النساءُ في الطّليعةِ: مسيرة الأمّهات ضدّ الجريمة؛ تغيّر وجه النّضال!



عايدة توما سليمان
2020 / 8 / 22


مساءُ السّبت، في الطّريق إلى "أبو غوش"، سألتُ أمّ خليل إذا ما كانت متعبة بعد الرّحلة الطّويلة سيرًا على الأقدام من حيفا أم لا، ابتسمت وقالت: "صدّقيني، الآن وأنا أقتربُ من وجهتي أشعرُ بأنَّني قويّة جدًّا ويمكنني الاستمرار حتّى الوصول إلى القدس".

نظرتُ في عينيها ورأيتُ قوّة وحزن شديديْن، امرأة حملت الآلام الّتي عانت منها منذ مقتل ابنها، وحوّلتها إلى قوّة وطاقة، وإلى صرخة امتدّت على مدى خمسة أيام و 180 كيلومترًا، بعكس التّصور التقليديّ عن الأمّ الثّكلى المرسّخ والشّائع في تفكير الكثيرين في المجتمع العربيّ، على أنّها امرأة فقدت أعزّ النّاس على قلبها، تجلسُ وحيدة بيتها، غارقة في البكاء واليأس، تعاني من الألم والمعاناة الّتي لا يمكن تصوّرها لفقدان ولدها.



على العكس تمامًا، نهضت أمّ خليل وقلبت الموازين رأسًا على عقب. مع كلّ خطوة خطتها في مسيرة الأمّهات الثّكلى، أخرجتنا جميعًا من استسلامنا لمخاوف الكورونا واستعادت السّيطرة على حياتها، وعلى صورتها كأمّ وكامرأة تناضل من أجل أولادها ومن أجل المجتمع ككلّ.

فقدت منى ابنها خليل البالغ من العمر 28 عامًا في 11 يونيو من هذا العام. تمّ إطلاق النّار عليه قرب منزله في حيفا، ولم يتمّ القبض على قاتله حتّى يومنا هذا، فاختارت منى أن تحوّل حزنها إلى مقولة اجتماعيّة شاملة.

في الأسبوع الماضي، شهران بالضّبط على فقدان ابنها، خرجت مجموعة من النّساء والأمّهات اللّواتي فقدن أبناءهن، بمبادرة من منى، وغيّرن تلك الصّورة المألوفة. خرجن من حي الحليصة في حيفا، وساروا لمدة خمسة أيّام إلى القدس، في مسيرة احتجاجيّة على إهمال الدّولة الإجراميّ في التّعامل مع قضيّة العنف في المجتمع العربيّ.



خلال الأيام الّتي سرن فيها، كانت الأمّهات تتنقَّل بين البلدات العربية المختلفة وحشدن دعمًا كبيرًا - في الشّارع، في الرّأي العام العربيّ، وكذلك في وسائل الإعلام العبريّة. طوال الرحلة الّتي امتدَّت 180 كيلومترًا انضممنا إليهنّ كأعضاء كنيست، رؤساء سلطات محليّة، وكذلك مواطنون ومواطنات الّذين سئموا الوضع، كما رافقهم منذ بداية الرّحلة وحتّى نهايتها عضو الكنيست ورئيس القائمة المشتركة أيمن عودة.

استعدادًا للوصول إلى القدس في نهاية الأسبوع الماضي، زاد عدد الناشطين الّذين رافقوا المسيرة، من بينهم عدد غير قليل من النّاشطين اليهود. يوم الأحد، وصلت النّساء المرهقات إلى منزل رئيس الدّولة في القدس، رؤوفين ريفلين، حيث قمن بتقديم مطالبهنّ للرّئيس.



نوع مختلف من الاحتجاج

شكّل هذا الاحتجاج الذي بادرت إليه الأمّهات، نوعًا مختلفًا من الاحتجاجات، فعلى الرّغم من أنّه يواصل مطالب الموجة الضّخمة من الاحتجاجات الّتي اندلعت قبل أقلّ من عام على خلفيّة مناهضة العنف في المجتمع العربيّ، إلّا أنّ هذه المرّة يقام الاحتجاج بأدوات ولغة مختلفة.

قبل أقلّ من عام، خرج عشرات الآلاف من المواطنين العرب إلى الشّوارع، مطالبين الدّولة بتغيير مسارها على الفور بما يتعلّق بالتّعامل مع العنف في المجتمع العربيّ. كانت هذه الموجة من الاحتجاجات غير مسبوقة في الحجم، وشملت مظاهرات حاشدة وإغلاق طرق وقوافل سيّارات وغير ذلك. وقمنا نحن قيادة الجمهور العربيّ، بالإضراب عن الطّعام لمدة ثلاثة أيام أمام مكتب رئيس الحكومة في القدس.



موجة الاحتجاجات هذه لم تغيّر الوضع القائم، استمرّت الدّولة بعدها في التّعامل مع المشكلة بإهمال. فمنذ بداية عام 2020 قُتل 58 شخصًا في المجتمع العربيّ، بحيث تبلغ نسبة فكّ رموز جرائم القتل في المجتمع العربيّ 38٪ بينما تبلغ في المجتمع اليهوديّ نسبة 55٪.

الخطط الّتي تتحدّث عنها الشرطة، سواء كانت خطط جيّدة أم لا، لا تنفّذ. ووزير الأمن الداخليّ الجديد "أمير أوحانا" لا يبشّر بالخير بما يتعلق بقضيّة العنف في المجتمع العربيّ.

النّضال هذه المرّة نظم على خلفيّة هذا الوضع المحبط، وعلى خلفيّة وجع منى الشّخصيّ، هي والأمّهات الأخريات، لم يكن التّركيز على المسيرات الضّخمة الّتي ترفع بها الأعلام ولا على الصف الاول من القادة الرجال الّذين يسيرون في المقدّمة، ولكن التّركيز كان على الألم الشّخصيّ والصّمت المفجع لهؤلاء الأمّهات.

تحوَّل الألم والصّمت لرّسالة اجتماعيّة وسياسيّة تمثِّل المجموعة. ارتدت الأمّهات ومن رافقهن قميصًا أبيض بسيطًا كتب عليه "مسيرة الأمّهات من أجل الحياة"، حملوا صور أحبائهم الّذين قتلوا، وساروا لساعات على جانب الطريق، في حرّ اب الحارق.

خروج الأمهات هذا، اللّاتي يضعن مأساتهنّ الشّخصية في المقدّمة، هو العمل الأكثر ثوريّة ونسويّة الّذي يمكن تخيّله.

نعرف نضالات كثيرة قامت بقيادتها نساء، لكن في معظم الأحيان تكون هذه النّضالات لأجل قضايا تتعلق بحقوق النساء، مثل العنف ضدّ المرأة وقتل النّساء. هذه المرّة، القضيّة هي قاعدة اجتماعيّة، وهؤلاء النّساء لم ينتظرن من يعطيهنّ مكانًا ، لكنهنّ انتزعن منصبًا قياديًا يربط بين الشّخصيّ والسّياسيّ بأوضح طريقة ممكنة.



عندما تضع النّساء أنفسهنّ في طليعة نضال يتناول المجتمع بأسره، فإنّهنّ في الواقع يقلن شيئًا أعمق عن المجتمع بأسره - حول من يمكنه قيادة الاحتجاج والنّضال. عندما يفعلن ذلك، فإنهنّ يغيِّرن ما هو شرعيّ وغير شرعيّ للقول، ومن يستطيع أو لا يستطيع الكلام.

مسيرة الأمّهات هي بداية رائعة لشيء آخر. إنّه احتجاج نسائيّ حقيقيّ على واحدة من أكثر القضايا إيلاما والّتي تطارد المجتمع العربيّ - العنف والجريمة.

لا تتورّط النّساء في الجريمة، وفي الغالب لا يملكن الأسلحة. في المقابل، هن من يبقين لرعاية العائلة بعد مقتل الرّجال، وهن اللّواتي يعتنين بالجرحى والمصابين؛ فيحق لهنّ أولاً وقبل كلّ شيء قيادة هذا النّضال.

أمّ خليل وجميع الأمّهات الأخريات اللّواتي قطعن المسافة من حيفا إلى القدس بدأن بعملية تغيير جذريّ لتصوّر النّضال ضدّ الجريمة والعنف. يجب علينا كمجتمع، وخاصّة النساء، ألا نتجاهل هذه الفرصة.

هذه دعوة للنّساء العربيّات بشكل أساسيّ للتّنظيم وتكثيف الاحتجاج. هذه دعوة للمنظمات النّسائية؛ حان الوقت لنتكاتف للنّضال من أجل حياتنا وحياة أحبائنا، ومن أجل مجتمعنا ككلّ.