نسبها مع نسب مجتمعات أخرى دخلت فيها المرأة ميادين العمل منذ القرن التاسع عشر.