العنف الجنسي بين القانون والوصم المجتمعي



أحمد سعيد
2020 / 10 / 19

بحثًا عن عدالة بديلة:

لطالما مثَّل القانون غطاءً شرعيًا ومرجعيةً للقمع ودرعًا تحتمي به الطبقات الحاكمة والفئات المسيطرة على البناء المجتمعي، وكذلك المستفيدين من هذا البناء المجتمعي. فالقانون النظري هنا هو حائط الصد المجتمعي الأخلاقي الذي يحول بين الفئات المتضرِّرة من الوضع المجتمعي وتغييره، بينما يُعتَبَر النظام القانوني ومؤسسة العدالة وقوات إنفاذ القانون هم اليد التي تُبقي الوضع على ما هو عليه. في هذه المقاربة لا فارق بين القانون المكتوب والعادات والتقاليد (القانون العرفي غير المكتوب) التي صيغَت مجتمعيًا كذلك على يد الفئات المسيطرة لحماية مصالحها وإبقاء موازين القوى على ما هي عليه.

ماذا عن تغيير النظام الاجتماعي عبر تغيير القوانين في الدول “الديمقراطية”؟

تعِد الديمقراطية الليبرالية (الرأسمالية) مواطنيها بإمكانية التغيير القانوني، لكن الواقع يقول إن التغيير القانوني ليس إلا ترجمة عملية للتغيير المجتمعي، الذي لا يمكن مواجهته والنجاة من تأثيره إلا عبر احتضانه واستئناسه أو الخضوع له في حالة تحوُّل الفئات المضطهدة إلى قوةٍ لا يمكن إخضاعها أو استئناسها وبالتالي تتحول إلى قوة ملزمة لا تطالب بل تفرض احتياجاتها على المستوى المجتمعي وبالتالي القانوني وليس العكس، وهو ما يمكن تسميته بالتغيير الثوري أو فوق القانوني.

الحجج القانونية كحجج دائرية في مواجهة التغيير
مثلما تُواجَه التيارات التقدمية التحررية بالحجج المبنية على العادات والتقاليد من قبل المجتمع، تُواجَه كذلك بالقانون من قبل الدولة بالأساس، والدولة تُعتَبَر هنا هي المؤسسة الاعتبارية التي تمثِّل وتحمي الفئات المهيمنة بدعوى تنظيم تضارب المصالح بين جميع الفئات في المجتمع.

هذا الأمر هو ما يمكن رصده الآن على سبيل المثال في مصر وسط التيار الثوري من استخدام للحجج القانونية في مواجهة حملات النساء لوصم المتحرشين والمغتصبين اجتماعيًا، والاستعاضة بهذا الحل المجتمعي عن الحل القانوني -ربما كحلٍّ آني- لكثيرٍ من الأسباب.

فنجد الرجال -الفئة المستفيدة من التراتبية الجندرية- يرفعون شعار “المتهم بريء حتى تثبت إدانته” في وجه حملات الوصم. ورغم أنه من المتوقَّع أن تكون حملات الوصم ناشئةً في الأوساط التقدمية، بما أنها في مقدمة تيار مشروع التغيير المجتمعي، نجد على غير المتوقَّع أن أصحاب هذه الحجج القانونية هم من أبناء مشروع التغيير الذين انخرطوا في محاولات التغيير الثوري أو ما أسميه هنا “التغيير فوق القانوني”، والذين يتبنون في مواجهة الدولة الطرح الخاص بعدم كفاءة النظام القانوني القائم أو تحيُّزه الواضح كأداةٍ غير حيادية نظريًا وعمليًا في يد الدولة والطبقة الحاكمة.

نرى الرجال أنفسهم يعبِّرون عن خيبة أملهم ويأسهم من الوصول إلى العدالة المرجوة عبر هذا النظام القانوني باستخدام القانون وأدواته حين يمثِّلون أقليةً سياسية وإحدى الفئات المتضررة، لكنهم يحتجون به نفسه حين يتحوَّلون إلى ممثلين للفئات المستفيدة منه -على اعوجاجه- كرجالٍ وفقط.

وما ينطبق على القانون ينطبق على المجتمع، لأنه كما أشرنا ليس سوى مرآةٍ وتعبيرٍ عن الواقع المجتمعي.

لنضرب مثلًا من الواقع، ماذا إذا صرخت امرأة في الشارع المصري المعاصر مستنجدةً، وقالت: “حرامي” في المرة الأولى، وفي المرة الثانية قالت: “متحرش”؟

اللص خطرٌ على الملكية الخاصة، خطرٌ يهدِّد الجميع، لكنه يهدِّد بالأخص الفئات الأقوى في المجتمع الذين يتمتَّعون أكثر من غيرهم بحماية الدولة وامتيازات الانتماء إلى الفئات المستفيدة أو يطوفون في حماها، لذلك ترتفع احتمالية التدخُّل المجتمعي لحماية المرأة لأعلى درجاتها، بينما في حالة المتحرش تنخفض المبادرة لمساعدة المرأة أو حمايتها إلى احتمالاتٍ أقل بكثير من الحالة الأولى، بل وقد تتعرَّض هي نفسها للهجوم المجتمعي، لأن الخطر هنا موجهٌ بالأساس لفئةٍ محددة هي النساء.

الامتيازات النسبية والوصم المجتمعي كبديلٍ للحل القانوني والعكس
لا تزال محاولة وصول النساء إلى العدالة باستخدام بديل الوصم المجتمعي قاصرةً على فئاتٍ معينة وطبقات معينة تتمتَّع فيها النساء ببعض الامتيازات النسبية بالمقارنة بالنساء من طبقات أخرى، ففي مصر تجد مثلًا أن هذا البديل المجتمعي لا يُمارَس إلا في الدوائر التقدمية التي خلقت بنفسها لنفسها على المستوى النظري قانونًا أخلاقيًا خاصًا كجزيرةٍ منعزلة في وسط المجتمع الأكبر.

بالرغم من هذا، ولعدم سيطرة القانون الأخلاقي الخاص أو لعدم إمكانية فرضه من القلة النسوية الراديكالية على هذه الجزيرة، وازدواجية التيارات المحافظة نسبيًا بقيادة الرجال أصحاب النفوذ في هذه الدوائر، يمكن رصد الاتجاه الذي يميل إلى الاستعانة بالدولة ونظامها القانوني والذي صادف محاولة الدولة المصرية لتجميل وجهها بمسحوق حقوق المرأة ودعمها.

والمحصلة هي نسوياتٌ تقدميات ضد الدولة يبشِّرن باللجوء إلى القانون والدولة لحماية النساء لعدم وجود بديل مجتمعي فعَّال حتى في الأوساط التقدمية، ورجالٌ تقدميون ضد الدولة يحتمون بالقانون والدولة ضد آلية الوصم المجتمعي.

وبين هؤلاء وهؤلاء، هناك أصواتٌ تنادي بضرورة خلق آلية مجتمعية لا يملكون تطبيقها أو ضمانة فاعليتها في إنفاذ العدالة المرجوة.

يجب ألا نهمل كذلك طبيعة جريمة الاعتداء الجنسي من حيث صعوبة إثباتها أو الأثر المجتمعي الواقع على الضحية، والذي لا يزال حتى في الأوساط التقدمية شديد الضرر. وهو تحدٍ آخر يقف في طريق المنادين بالحل القانوني، والاستفادة من الأمر الواقع على علاته من قبل المدافعين عن المرأة كعضو مجتمعي متضرِّر من هذا الواقع نفسه، سواء كانت استفادةً قانونية أو مجتمعية.

ما الأسباب التي جعلت النساء تلجأ إلى الآلية المجتمعية إذًا كبديلٍ أو ربما عاملٍ مساعد ومحفِّزٍ للطريق القانوني، ليس فقط في الدول التي يتراجع فيها دور القانون بل حتى في الدول التي توصَف بأنها دول قانون ومؤسسات؟ وما الذي دفع النساء كذلك في مصر، على سبيل المثال، لمحاولة الاستفادة والاحتماء بالنظام القانوني على علاته؟

إنها متاهةٌ دائرية شديدة التعقيد، ويمكن فهمها كمحاولات نجاة فردية غير مكتملة، أو قرارات اضطرارية في مواجهة واقع مجتمعي وقانوني معتل وجائر.

فالآلية المجتمعية (الوصم) كانت محاولةً لمواجهة العوار القانوني والتشريعي وإشكالية الاحتماء بالدولة في أوساط معينة، والحل القانوني هو محاولة لمواجهة العوار المجتمعي.

وإن كان الوصم لا يفلح كما قلنا إلا في أوساطٍ معينة وضد أفراد معينة أو لنقل أن تأثيره سيكون أكثر فعالية ضد أشخاص بعينهم، فإن الحل القانوني كذلك لا يفلح إلا لأفراد بعينها من طبقاتٍ معينة وبامتيازاتٍ معينة.

معضلة النجاة الفردية والتأسيس للنجاة العامة ولوم الضحية
لكن هل يمكن ممارسة “لوم ضحية” على المستوى الفردي بانتقاد لجوئها إلى القانون حتى في دولة مثل مصر؟ هنا يمكن التفريق بين الرؤية العامة ومحاولة التأسيس لتغيير مجتمعي حقيقي ورؤية جذرية للحل المرجو، وبين محاولة النجاة الفردية والحصول على العدالة بالأدوات المتاحة والمسموح بها في مواجهة الجميع بلا استثناء.

أرى أن المرأة في موقع ضحية العنف الجنسي أو الجندري، لا تواجه المعتدي فقط، بل تواجه مجتمعًا كاملًا ودولةً وقانونًا، بل وتواجه الداعمين لها كذلك من مختلف المواقع والمواقف ومحاولات فرض الفهم السياسي والاجتماعي للواقع من كلِّ المحيطين والمحيطات بها، وهو ما لا يتوافق مع فكرة الدعم في حد ذاتها.

وهذا ما يحاول مفهوم “الدعم غير المشروط” أن يقوله. فدعم الضحية لا يمكن أن يكون مشروطًا بشرط ما لأنه في هذه الحالة سيتحوَّل إلى استخدامٍ وتشييء. يواجه هذا المفهوم كذلك كلَّ محاولات التشويه الممكنة من المبشِّرين به أو المعترضين عليه. فيتم السخرية منه وتصويره كنوعٍ من الدوجما الكاريكاتورية على طريقة مغالطة رجل القش الشهيرة.

الدعم غير المشروط هو دعم الضحية بما تحتاجه هي وبما تراه هي وبما تختاره هي، بإعطائها المساحة التي تحتاجها ومساعدتها على خلقها في الأساس في مواجهة الوضع المجتمعي المتجذِّر، أي الانضمام إليها دون خلق جهة ضغط جديدة.