العاملات الفلسطينيّات في المستوطنات ما بين العقليّة الأبويّة والاستغلال الاقتصادي في واقع استعماري



إيمان سعادة
2020 / 8 / 24


“شو اللي خلانا نشتغل العازة، لو معانا مادة كويسة ما بنشتغل”،فطوم، 33 سنة متزوجة وأكبر أولادها لا يزال في الصف السابع الأساسي، من ضمن نساء كثيرات في قرية الزبيدات. يبدأ المشغل العربي بجمعهن في الصباح الباكر حوالي الساعة الرابعة والنصف، لينقلهن إلى مكان العمل في الأراضي الزراعية التابعة للمستوطنة المحاذية للزبيدات. وربما الوصف وحده غير كاف للحديث عن معاناة هؤلاء النسوة، ففي كل يوم ينتقلن للعمل بواسطة جرار زراعي غير آمن وعدى عن الإهانات التي يسمعنها، تعرضن في عدة مرات لحوادث سير أعاقت حياة وعمل عدد منهن دون أي تعويضات وبتنكر تام من المشغل والسمسار. وهذا الحال ليس مقتصراً على الزبيدات وحدها ففي الديوك الفوقا والعقربانية تصحى النساء العاملات يومياً على صوت زامور حافلة المشغل العربي (السمسار) وصريخه لاستعجالهن، وفي هذه المناطق ذكرت النساء اضطرارهن للانتظار على الدور على الحاجز العسكري حتى تمر الحافلة التي تقلهن. فيخرجن من بيوتهن حوالي الساعة الخامسة صباحاً ولا يصلن أماكن عملهن قبل الساعة السابعة مما يعني أنها رحلة طويلة وشاقة.



عمل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني للأراضي الفلسطينية على إحداث تشوهات هيكلية في بنية الاقتصاد الفلسطيني وبالأخص في القطاع الزراعي من خلال مصادرة الأراضي الخصبة واستغلالها لمشاريع صناعية- زراعية ربحية لصالح الرأسمال الإسرائيلي، سرقة مصادر المياه الجوفية وحرمان الفلسطينيين منها، وبناء المستوطنات على الأراضي المصادرة. أدت هذه الممارسات إلى اقتلاع المزارع الفلسطيني من أرضه وتحويله إلى عامل في القطاع الزراعي، الصناعي، أو قطاع الإنشاءات الإسرائيلية. تبع هذه الممارسات تبني السلطة الفلسطينية لسياسات اقتصادية تعزز نمط السوق الحر وربط الإنتاج المحلي بالسوق العالمي دون الاكتراث للاكتفاء الذاتي للشعب الفلسطيني، وحماية المنتج المحلي.

أحدثت هذه التشوهات تغييرات هيكلية في شكل العلاقات الاجتماعية وعلاقات النوع الاجتماعي. حيث اقتلعت النساء من الأعمال التقليدية التي كن يعملن فيها، وبشكل أساسي من الزراعة العائلية وحدد لهن أين يعملن ونوع الوظائف التي سيقمن بها، وتحولت غالبية النساء من العمل في أراضي العائلة إلى العمل المأجور في المستوطنات الصهيونية.



تركز هذه الورقة على النساء الفلسطينيات في بعض تجمعات مناطق الأغوار، تعاني هذه المناطق من ممارسات الاستعمار الصهيوني ومن لامساواة كبيرة فيما يتعلق بالتنمية والمشاريع التنموية التي من شأنها خلق مشاريع اقتصادية للتشغيل والعمل. كما تعاني مناطق الأغوار من نقص الخدمات بما يتعلق بطرق المواصلات، التعليم، الصحة. تركت هذه العوامل تاريخياً أثرها على النساء في هذه المناطق من ناحية فرص التعليم والعمل حيث قلت فرصهن في التعليم وبالتالي انحصرت فرص عملهن بشكل كبير في الزراعة العائلية. في ظل حالة التهميش التي تعيشها المنطقة وصعوبة إيجاد فرص عمل للرجال والنساء، بعد أن نهب الاستعمار الاستيطاني مصادر عيشهم وحرمهم من أراضيهم الزراعية وينابيع المياه التي كانت تشكل عصب الحياة والاقتصاد في منطقة الأغوار التي كانت بمثابة سلة الغذاء لفلسطين ونتيجة لقرب أماكن سكن النساء في الأغوار من المستوطنات الزراعية، وخبرة النساء في الأغوار في العمل في الزراعة استغلت قوة عملهن من قبل المستعمر للعمل في المستوطنات بدون أي حقوق عمل وبأجور قليلة.

على الرغم من حاجة العائلات لعمالة النساء في ظل ظروف الفقر إلا أن العائلات الفلسطينية تنظر إلى عمل النساء في المستوطنات على أنه “غير أخلاقي” نتيجة غياب النساء عن رقابة أنظار الأسرة. فظهر دور السمسار الذي ستأتمنه العائلة بأن يتولى توصيل النساء إلى مكان العمل ومن ثم إعادتهن إلى منزل العائلة بعيداً عن أنظار الجيران والأقارب وإلى أماكن عمل من الصعب أن تلتقي النساء فيها بنساء أو رجال يعرفونهم في محاولة لإخفاء عمل النساء حفاظاً على سمعة رب العائلة وباقي الذكور من الوصمة الاجتماعية. لكن في الحقيقة شكل السمسار حلقة من حلقات الاستغلال والعنف ضد النساء. حيث يقتطع السمسار جزء من أجور النساء مقابل خدمة توصيلهن تزيد كثيرا عن قيمة هذه الخدمة مستغلاً حاجة النساء للعمل، إضافة إلى أنه يتقاضى أجراً مباشراً من المشغل الإسرائيلي. كما أن الشهادات الحية وتقارير عديدة أشارت إلى ظاهرة “أصحاب الملايين الجدد” ويقصدون بها تغير أحوال بعض الأشخاص بعد أن امتهنوا السمسرة.



يظهر ذلك ضمن أية ظروف توجهت النساء للعمل في المستوطنات وأية ظروف كانت تنتظرهن هناك في مختلف مجالات العمل (أغلب العاملات في الزراعة، قطف الأعشاب وتغليفها وإعدادها للتصدير، وتنظيف المنازل). انتشر عمل النساء في المستوطنات بعد أن تعمدت سياسات الاستعمار الإسرائيلي استغلال النساء للعمل في الزراعة بأجور زهيدة وبلا أي حقوق. حيث تم تقليص الفرص المتوفرة للرجال والشباب في المستوطنات، فظاهرة البطالة أو العمالة الموسمية في أوساط الذكور كانت ظاهرة شائعة في هذه التجمعات نتيجة لهذه السياسات. فقد وجد الاستعمار في النساء مصدر لقوة العمل الرخيصة، التي يسهل السيطرة عليها، واستغلالها إلى حد الاستعباد من أجل تراكم الربح. فقد عملت النساء بأجور متدنية جداً وبلا أدنى حقوق للعاملين وتحت سطوة المشغل الذي استغل حاجتهن للعمل وبالتالي ضعف القدرة التفاوضية لديهن بالأخص في ظل تدني مستويات التعليم وضعف الوعي. فالأجر الذي تتقاضاه النساء في المستوطنات يقل بفارق كبير عن الحد الأدنى للأجور المحدد بقانون العمل الإسرائيلي (23 شيكل الحد الأدنى المقر بالقانون بينما ما تتقاضاه العاملات في الأغوار لا يتعدى 15 شيكل). كما تشير النساء العاملات في المستوطنات إلى خروقات صارخة لحقوقهن كعمال ولا تتوفر أدنى الحقوق الإنسانية لهن حتى.

على الرغم من مسؤولية المرأة ودورها الأساسي لتأمين معيشة أسرتها لم ينعكس ذلك في تبديل جذري للبنية الأبوية سواء هيكلياً من خلال النظرة الاجتماعية والصورة النمطية عن مكان المرأة وحصرها في المجال الخاص، ولا في تفكير النساء عن أنفسهن. لكن لا يمكن إنكار انعكاس عمل المرأة على وضعيتها داخل الأسرة. تعاني النساء من التعب والأمراض بسبب عملهن في المستوطنات والمسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقهن داخل المنازل وفي ظل غياب خدمات اجتماعية وندرة توفر الماكينات الحديثة من غسالات وما شابه وعدم مشاركة الزوج وأفراد الأسرة الآخرين في العمل المنزلي. بقيت النظرة التقليدية تجاه أبوية العائلة ومسؤولية الرجل عن تأمين الجانب الاقتصادي فيها هي السائدة، وبقي عمل النساء ينظر له على أنه هامشي وإضافي مع أنه في حالات عديدة كان الدخل الأساسي. لا يخفى التحسن في وضعية النساء وتقلص سيطرة الزوج وبالأخص فيما يخص مجالات الإنفاق.



أي أن البنى الاجتماعية الطبقية والأبوية تحالفت مع البنية الاستعمارية في استغلال عمالة النساء في حالة أشبه بالعبودية. فلم تكن النساء أنفسهن هن المستفيدات من قوة عملهن بل تم استغلالها من أطراف أخرى، بشكل أساسي العائلة، الرأسمالي الإسرائيلي، والنظام الاستعماري الرأسمالي. فعمل النساء جاء لهدف استغلال قوة عملهن لتلبية حاجات الأسر في ظل ظروف الفقر التي أنتجها الاستعمار، وسهل الاستعمار عمل النساء في المستوطنات من أجل استغلالهن كقوة عمل رخيصة وبلا حقوق. لم يقف المجتمع الأبوي في وجه الاستغلال بل كان ضلعا أساسيا في زيادة اضطهاد النساء من خلال حصرهن في العمل مع مشغل واحد وإنكار عملهن في المستوطنات من أجل السيطرة على حركتهن، مما أضعف إمكانية تشكيل وعي جمعي أو دور معارض لهذا الاستغلال يمكنهن من التخلص من الظلم الواقع عليهن. وترافق الاستغلال المركب مع ظروف الفقر والجهل وانخفاض مستويات التعليم مما سهل استغلالهن أكثر. كما جاء الموقف السياسي للسلطة الفلسطينية من تجريم العمل في المستوطنات ضد مصلحة هؤلاء النساء حيث منع ذلك النساء من تقديم الشكاوي ضد ما يتعرضن له من انتهاكات حقوقية.



1. يمنع الفلسطينيون اليوم من استخدام ما يزيد عن 85% من مساحة هذه الأراضي، سواء للبناء، للمكوث فيها، للرعي، أو الزراعة فأكثر من نصف هذه المساحة معرفة كأراضي دولة منذ أيام الحكم الأردني وبقيت كذلك بعد عام 1967، كما أعلن جزء منها مناطق عسكرية مغلقة، ومناطق إطلاق نار، ونحو 20% منها أعلنت كمحميات، والمساحة المتبقية خصصت للمجالس الإقليمية بالأخص للمستوطنات (بتسيلم، 2017). منع الفلسطينيون من التوسع في البناء على الأراضي المصنفة “ج” وتم حجزهم ضمن المساحة الضيقة لمراكز القرى الأصلية.. وهذا في إطار سعي الاستعمار الإسرائيلي إلى إلغاء الوجود الفلسطيني في منطقة الأغوار، ويرصد تقرير “بتسيلم” عن الأغوار أن الجيش الإسرائيلي قام بإخلاء مختلف تجمعات المنطقة 140 مرة منذ كانون الثاني 2013 إلى أيلول 2017. كما تقوم قوات الجيش وسلطات البيئة والسلطات المختلفة بمصادرة وسائل عيش السكان في الأغوار والضرورية للزراعة وتربية الحيوانات مثل صهاريج المياه والأنابيب التي تزودهم بالمياه، والتراكتورات، والواح الطاقة الشمسية.