الحركة النسوية التونسية… مُناضِلة ضد الرجعية أم نخبوية تمييزية؟



منيرة حجلاوي
2020 / 9 / 4

أفسحت الديمقراطية التي أفرزتها الثورة التونسية المجال أمام الحركة النسوية في البلاد للبروز والنشاط بكثافة والتعبير عن آرائها والدفاع عن قضاياها بحرية وبصوت عالٍ، وذلك بعد حرمانها من هذا الحق لسنوات طويلة في عهد نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي.

وتحظى هذه الحركة بتأييد قسم من الشارع التونسي الذي يرى فيها قوة فعالة داعمة لحقوق المرأة ومناضلة للحفاظ على مكاسبها، بينما تواجه قسماً آخر يراها حركة نخبوية تسعى إلى فرض مسائل مُسقَطة على المجتمع التونسي بحجة النضال النسوي.

تاريخٌ في ثلاث مراحل
يمكن تلخيص تاريخ الحركة النسوية في تونس بثلاث مراحل أساسية. الأولى هي مرحلة بوادر الإصلاح ومعركة التحرير قبل الاستقلال عام 1956، حيث كانت الحركة الإصلاحية آنذاك تطرح قضية تحرير المرأة وتدعو بالخصوص إلى تعليمها.

ومع بروز منظمات نسوية في تلك الفترة، تطور الحديث حول قضايا المرأة إلى دورها في بناء الوطن ومكانتها في عملية النهضة، خاصة مع الزعيم الراحل عبد العزيز الثعالبي والمفكر الطاهر الحداد والرئيس السابق الحبيب بورقيبة. وشهدت تلك المرحلة كذلك مساهمة المرأة في معركة التحرير وانخراطها في النشاط السياسي.

أما المرحلة الثانية في تاريخ الحركة النسوية فهي مرحلة الاستقلال وبناء الدولة العصرية (1956-2010)، وكان أبرز ما ميّزها صدور مجلة الأحوال الشخصية يوم 13 آب/أغسطس عام 1956، والتي تضمنت جملة من القوانين التقدمية الهادفة إلى إقرار المساواة بين الرجل والمرأة في عدة مجالات.


كما جاء دستور يونيو/حزيران، عام 1959، ليقرّ مبدأ المساواة بين المرأة والرجل، ثم تتالت التشريعات لإقرار حقوق المرأة المدنية والسياسية كحق الانتخاب والتعليم والعمل.

أما المرحلة الثالثة والأخيرة وهي فترة ما بعد الثورة (2011-2020)، فهي مرحلة دفاع المرأة عن حقوقها وتتويج نضالها من خلال دستور الجمهورية الثانية (27 كانون الثاني/ يناير 2014) الذي نصّ في فصليه 21 و46 على حرص الدولة على ضمان المساواة بين المواطنين والمواطنات.

كما تميّزت هذه المرحلة بإصدار القانون الانتخابي الذي أقرّ مبدأ التناصف العمودي والأفقي بين الجنسين في القائمات الانتخابية.

نضال تقاطعي… ومكاسب
بالنسبة للناشطة الحقوقية النسوية خولة الكسيكسي، فإن الحركة النسوية في تونس وفق المقاربة الجديدة التي تعمل بها اليوم تقوم على النضال النسوي التقاطعي الذي يضم كافة الفئات المهمشة التي تتعرض للهيمنة والضغط من قبل الأشخاص والمؤسسات.

وتوضح الكسيكسي في هذا الصدد لرصيف22: “بالنسبة لي، النضال النسوي يتجاوز حدود النضال ضد الأشخاص إلى النضال ضد المؤسسات والسياسات الكاملة، ويشمل كافة الأقليات العرقية والجنسية باعتباره نضالاً نسوياً شاملاً في اتجاه مقاربة راديكالية”.

المساواة التامة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً بين المرأة والرجل واعتبار المرأة كائناً يتمتع بكافة حقوقه شأنه شأن الرجل دون أدنى تمييز، يندرجان ضمن أبرز الأهداف التي تعمل على إرسائها الحركة النسوية في تونس، وفق تصريح الناشطة الحقوقية النسوية بلقيس مشري لرصيف22.


بدورها، توافق الكسيكسي أن العدالة والمساواة على المستوى الاقتصادي بين الجنسين هما على رأس أولويات الحركة، “لأن النساء يتعرضن إلى عنف اقتصادي ممنهج نتيجة سياسة قديمة متكاملة”.


كما تعمل الحركة على المستويين السياسي والاجتماعي في سبيل توزيع عادل للأدوار بين المرأة والرجل للقطع مع التوزيع القائم على تكريس دونية المرأة من قبل الدولة ومؤسساتها والمجتمع، إضافة إلى إرساء سياسة واضحة وجدية بالأخص لمنع العنف المسلط على النساء بجميع أشكاله، وفق الكسيكسي.

وتقول الناشطة في هذا السياق: “الدولة ليست جدية في التعاطي مع بعض القوانين لحماية المرأة، جراء عدم إقرارها آليات لتطبيقها وتفعيلها لتغيير نظرة المجتمع السائدة تجاه المرأة والتي تجرّ إلى العنف المسلط عليها”.

تثمّن ناشطات في الحركة النسوية المكاسب التي توّجت نضالهن في تونس، وعلى رأسها مشروع قانون المساواة في الميراث الذي اقترحته لجنة الحريات الفردية والمساواة برئاسة الناشطة الحقوقية النسوية بشرى بلحاج حميدة على رئيس الجمهورية السابق الباجي قايد السبسي، رغم عدم المصادقة عليه.

وتصف مشري هذا المشروع بالإنجاز التاريخي الذي ناضلت من أجله الحركة النسوية رغم المضايقات التي واجهتها في سبيل حقوق المرأة، خاصة في المناطق الريفية الداخلية.

أما الكسيكسي فتعتبر القانون عدد 58 لسنة 2017، المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، مكسباً للحركة النسوية مكّنها شخصياً من التقاضي والمطالبة بحقوقها عندما تعرضت للعنف المبني على الجنس.

تحديات الحراك النسوي
في المرحلة الحالية، تصطدم الحركة النسوية في تونس، في إطار نضالها للحفاظ على مكاسبها الموجودة أو لتحقيق مكاسب جديدة، بتحديات تعرقل وصولها إلى أهدافها.

من أبرز هذه التحديات، وفق الكسيكسي، غياب الإرادة السياسية، إذ “لا تضع الطبقة السياسية في تونس نضال الحركة النسوية ضمن أولوياتها وتتعامل معه كموضة لتلميع نشاطها السياسي، إضافة إلى تقليل هذه الطبقة بشكل كبير من شأن قضية العنف المُسلّط على النساء”.

أما مشري فتعتبر أن “العدو الرئيسي للحركة النسوية سياسي بالأساس، ويتمثل في بعض الأحزاب ′الرجعية′، وفي مقدمتها حركة النهضة وائتلاف الكرامة اللذان عملا على عدم تمرير مشروع قانون المساواة في الميراث بزعم مخالفته أحكام الشريعة الإسلامية كما يقفان ضد محاولات تحرير المرأة”.

بموازاة ذلك، تشير إلى التحديات الثقافية، وإلى ضرورة تربية الأجيال على احترام حقوق المرأة ومكاسبها وعلى مبادئ وأسس الحداثة.

اتهامات بالنخبوية والإسقاط
لا تقتصر مناصرة الحركة النسوية في تونس على المرأة فحسب، بل تتعداها إلى الرجل أيضاً.

في هذا السياق، يدعم الناشط والمدون جهاد مبروك نشاط هذه الحركة في الدفاع عن حقوق المرأة “المظلومة” في البلاد، ويوضح قائلاً: “مجتمعنا لا يزال يفكّر بالعيب والحرام وكلام الناس، ويعتبر المرأة أداة للمنزل والزواج ويختزلها في شرف العائلة والزوجة الصالحة المطيعة”.


ويضيف جهاد، في حديثه لرصيف22، أنه يقف إلى جانب الحركة النسوية في مسألة توعية النساء بضرورة التكلم وعدم الخوف والتزام الصمت واللجوء إلى القانون للدفاع عن أنفسهن وفي تعريفهن بحقوقهن.

في مقابل المناصرة، تعلو أصوات أخرى تشكّك في قيمة الحركة النسوية في تونس وفي دورها، وصولاً إلى عدم الاعتراف الكلي بوجودها.

في هذا الإطار، يرى أستاذ علم الاجتماع عماد بلكحلة أن من الصعب الحديث عن حركة اجتماعية نسوية في تونس بالمعنى العلمي للكلمة، إلا بوجود مشروع وروح جماعية تضم المجتمع المدني والسياسي بصفة أغلبية. ويتابع في تصريحه لرصيف22: “لا توجد حركة نسوية في تونس، بل دعوات وأفكار نسوية أغلبها من طرف الرجال”.

من جهتها، تؤكد الناشطة الحقوقية مريم دابي لرصيف22 عدم اعترافها بهذه الحركة، قائلة: “أنا لست نسوية بالمرّة، وبالنسبة لي الحركة النسوية في تونس هي للمتاجرة والربح فقط، وهي تعالج مشاكل تابعة لطبقة بورجوازية أرستقراطية تريد إسقاطها على المجتمع التونسي الذي لا تنتمي له”.

من جانبه، يشدد الناشط الحقوقي والمدون أيمن بن عمار على أن “للحركة النسوية في تونس تاريخ نضالي لا ينكره أحد منذ فترة مقاومة الاستعمار الفرنسي إلى حين نيل الاستقلال”، لكنه يستدرك بالقول لرصيف22: “أصبحت الحركة النسوية الحديثة منذ الثورة إلى اليوم نخبوية لا تخدم مصالح المرأة التونسية واهتماماتها في كامل ربوع البلاد على قدم المساواة، إذ يظهر تمييز كبير في دفاع الحركة عن النساء حسب الطبقات الاجتماعية”.

ويتجلى غياب المساواة، حسب بن عمار، في عدم تفاعل بعض الحركات النسوية كحركة “أنا زادة (أيضاً)” التي تدافع عن ضحايا التحرش، بنفس الهبّة مع ضحايا التحرش من النساء في العاصمة تونس، على عكس التفاعل الضئيل مع الضحايا من نساء المناطق الداخلية والأرياف واللواتي تمر قضاياهن في صمت.


وتعليقاً على اتهامها بالنخبوية، لا تنفي الكسيكسي ذلك بالمطلق بالنظر إلى عدة عوامل من داخل الحركة النسوية وأخرى من خارجها على رأسها النظام السياسي القديم الذي كرّس المركزية، لكنها تؤكد في المقابل عمل الحركة على القيام بمراجعات داخلية بهذا الشأن.

وتكشف: “نحن كحركة نسوية نعمل على أن يكون لدينا تمثيل في المناطق الداخلية، كما نحرص على التواصل مع كافة النساء عبر مواقع التواصل الافتراضية”.

عن موقفها السلبي كامرأة تجاه الحركة النسوية، تقول دابي: “أنا كامرأة لست ضد المرأة، وإنما أنا ضد الأفكار المُسقَطة على المجتمع، فأنا موجودة وأخرج في الصفوف الأمامية للتظاهرات وأحارب من أجل حقوقي والمشاكل الحقيقية للمواطنين”.

لا تتفق دابي مع الحركة النسوية في عدة نقاط، فهي ترى أن هذه الحركة لم تقف خلال فترة حكم بن علي وحتى اليوم إلى جانب المرأة المحجبة والإسلامية التي تعرضت إلى مضايقات، ولم تدافع عنها رغم وجود عدة اتحادات نسائية كانت تنشط حينها.

وتضيف في هذا الصدد: “تغاضت الحركة النسوية آنذاك عن حقوقنا وحرياتنا في المعتقد واللباس، ودافعت في المقابل عن حرية الجسد فقط”.

في المقابل، تنفي الكسيكسي صحة هذا الاتهام، قائلة: “تدافع الحركة النسوية في تونس اليوم عن المرأة المحجبة مثل دفاعها عن المرأة اليسارية والعلمانية وهذا موثق، كما تدافع عن النساء ضحايا العنف الزوجي والأسري اللواتي تنتمي غالبيتهن إلى أوساط محافظة، وليس لدينا أي تمييز أو انتقائية في الدفاع عنهن”.

وتضيف “ربما كان هذا الانحياز موجوداً مع الأجيال القديمة، نظراً لنشاط الحركة النسوية خلال فترة حكم الأنظمة الدكتاتورية السابقة في تونس”.


أما في ما يتعلق بمقترح مشروع قانون المساواة في الميراث، فترى دابي أنه لا يمثل أولوية أو مشكلة أساسية وحقيقية بالنسبة لنساء الأرياف، كما تطرح الحركة النسوية، منتقدة بشدة رفع هذه الحركة شعار محاربة السلطة الذكورية، ومعتبرة إياه “هدماً للمجتمع التونسي ولقيمه ومبادئه باسم الحريات والدفاع عن حقوق المرأة”.


من جهته، يعارض مبروك بعض الأفكار داخل الحركة النسوية التي تعلن “الحرب” على الرجل، وتعتبر نفسها ضحيته فتصنف كافة الرجال في خانة واحدة وتقوم بتشويههم وتقزيمهم وشتمهم، رغم وجود نسبة هامة منهم ممن يحترمون المرأة.

ويرى أن على الحركة النسوية أن تجد قيمتها دون أن تعمّق الكره والهوة مع الرجل، وأن على الرجل “الرجعي” في أفكاره أن يؤمن بطريقة حضارية بأن المرأة لديها حقوقها وحرياتها الطبيعية مثلها مثل الرجل.

كما يعارض مبروك ما قال عنه تعصّب بعض الناشطات النسويات لفكرتهن القائمة على جعل المرأة أكبر شأناً وأعلى قيمة من الرجل، مشدداً على أهمية اعتبار المرأة والرجل سواسية.

في الإطار ذاته، ينتقد بن عمار ما وصفه بالتناقض الكبير لدى الحركة النسوية التي “ترفع تارة شعار النضال للتحرر من السلطة الذكورية، وطوراً تهرول للاستنجاد بالسلطة السياسية الأبوية لدعم مقترحاتها على غرار استنجادها بالسبسي لتقديم مبادرة المساواة في الميراث”.

ورداً على ذلك، تعتبر مشري أنه موقف مجانب للصواب وأن العودة إلى السبسي كانت لضمان سند يشارك الحركة النسوية الأفكار ذاتها، ولأنه يمثل السلطة كرئيس للدولة.

بين هذين الاتجاهين، تحاول الحركة النسوية في تونس خاصة بعد ما بثته فيها الثورة من روح شبابية، إثبات وجودها بالفعل لا بالقول رغم بعض النقائص التي تشكو منها.

حركة اجتماعية شاملة
لتجاوز هذه النقائص ولتمثيل المرأة التونسية أحسن تمثيل، يرى بلكحلة أن على الحركة النسوية الاندماج ضمن حركة اجتماعية شاملة، تحمل مشروعاً ثورياً وتقدمياً وتغييرياً شاملاً يناضل لحماية حقوق المرأة وضد التمييز الجهوي والطبقي والتدهور البيئي.

كما يرى أن “على الحركة النسوية القطع مع شعار محاربة السلطة الذكورية وبناء ثقافة حب جديدة بين المرأة والرجل، لأن العلاقة بينهما في تأزم حاد والدليل على ذلك نسب الطلاق المرتفعة”.

بدوره، يرى بن عمار أن “الحركة النسوية مطالبة بالدفاع عن المرأة التونسية دون تمييز على أساس اللباس والطبقية والانتماء والأفكار والأيديولوجيات، وعليها رفع شعار الدفاع عن الإنسانية لا غير”.