«وردة» بريقها الطفولي يبتسم للكلب الوولف وقلبها يمتلئ بالحزن



نوال السعداوي
2020 / 8 / 12

فى ذاكرتى «رواية» لم تكتب، تعيش فى كيانى، تحتل الوعى واللاوعى، منذ ماتت أمى فى شبابها وهى تمسك يدى بيدها، كنت طبيبة فى العشرينات من عمرى، ممشوقة القوام، جامحة العقل والثقة بالنفس، يقول الناس عنها: فتاة غير عادية، جاذبيتها غير مألوفة، نفورها من الجنس الآخر غير طبيعى، لكن التاريخ كان يقول لها: هذا الجنس انحدرت فصيلته من الغوريلا، قبل ظهور مؤسسة الزواج، وكلمة «بعل» كانت تعنى «الزوج»، لم يكن فوق العين نقطة حينئذ، وكانت تعنى أيضا المعبود «بعل»، إله القبائل القديمة، التى تحولت من تقديس الأم إلى عبادة الأب. قليل من الناس الذين يؤمنون بالفطرة الصادقة العادلة، والتى تدعمها صفحات التاريخ، أن الانحطاط الحضارى للبشرية، والفساد الأخلاقى، والجرائم المقننة ثقافيا وقانونيا، والحروب الدموية، كلها بدأت نتيجة هذا التحول من تقديس الأم، إلى عبادة الأب.


فى ملفاتى بالكمبيوتر، أربع روايات لم تكتمل أبدا، منها رواية أمى «زينب شكرى»، ومنها رواية «الطفلة وردة»، ومنها رواية «الرجل الذى لم يوجد أبدا»، وأجزاء متعددة من روايات أخرى، بدأت كتابتها منذ القرن الماضى وحتى القرن الحالى.

فى الصباح الباكر، كنت أمر بها، حين أخرج من بيتى فى رياضة المشى اليومية، أجتاز شارع الجيزة إلى كوبرى عباس، ومنه إلى شارع النيل من جهة المنيل، ثم إلى كوبرى الجامعة حتى نهايته، فأتجه لليسار إلى شارع النيل بالجيزة حتى كوبرى عباس، دورة كاملة حول النيل تستغرق خمسين دقيقة، كانت هى تغسل السيارات فى شارع النيل، أمام العمارة، ما بين مبنى السفارة الفرنسية بلونها الوردى، ومنزل السفير الأمريكى الأبيض بسوره العالى كالقلعة، طفلة فى العاشرة أو الحادية عشرة، قالت اسمها «وردة»، تلف رأسها ثلاث لفات أو أربع بحجاب شاحب الزرقة يميل للصفرة، فى يدها جردل بلاستيك أخضر، وفوطة صفراء بليت من كثرة الاستخدام، جلبابها الرمادى الطويل مبلول تعلوه البقع والرقع، يلتصق بصدرها وبطنها، نهداها برعمان دقيقان كل منهما أدق من بندقة، يهتزان رغم إرادتها تحت الجلباب، تشد طرف الحجاب المتدلى لتغطيهما، يدها اليمنى تدعك زجاج السيارة بقوة وإتقان، حتى ترى وجهها فيه كالمرآة، تتوقف لحظة، كأنما مندهشة لرؤية وجهها أمامها، لم تعرف منذ ولدت أن لها وجها، أو أن لها أما، أو بيتا فيه مرآة، سكان العمارة يملكون السيارات التى تنظفها كل صباح، مالك العمارة يسمونه الباشا، ابنته دكتورة، تخرج مع كلبها الوولف كل صباح، شفتاها مزموتتان لا تنفرجان فى ابتسامة، يسرع السائق الأسود ليفتح لها باب السيارة الطويلة البيضاء ذات البوز المدبب، يبتسم الكلب ويهز رأسه برقة، أكان يبتسم لها؟ لم تر من قبل ابتسامة كلب، فهل يبتسم الحيوان كالإنسان؟. تحرق كلمة «إنسان» حلقها، تمتلئ عيناها بالدموع دون وعى، تمر الدكتورة بجوارها قبل أن تصل إلى سيارتها، تلتقط عطرها الرقيق كالياسمين فتنكمش داخل جلبابها، تكتم فى جسدها رائحة عرقها المتراكم تحت إبطيها، تطرق للأرض فترى حذاءها الجلدى المتين له بوز طويل مدبب، كعبه العالى الرفيع، يدق بلاط الرصيف بصوت عال، من بوز شبشبها البلاستيك تطل أصابع قدميها الطفولية بأظافرها المقصوفة تحتها لون أسود، يداها تدعكان الزجاج، أصابعها ناحلة، أظافرها مشققة بالماء والصودا الكاوية والكيماويات فى سوائل التنظيف.

سقطت نقطة ماء ساخنة فوق الزجاج، فأدركت أنها تبكى، لماذا تبكى الآن ولم تكن تبكى أبدا؟. تمسح دموعها وتضحك، عيناها السوداوتان يكسوهما بريق طفولى، تبتسم للكلب الوولف وقلبها يمتلئ بالحزن.

أتوقف عندها كل صباح، كنت طفلة مثلها، أبتسم للقطط والكلاب، لم أكن أغسل السيارات فى الشارع، وكان لى بيت فيه مرآة وأم وأب، وأخ أيضا، يرسب أخى كل عام فى المدرسة وأنا أنجح بتفوق، يحظى فى العيد والإجازات بضعف نصيبى، ويخرج ليلعب مع أصحابه، وأبقى أنا بالبيت لأطبخ مع أمى، وأمسح البلاط، وأدعك المرحاض، لم تكن فضلات أبى تطعن كرامتى، فهو إنسان رقيق، ليس مثل أخى المتغطرس، فضلاته طعنة فى صدرى، وأزعق فى غضب: ليه؟.. ليه؟.. وترد جدتى «أمر الله»، وأزعق «لأ، لأ»، فى الليل وأنا نائمة أطعنه بسكين المطبخ.

فى هذه اللحظة تهرب الرواية منى، وتسقط فى بئر العدم!!