الاحتراق في أتون الكتابة- أثمان تدفعها النساء



روزا ياسين حسن
2006 / 6 / 13

ربما كان الجيل النسوي المغامر الذي دخل دخولاً فدائياً إلى الكتابة، ليحول القلم من حق ذكوري خالص إلى سلاح أنثوي، قد دفع أثماناً أكبر مما قد نتصور، وكان إصرار المرأة على التحول من موضوع أو رمز أو استخدام ذكوري في الكتابة إلى ذات لغوية خالصة، أخطر من مجرد لفظ المجتمع لها، بل أخطر مما تخيلت.
أدب العوانس والمطلقات. حين سمعت ذلك الوصف عن الأدب النسائي من أحد النقاد ضحكت. لكن ربما لو فكرنا بالأمر قليلاً سيبدو للقول جذر ما، حتى لو كان واهياً، لأن مجرد كتابة الأنثى، في مجتمع ينيط بها الوظيفة المقدسة الوحيدة: الولادة والخدمة، ستعتبر في أحسن الأحوال ترفاً أو وسيلة لتزجية الوقت، هذا في حال لم تتهم، وغالباً ما تتهم، بالتقصير في خدمة عائلتها واللامبالاة وبمحاولات الانحراف.
تعددت الوسائل وتنوعت الأثمان. وإذا حاولنا النظر بشكل سريع إلى الخلف سنجد أمثلة كثيرة، فكون وردة اليازجي (1838-1924) ابنة الشيخ ناصيف اليازجي، صاحب مجمع البحرين وغيرها من أمهات الكتب، وشقيقة الشيخ خليل اليازجي الذي عنيت هي بتعليمه، كان كفيلاً بإبقائها ظلاً وراء أنوار الرجال، وكم اتهمت وردة بأن أباها وأخاها هما من كتبا لها أشعارها وليست هي، وكيف لامرأة أن تكتب الشعر؟!!.
من ناحية أخرى ظلت رواية زينب فواز (1840-1914)، التي أسمتها: حسن العواقب أو غادة الزهراء، وطُبعت في العام 1899 في مصر، مهضومة الحقوق. فقد اعتبرت رواية "زينب: لحسين هيكل أول رواية عربية ردحاً طويلاً من الزمن، رغم أنها طبعت بعد رواية زينب فواز بسنوات، حتى أتى مؤخراً من يوضح ذلك. وقد كانت زينب فواز أول صوت نسائي يطالب بحقوق المرأة في العصر الحديث، حين نشرت رسائلها الزينبية في العام 1892.
وكتتويج للاثمان المدفوعة من قبل الكاتبات سيغدو المصير الذي آلت إليه الكاتبة مي زيادة (1866-1941) غير خاف على أحد، مع أنها صاحبة القول المعروف: إن تاريخ المرأة استشهاد طويل. ولكن استشهادها كان ألماً طويل الأمد، لما اكتشفت أن كل من حولها إنما يراها جسداً أنثوياً وتمثالاً جميلاً، لا عقلاً مبدعاً قادراً على مجاراة الرجال، وان كل من كان يحضر صالونها الأدبي المعروف إنما أتى ليتسلى بمجلسها ورؤيتها. ولم يكن الحال أفضل بكثير مع الرجل البعيد الذي التجأت إليه: جبران خليل جبران. وانتهت تلك المخيلة الجامحة إلى مستشفى الأمراض النفسية.
كانت نهاية مي زيادة مشابهة لنهاية رفيقتها باحثة البادية (1866- 1918) التي سبقتها مضطربة الأعصاب، ولم تكن قد بلغت بعد الثانية الثلاثين من عمرها. وقد بعثت قبل وفاتها رسالة إلى مي زيادة تقول: (آلامي أيتها السيدة شديدة، إن قلبي يتصدع من أحوال هذا المجتمع الفاسد) وقد كانت باحثة البادية (ملك حفني ناصف) أول امرأة مصرية تمثل العنصر النسائي في العام 1911. صحفية شاعرة امتد نشاطها إلى الصحف الأجنبية، كما كونت حزباً نسائياً باسم :الاتحاد النسائي التهذيبي. تزوجت من أحد شيوخ القبائل، وكان موقفه مميزاً آنذاك حين لم يمنعها من الكتابة. لكن ذلك الموقف النبيل لم يكن من غير سبب، فقد كان شيخاً عقيماً، ولم يفصح عن ذلك لأحد. وبقيت باحثة البادية تتحمل تبعة ذلك طوال حياتها، وتوسم بالعقم. وبأنها لم تستطع إثبات قدرتها على الخلق الأنثوي لتثبت خلقها الإبداعي الذي بقي في نظر المجتمع عديم الجدوى.
كم تعددت الأسماء النسائية التي لم تستطع الكتابة إلا بعد الطلاق، أو وفاة الزوج، أو باختيار العزوبية الدائمة، كحال ماريانا مراش التي تزوجت متأخرة بعد وفاة والديها وشقيقها (فرنسيس مراش). وتوفيت عجوزاً وحيدة في بيتها.
وربما بدت حكاية عائشة التيمورية (1840-1902) أقل وطأة، لكنها ليست كذلك، فقد توقفت عائشة، التي كانت شاعرة وصحفية و(سافرة) في ذلك الوقت المبكر، عن الكتابة عندما تزوجت، وظلت تعنى بالأطفال حتى وفاة زوجها. حينئذ فحسب استطاعت العودة إلى الكتابة. وحين آبت إلى الجو الثقافي والأدبي، وراح يشغل بعض وقتها توفيت ابنتها توحيدة فتوقفت عن الكتابة من جديد شاعرة بالذنب الشديد لأن الكتابة أخذتها من ابنتها. ومرت سبع سنوات لم تكتب فيها سوى قصيدة رثاء طويلة لتوحيدة. كانت عائشة قد تبنت رأي المجتمع المحيط، واقتنعت أن الكتابة مجرد ترف ولهو لا يُسمح للمرأة أن تقوم به إلا إذا كانت غير عابئة ببيتها وعائلتها. وتقول عائشة التيمورية بيت شعر كاد أن يكون لسان حال معاصراتها من الكاتبات وما بعدهن. كأن الألم والحزن صارا صنوين للمرأة في مجتمع يزيد الخناق عليها:
إني ألفت الحزن حتى إنني
لو غاب عني ساءني التأخير
هدى شعراوي (1879- 1947) المناضلة النسوية المصرية، التي كرست حياتها لتثبت أهمية دور المرأة في الحياة السياسية والعامة، وساهمت في إخراج مظاهرات 1919 النسائية في شوارع القاهرة المؤيدة للزعيم الوطني سعد زغلول، وأسفرت فيها النساء عن وجوههن في سابقة ليس قبلها، وذلك تأكيداً على حق المرأة في المشاركة، صدمت صدمتها الكبرى حين نجحت الثورة ولم يفِ سعد زغلول بوعده، وما سمح للمرأة بالمشاركة في الهيئة البرلمانية، كما كانت هدى ورفيقاتها يطالبن بذلك وينتظرن قدومه لتنفيذه. فانشقت هدى شعراوي عن قيادة حزب الوفد، وشكلت تنظيماً نسائياً منفصلاً باسم (جمعية الاتحاد النسائي) وذلك في عام 1923.
وعصية على الإحصاءات التهديدات التي طالما طالت الكثير من النساء المبدعات، تهديدات لحياتهن وحياة أطفالهن وأسرهن. كما حدث مع أمينة السعيد (1914-1995) ودرية شفيق (1908-1975) التي أنهت حياتها بأن ألقت بنفسها من شقتها في الطابق السادس، بعد أن بقيت سجينة فيها طيلة 18 عاماً، لا تزور أحداً ولا أحد يزورها، وقد انفصلت عن زوجها حفاظاً عليه وعلى بناتها. كل ذلك كان بسبب مخالفتها لعبد الناصر حين انتقدت الحكم الشيوعي وإيديولوجيته. وقد أغلقت السلطات مجلاتها الثلاث: بنت النيل، والمرأة الجديدة، والكتكوت. قبل وفاتها ألفت درية شفيق كتاباً بالفرنسية بعنوان: إنني في الجحيم. وفيه تقارن بين جحيم دانتي وجحيم حياتها.
من نافل القول أن هناك تضحيات لم نتطرق إلى ذكرها، ولم تتطرق إليها المراجع والكتب، وقد تكون ظاهرة الأسماء المستعارة التي تخفي اسم الكاتبة الحقيقي هي إحدى الأثمان المدفوعة، وبالتالي تحمي الكاتبة نفسها من تدخل العائلة والمجتمع لرد العار: الكتابة. وذكر اسم المرأة على صفحات الكتب والجرائد. وربما كان هذا ما حدث مع بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن) ومع فتاة غسان (فاطمة سليمان الأحمد) وغيرهما كثيرات.
بيد أن هذه الأثمان لم تتوقف عند جيل معين، أو في فترة معينة، صحيح أن درب الكتابة الوعر قد مهدته أولئك النسوة الفدائيات، ولكن ما زال هناك الكثير لتخطيه. فحتى اليوم ستفاجئنا الأثمان التي تدفعها الكاتبات حتى ونحن في القرن الواحد والعشرين. أحكام الإلغاء بحق النساء الكاتبات تتراوح بين نبذها، أو الإساءة اللغوية لها، أو الإساءة العينية، إلى الحروب ضدها، والتي أضحى المجتمع كله يتجند فيها لمحاولة إسكاتها قبل قلمها، وهذا ما حدث مع رجاء طايع صاحبة رواية "مانيفست الهذيان" التي نبذت ثم توفيت في بدايات القرن الحالي وحيدة في منزلها.
قبل ذلك قُدمت الكاتبة السورية ليلى بعلبكي للمحاكمة، وذلك سنة 1964، بتهمة إفساد أخلاق المجتمع لما صورته قصتها "سفينة حنان إلى القمر" من توصيف لجسدها وعلاقتها بزوجها. ولم تكتب ليلى بعلبكي بعدها، على حد علمي، لتجهض موهبة واعدة أمام ظلامية مجتمع متخلف. أما أمية عبد الدين، الكاتبة السورية المميزة، فقد ماتت في الغربة دون أن يعلم أحد بموتها.
كذلك قدمت الكاتبتان الكويتيتان ليلى العثمان وعالية شعيب للمحاكمة بسبب كتاباتهما التي ثار الإسلاميون عليها، وراحوا يؤولون نصوصهما الأدبية والإبداعية باعتبارها مسيئة للإسلام.. وعرضت قضيتهما على المحاكم، ثم صدر حكم البراءة في النهاية بعد أخذ ورد وجدل في الصحافة.
وأحلام مستغانمي الروائية المعروفة تعرضت كما غيرها من الكاتبات إلى التشكيك بكتابتها لروايتها الأشهر "ذاكرة الجسد"، وبأن من كتبها هو الشاعر العراقي سعدي يوسف، والذي قال بنفسه ذلك حين أجاب على سؤال أحد محرري مجلة فواصل في آب 2000: منذ أن ماتت مي زيادة لم يخرج وجه جديد يجمع تلك الوجوه المنحدرة من الثقافة العربية. فرد سعدي يوسف: مع إن البغايا كثيرات. بالنسبة لسعدي يوسف، ولغيره الكثير من المثقفين البطريركيين، للأسف، فالمرأة الناشطة ثقافياً المستقلة والقادرة على الإبداع والتصدي لذئاب الثقافة هي مجرد بغي. فما بالك برأي غير المثقفين.. أعتقد ربما كانوا سيحترمونها أكثر.
أخيراً يشكل لي إصرار نوال السعداوي على عدم الصمت وعلى المواجهة سعادة ما بعدها سعادة، بغض النظر عن اتفاقي أو اختلافي معها بالرأي. وقد تعرضت خلال السنوات السابقة لتكفيرها ومنع كتبها، عندما منع الأزهر بالأمس روايتها (سقوط الإمام)، التي سبق وصدرت منذ عشرين عاماً، والتي كتبتها عن عهد أنور السادات. ورغم أن الرواية لا علاقة لها بالدين، وليس فيها ما يُسيء إلى الإسلام. كما قام مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بتحريك دعوى حسبة عبر النائب العام المصري ضدها، بسبب ما اعتبره استهانة بمشاعر الناس الدينية في روايتها الأخيرة "الرواية" الصادرة عن دار الهلال بالقاهرة. ورفعت ضدها دعوى للتفريق بينها وبين زوجها شريف حتاتة بسبب تعليقات أدلت بها عن بعض الأمور الدينية، ونُشرت هذه التعليقات في صحيفة "الميدان" الأسبوعية.
ربما ستستمر المبدعات العربيات بدفع أثمان كتابتهن طويلاً، خصوصاً تحت وطأة مجتمعاتنا العربية المتخلفة. وكلما بدون أكثر إصراراً على عدم الصمت ثارت في وجوههن الذاكرة البطريركية، الذاكرة المعششة في معظم العقول، مهما ادعت عكس ذلك، لتتهمهن بمختلف أنواع الاتهامات. لكني أعتقد أن المبدعة الحقة، كما المبدع، ستحترق في أتون الكتابة راضية. وسيبدو من الطبيعي أن يقدم أي مبدع روحه على المذبح فداء للآلهة الأم: الكتابة.