قضية الفيرمونت: النظام هو الراعي الأول للرجعية والاضطهاد



ماجي صباغ
2020 / 9 / 9


فوجئ الكثيرون من متابعي أحداث جريمة اغتصاب جماعي لفتاة في فندق فيرمونت نايل سيتي، والمعروفة إعلاميًا بجريمة أو قضية الفيرمونت، صباح يوم 31 أغسطس بالتحقيق مع الشهود على الجريمة كمتهمين، وتعرُّضهم لضغوط شديدة من جانب المُحقِّقين، واصدار قرارات بحبسهم احتياطيًا، علاوة على تسريب بيانات الشهود عن طريق حسابات مجهولة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتسريب فيديوهات وصور شخصية لهم. وقد سبق التحقيق حالات اختفاء الشهود في أماكن غير معلومة، وهو إجراء لم يكن معتادًا إلا في القضايا السياسية.

إن توجُّه فتاة تعرَّضت للاعتداء الجنسي للإبلاغ عمَّا حدث لها، أو حتى مجرد الحكي والبوح على المواقع الإلكترونية، لم يكن أمرًا معتادًا. وتُظهِر إحصائيات الأمم المتحدة أن أمرأةً واحدة من بين 10 سيدات تعرَّضن للاغتصاب تقوم بإبلاغ الشرطة. وقد تنخفض هذه النسبة في المجتمعات التي تمارس اضطهادًا على النساء. فنادرًا ما نسمع في مصر عن سيدةٍ أعلنت أنها تعرَّضَت لاعتداءٍ جنسي، وذلك خوفًا من ممارسات المجتمع ضدها من إلقاء اللوم عليها وتحميلها المسئولية كاملة عن انتهاك الجاني لها، وتعهيرها، لإيجاد المبررات للمعتدي، مِمَّا أدَّى إلى خضوع النساء لابتزاز وتهديد المغتصب على ما يبدو في كلِّ جريمة. وقد ظلَّت ضحية الفيرمونت صامتةً طوال ست سنوات؛ تعاني من تهديد الجناة ومشاركتهم لفيديو عملية الاغتصاب والتباهي بما فعلوه، رغبةً منهم في إظهار القوة والسيطرة.

ولكن في الفترة الأخيرة، ظهر في مصر اتجاهٌ هو امتداد لتيارٍ عالمي يشجِّع النساء على فضح المتحرشين والمغتصبين، ومثَّلَت منصات التواصل الاجتماعي والمدونات ملاذًا يوفِّر بعض الأمان للنساء لدى فضحهن الجناة.

استمدَّت النساء قوةً وشجاعة وثقة بالنفس وإصرارًا على استرجاع حقوقهن التي لطالما سُلِبَت منهم، وأخذت شهاداتٌ مُجهَّلة وأخرى معلنة تظهر من نساءٍ تعرَّضن للاعتداء الجنسي، وتعالت الأصوات مطالبةً بمحاسبة المعتدين الذين اعتادوا على ارتكاب مثل هذه الأفعال دون محاسبة.

في سياق الأصوات المتعالية، حاول المجلس القومي للمرأة، ذلك الكيان الحكومي المسخ، تصدُّر المشهد وركوب الموجة النسوية، فأصدر بيانًا يشجِّع النساء على تقديم شكاوى رسمية واعدًا بحمايتهن ودعمهن بكل السبل وذلك عقب نشر حساب Assult Police على إنستجرام شهادة الفتاة. وبالفعل تقدَّمَت ضحية الفيرمونت بشكوى للمجلس، الذي قدَّم بدوره ملف الشكوى للنيابة، ومن ثم وصلت القضية إلى ما آلت إليه. وسواء كان هذا المجلس متواطئًا أم أن السلطة استخدمته للتشويش على القضية وقلبها رأسًا على عقب، فلم يصدر أيُّ تصريحٍ من رئيسته بعد تحويل القضية من اغتصابٍ جماعي لفتاة فاقدة الوعي إلى حفل جنس جماعي نظَّمه مثلي وحضره عددٌ من المنحرفين ومتعاطي المخدرات، مثلما جاء في بيانات النيابة.

إن الدفع بهذه القضية في هذا لمسار يهدف إلى إطلاق أحكام أخلاقية على الضحية والتشكيك في سلوك الشهود مما يضعف موقفها ويفقدها تعاطف الرأي العام. وهنا تستخدم السلطة أحد أذرعها الإعلامية الرخيصة من الصحف الالكتروتية الصفراء لتشويه المجني عليها والشهود والتركيز على حياتهم الشخصية وتصويرهم كمجموعة منحرفين يمارسون الجنس ويتعاطون المخدرات.

إن قلب القضية بهذا الشكل قد لا يلقى قبولًا في المجتمعات التي حقَّقَت بعض التقدُّم على مستوى حقوق النساء، ولكن في مجتمعٍ ينكر وجود اضطهاد للنساء بل ويدَّعي تكريمهن، هناك استباحةٌ لأجساد النساء عن طريق التبرير الدائم لجرائم المغتصبين والمتحرشين وإظهار هذه الجرائم باعتباره رد فعل لسلوك المرأة وملبسها وطريقة سيرها ومكان تواجدها وساعة تواجدها، فلا قيمة للمرأة كإنسانة حرة، بل يُنظَر إليها كأداةٍ جنسية وعليها تحمُّل عبء عدم إثارة غرائز الرجال وإلا فلن تلومن إلا نفسها.

إن دافع السلطة وراء تسريب فيديوهات شخصية للشهود لا علاقة له بالجريمة، بل أن تصوير جانب من الحياة الخاصة لهم يتعارض مع قيم المجتمع المحافظ إنما الهدف منه إفقاد الضحية للتعاطف وإنقاذ المتهمين الستة من العقاب. وهناك في قانون العقوبات ما يدعم هذه الفكرة، حيث نصَّت المادة 267 الخاصة بجرائم الاغتصاب على أن “من الممكن أن يُعَد سلوك المجني عليها قرينةً على رضائها بحدوث المواقعة”.

تعمد السلطة إلى معاقبة الضحية التي لا تعد شريفة بمعايير الشرف التي تحافظ عليها السلطة نفسها والمجتمع، وتحتقر أصحاب الميول الجنسية المختلفة من الرجال المثليين وتجري لهم كشوف شرجية، مثلما تجري كشوف عذرية لشاهدات القضية، وهو سلاح كثيرًا ما استخدمه نظام السيسي لإهانة النساء المقبوض عليهن وإهدار كرامتهن وإرهاب وتخويف الأخريات من المصير نفسه. تتعمَّد السلطة كلَّ ذلك حتى لا تجرؤ أيُّ فتاة على الإعلان بشكل رسمي، أو حتى غير رسمي، عن تعرُّضها لحادث اغتصاب أو حتى تقديم شهادة في قضية.

لقد بات واضحًا في قضية الفيرمونت أن السلطة لا تريد سوى الإبقاء على الأوضاع كما هي عليه، بل وزيادتها سوءًا من خلال كبت أصوات الناجيات وتحويلهن من شاهداتٍ ومجني عليهن إلى شريكاتٍ في جريمةٍ تستوجب السلطة العقاب عليها. وأثبتت هذه التجربة بكل تفاصيلها المريرة أن هذا النظام بشرطته وقضائه وأجهزة إعلامه ومجالسه القومية لم يكن، ولن يكون، داعمًا لأيِّ حراكٍ نسوي يرتقي معه الوعي بقضية حرية النساء ويقود إلى تغييرٍ اجتماعي يهدِّد منظومة القيم المحافظة، التي هي ركيزة هذا النظام القمعي والذكوري. بل أن النظام يقاوم هذا الحراك مقاومةً شرسة، ويستخدم كلَّ أساليب القمع والقهر، والأساليب الرخيصة في التشويه، وتدمير حاضر ومستقبل كلِّ من تحاول معارضة ليس السلطة السياسية فحسب، وإنما السلطة المجتمعية أيضًا.

إذا كان بناء تيارٍ نسوي أمرًا ضروريًا لانتزاع بعض المكتسبات للنساء، فإن بناء هذا التيار لابد أن يكون مستقلًا عن النظام على نحوٍ لا يعوِّل عليه حتى أيَّ قدرٍ من الأمل في إنصاف الناجيات ونيل حقوقهن. فالنظام هو الراعي الأول للرجعية والاضطهاد.