رحيل المناضلة السودانية زينب بدر الدين



فهد المضحكي
2020 / 8 / 29

غيّب الموت المناضلة السودانية زينب بدر الدين عن عمر يناهز 64 عامًا بعد حياة حافلة بالنضال من أجل حقوق المرأة والديمقراطية والسلام.

كان والدها – وفق موقع اليوم التالي – منشغلاً بالتعليم الذي صار فيما بعد مهنتها التي لم تمنعها من ممارستها الإحالة للصالح العام من قبل نظام عمر البشير الإخواني الذي حملت لواء مقاومته لثلاثين عامًا.

كانت كلما أصاب البعض وهن الأمل حقنته بأنسولين الاستمرارية وأخبرته بأن قدمنا الصباح ونحن سننتصر ونعبر، ما في ذلك شك، فلا شمولية أقوى من شعبها حتى وإن سجنت وعذبت وشردت في نهاية المطاف سينتصر الشارع لحلمه وسيمضي المجرمون إلى مزبلة التاريخ، علينا فقط أن نتمسك بحقنا في المقاومة فهي الحياة وهي القائلة: ستينية أنا ومصابة بالسكري والضغوط والغدة الدرقية أكيد معرضة للخطر بالإصابة بكورونا. خرجنا ونحن معرضون لخطر الإصابة بالرصاص وسنفعلها مرة أخرى فحياتنا ليست أغلى من حياة الشهداء ممن استشهدوا في تروسهم لأجل انتصار الثورة وتحقيق أهدافها وغاياتها.

انتظمت زينب بدر الدين - التي غادرت الحياة في مساء العشرين من أغسطس 2020 - منذ وقت مبكر في صفوف الحزب الشيوعي السوداني ونشطت كذلك في منظمات المجتمع المدني دافعة فاتورة العمل العام في الاتحاد النسائي ولجنة المعلمين وهي عضو مؤسس مع أخريات لمبادرة «لا لقهر النساء» ظلت زينب خلال ثلاثين عامًا من عمر البلاد المغدورة، مُرابطة بإيمان عميق على باب المنافحة عن حقوق الفئات والناس اجمعين، مقدمة في ذلك عمرًا عزيزًا وريعان شباب وقلبًا متقدًا بالرؤية والأمل والصداح.

يعرف وجهها كل من عرف وقفات الاحتجاج، والاعتصامات، والخروج المبكر على الحكم الإخواني الغاشم المسلح حتى أسنانه بالحديد والنار والمعتقلات والتعذيب والتجويع والموت الزؤام.

يقول المخرج السينمائي السوداني طلال عفيفي: كانت زينب حادية ركب، ونافحة روح في حنايا الصغار قبل الكبار، تعزز من همة الناس، وتفتح للشمس أبوابًا.. لم يكن ذاك الرصيد العجيب لزينب في كراسة النضال الوطني مستلفًا من منصات إعلامية أو خرير لمياه كاذبة، بل كان رصيدها ابن الحياة: حياتها وما دفعته من ذاك العمر النضر الطيب، وحياة أسرتها التي عكفت على الذود عنها، ليس من ناحية الحماية إنما بالشحن المستفيض لقيم الإنسانية الباذخة وحثهم الحثيث لدفع فواتير النضال، فكان عيالها ما بين معتقل أو ملاحق أو معذب في أقبية الإخوان التي لم تعرف الرحمة!.

لم تكتفِ الراحلة زينب بأن تهب الوطن نفسها وإنما أضافت لها أن أنجبت من يجملون لواء الدفاع عنها، كان منزلها ورفيق عمرها المناضل صلاح معروشًا بأسمنت المقاومة فقد حملت ولاء ابنتها الكبرى الراية باكرًا وشغلت منصب رئيس اتحاد وطلاب جامعة الخرطوم كأول فتاة تنال هذا الشرف بينما لم يكن محمد صلاح الذي رددت في حضرته الراحلة ألمًا: ولدت محمد.. ما ولدت ليمشي في درب غير ذلك الذي يطابق فيه خطوة صوت حوافر الرغبة الجماعية للسودانيين في وطن يليق بهم، ودفع فاتورة ذلك حبس واعتقال دون أن يلين وهو الطريق ذاته الذي سار فيه بدر الدين أحد أصغر الأبناء، وعاشت السيدة أصعب إحساس حين كان أبناؤها في غياهب الاعتقال دون أن تلين أو تلقى عن ظهرها عصا المقاومة بل خرجت في صمود أسطوري قائلة: إنهم أبناء هذه الأرض وعليهم دفع فاتورة مواقعهم فهم ليسوا بأفضل من إخوتهم الذين يواجهون الظروف ذاتها.

ثمة من يقول كنا في الخارج حين تنفخ ست زينب مزاميرها مع المناضلين والشرفاء (فكوا دربنا، وجعتوا قلبنا) كنا نفكر عن هروبنا من جحيم الإخوان المسلمين ومن تهم التفكير وظلامات الهوس الديني إلى بلدان حقوق الانسان، وكرامة المرأة، والدساتير التي تحفظ حقوق الأقليات الدينية، داعمين للحراك الثوري وهبات الثائرين لخلاص الوطن، بالندوات والوقفات الاحتجاجية والتظاهرات، والخطابات للمجتمع الدولي سالكين للنضال دوربًا هي أيسر للناظرين ولكن أثمانها باهظة حيث إننا ننزف في المنافي غربة، تسربت منا الأعمال والأهل والأبناء، لكن حين نرى سمتها الشماخ كنا نناجيها من على بُعد «لتغفروا لنا قلة حيلتنا» يا أم الشرفاء.

إن المرأة السودانية لها تاريخ حافل في مسيرة العمل الوطني، حيث وضعت بصمتها بقوة في صنع استقلال السودان بالمشاركة جنبًا إلى جنب الرجل، حيث شاركت – كما يقول أحد المحللين – في الحراك الشعبي الجماهيري الداعم والمساند لاستقلال السودان رغم أن الفرصة لم تتح لها آنذاك للانضمام للجمعيات والمنظمات الداعية للاستقلال كجمعية الاتحاد السوداني وجمعية اللواء الأبيض وظهر تصاعد الحراك السياسي الداعم للاستقلال من جانب المرأة السودانية قبيل الاستقلال من خلال المعلمات السودانيات وغيره من التنظيمات المهنية، توج هذا الحراك بإنشاء الاتحاد النسائي السوداني في العام 1952 كحركة سياسية واجتماعية وثقافية جامعة للمرأة السودانية.

ومن أبرز الشخصيات النسائية المناضلة التي عرفها السودان فاطمة أحمد إبراهيم التي انخرطت في النضال ضد الاستعمار وساهمت في تكوين الاتحاد النسائي مع مجموعة من القيادات النسائية التي كونت رابطة المرأة المثقفة في عام 1947.

وبالرغم من الملاحقات والمضايقات للاتحاد النسائي من قبل الحكومات العسكرية، واصلت فاطمة العمل سريًا برغم التهديد والسجن وما أصابها على النطاق الشخصي عندما قام الطاغية نميري بإعدام زوجها النقابي الشفيع أحمد الشيخ سنة 1971 ووضعها في الإقامة القسرية لمدة عامين ونصف، عدا حالات الاعتقال لهذه القيادية الشيوعية من قبل أجهزة الأمن، وتعتبر أول نائبة برلمانية في السودان والوطن العربي وشغلت منصب رئيسة الاتحاد النسائي العالمي والسوداني سابقًا.

والنماذج كثيرة لنضال المرأة السودانية ومناهضتها للمستعمر ورفضها للذل والخضوع ومحاربته بكل السبل، منهم المناضلة الطبيبة خالدة زاهر، وفاطمة طالب إسماعيل، وهنالك شخصية أخرى قدمت نموذجًا يختلف لم يألفه السودان من قبل، تمثل في دور السيدة حواء جاه الرسول (حواء الطقطاقة)، حيث انضمت إلى النضال ضد المستعمر الإنجليزي إلى أن تم استقلت السودان في العام 1956.

قالوا: غشي الموت زينب.. ذهبت الجسد وبقيت جلائل الأعمال في لحظة مفصلية من تاريخ البلاد ولم يتبقَ غير هذه الوصية، اطبعوا كف زينب على سماء البلاد صفحة للنقاء وطهر الثورة ونزاهة المبدأ والرسالة، ازرعوا صوت زينب في كل قلب وبذرة في وطن وهبته صوتها وقلبها وعقلها وعمرها من أجل أن ترى إنسانًا حرًا، اجمعوا حروف زينب واحرصوا على قراءتها كل صباح في آذان الأطفال حصنًا من الانزلاق والسقوط، افسحوا لزينب المساءات في الأحاجي وأضيئوا قناديلها في قلب مآثر البطولة وروح الأساطير الحية، قولوا للقادمين إنها لم تمت فمن أنجب لا يموت، وزينب أنجبت ثورات نحتتها على جدران الوطن وغرستها في الناس وبصمت بها على صفحات الوجود والتاريخ.