نورا التي رفضت أن تكون عروس حلاوة



فاطمة ناعوت
2020 / 7 / 26

Twitter: @FatimaNaoot


كلّما صادفتَ فتاةً حُرّةً تأبَى أن تكون دُميةً بكماءَ في يد طفل يلهو، أو قطعةَ حلوى خرساءَ لا تعرفُ كيف تهشُّ عن جسدِها الذبابَ والبعوض المُحوِّم حولها يريد أن ينهشها، فارجعْ بذاكرتك إلى "نورا". “نورا" هي الشخصية التي نسجَها النرويجي العظيمُ "هنريك إبسن" لتكون بطلة مسرحية "بيت الدُمية"، صاحبة أشهر إصفاقة باب عرفها الأدبُ. خرجت من باب الأسْر "الدُميوي"، بيت الدُمية، وصفقتِ البابَ وراءها ومضت دون أن تنظر إلى الوراء. ملهمةُ الشعراء والمفكرين والنقّاد ، منذ نهاية القرن 19، وحتى اليوم. والمسرحيةُ في الأساس منشغلةٌ بنمط النساء الُمنسحقات المأسورات بجمالهن، ثم محاولاتهن الانعتاق من دور "الدُمية الحسناء" لتغدو "إنسانًا" ذا إرادة، راضيةً بالفاتورة الباهظة التي تدفعهت مقابل ذلك الاختيار الصعب. "نورا" الجميلةُ، تركت وراءها كلَّ ما يُذكّرها بأنها دُميةٌ في يد آخرين، و تمرّدت على خرافة أنها مخلوقةٌ مسلوبةُ الإرادة، غيرُ جديرة بالحريّة وتحمُّل المسئولية كإنسان له وزن ودورٌ في المجتمع، بعدما عاشت سنواتٍ مؤمنةً بتلك الخرافة. كانت"نورا" مهزوزةً مهلهلةَ الشخصية أضعفَ من مواجهة المخاطر خارج جُدُر "بيت الدُمية" الآمن الرغد. قبعت في البيت شابّةً جميلة مُدللة تطيرُ بين غرف البيت مثل عصفور رشيق مُلوّن، لا يقوى إلا على الزقزقة والشقشقة والتسرية عن الرجل والترفيه عن الأطفال. فما الذي جعلها تُقرّر أن تقومَ بتلك الثورة المفصلية؟ مرِض زوجُها "هملر" بمرض خطير، فسعتْ إلى الحصول على المال لعلاجه وإنقاذه من الموت، ولو عبر طريق ملتوية. الطريق الملتوية هي لجوؤها إلى صديق الأسرة المحامي "كروجشتاد" للاستدانة منه، بعدما زوّرت توقيع أبيها الثريّ على إيصال أمانة. فيقوم "كروجشتاد" الوغدُ بتهديدها بإفشاء سرها لزوجها، الذي شُفي الآن بفضلها، إن لم تُسانده في أن يتراجع زوجُها عن قرار فصله من البنك؛ لأنه يسيء استخدام صداقته له كمرؤوس للزوج في البنك الذي يديره. يعلم الزوجُ بفعلة الزوجة فيُعنفها ويقرر بمنتهى القسوة إنهاء حياتهما الزوجية؛ ليس من باب الشرف المِهني، بل خوفًا على سمعته! وحين يستوثق الزوجُ من أن "كروجشتاد" قد سحب تهديده وأرسل لهما الوثيقة المزورة، الدليل الوحيد على الجريمة، يحاول "هملر" استرضاءَ زوجته. لكنها ترفضُ الصفحَ عمّن جرحَها وباعها رخيصًا، وتهجرُ البيتَ مُخلّفةً وراءها إصفاقة مُدوّيةً؛ هزّت أركانَ الدنيا. ولهذا تقول "نورا" في ختام المسرحية مبررة لزوجها عدم غفرانها:
"طوالَ الأعوام الثمانية التي قضيناها معًا، وأنا أنتظرُ معجزةً ما. أعلمُ أن زمن المعجزات قد ولّى، ولكنني كنتُ أنتظر! حتى نزلت بي تلك الكارثةُ، فأيقنتُ أن أوانَ المعجزة قد حلّ. ولم يخطر لي ببال، عندما وصل خطاب "كروجشتاد" التهديدي، أنكَ سترضخ لشروطه، بل كنت واثقةً أنك ستقول له أذعِ القصةَ علي الملأ؛ فأنا لا أبالي، ثم...،" فيقاطعها "هملر”: "ثم ماذا بعد أن أكون قد عرّضتُ باسم زوجتي وجلبت عليها الفضيحة؟” فتستطرد "نورا”، وكأنها لم تسمعه: "ثم تتقدم لتحمل عني وزرَ المسؤولية قائلا: أنا المذنبُ ... وبالطبع ما كنتُ لأقبلَ تلك التضحية! تلك هي المعجزة التي كنتُ أنتظرها وأخشاها يا هملر." ولم تحدث المعجزةُ، فخاب ظنُّها في زوجها، وقررتْ هجرانه.
وهاجم بعضُ النقاد شخصية "نورا" قائلين إن التي تُقدم على تزوير توقيع والدها الثري على وثيقة، لا يمكن الوثوق بقدرتها على القيام بمثل تلك الثورة المجتمعية التي جعلتها ترفضُ موقع الدُّمية وتبرحها إلى موقع الحرية والمسؤولية. وألمحوا إلى التناقض في شخصية سيدة اقترفت جرمًا يطاله القانونُ لإنقاذ زوجها من الموت، تريد منه بالمقابل أن يتحمّل الزوجُ وزر ما فعلته لأجله، دون أن يخطر ببالها أن زوجها، رغم كونه مديرًا للبنك وزوجًا محبًّا كما يزعم، ليس مطلوبًا منه أن يكون بطلا إغريقيًّا يصنع المعجزات ويتحمل نتائجها الكارثية التي تمسُّ حياته ومستقبله. وربما نتفقُ معهم في أن الفضيلةَ لا تتجزأ. ولكن الفكرة هنا هي تأمُّل فكرة رفض المرأةُ أن تكون عروسَ ماريونيت حسناءَ بليدةً، خيوطُها في يد الآخرين، وإصرارها على أن تتجاوز تلك البقعة الخاملة، نحو فضاء المسؤولية والفاعلية والالتزام والقيام بدور حقيقي في المجتمع. وهذا ما فعلته "نورا" حين تحررت من "بيت الدمية" الذي لم تكن فيه إلا محضَ امرأة حسناء مثل عروس الماريونيت مسلوبة الإرادة، خيوطُها في أطراف أصابع شخص ما أو شخوص ما، إلى حيث رحابة "الإنسان" العاقل الحرّ كامل الأهلية، مالك الإرادة. وهذا ما سأتكلم عنه في مقالي القادم. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحترمُ نساءَ الوطن.”

***