معمرة يونانية نموذج من أمهات الماضي



عبد السلام الزغيبي
2020 / 11 / 6

قلم/ عبدالسلام الزغيبي

حين قرأت خبر رحيل "كاترينا كارنارو" المعمرة الأكبر في اليونان، عن عمر يناهز 115 عاماً٬عزمت على معرفة قصة حياتها علني أجد شيء جديد يروي ظمئي لمعرفة الخيوط السرية الكامنة خلف هذه الأعوام المديدة. تصفحت عدة مواقع يونانية باللغة اليونانية والإنجليزية، وعثرت على قصة حياتها٬ إضافة إلى حوار أجري معها قبل سنوات.
السيدة كاترينا، ليس مجرد امرأة يونانية معمرة رحلت وأنتهى الأمر، بل هي حكاية تستحق أن تروى لنأخذ منها العبر٬ كونها عاشت حياتها وفقاً لرغبتها٬ وكافحت لتغدو شاهدة على تغييرات شهدتها اليونان خلال أكثر من قرن.
ولدت المعمرة اليونانية في بلدة جريلوس في أقليم بيلوبونيز، وانتقلت لاحقاً إلى مدينة كريستينا القريبة، حيث عاشت مع عائلتها حتى رحيلها. في الثالثة عشرة من عمرها اسدلت الحرب العالمية الأولى ستارها الأخير٬ وفي التاسعة والثلاثين عاماً من عمرها٬ غادر النازيون اليونان عام 1944.
كأم شابة، عملت "كارنارو" في زراعة الحقول وتربية الماشية، وهي من الأعمال التي وصفتها بالشاقة٬ ليس لأنها تتطلب القوة والتحمل فحسب٬ بل لأنها تقضي وقتاً طويلاً بعيداً عن أطفالها. ورغم الأوقات الصعبة، إلا أنها تعتقد أن الوقت آنذاك كان أفضل من اليوم.
أجمل ذكريات حياتها كانت اقترانها، رغم أن عائلة زوجها لم توافق على تلك الزيجة في البداية.
التقى الزوجان أثناء عملهما في الحقول، ووقعا في الحب على الفور٬ رغم فارق السن الذي يفصلها عن زوجها "سوفوكليس".
لجأ "سوفوكليس" إلى حيلة ذكية بالاتفاق مع أصدقائه من أجل إتمام عملية الزواج من حبيبته. فذات يوم، تجول في المدينة بلا قميص، وهو أمر غير مقبول في ذلك الوقت، ثم عاد إلى المنزل وحبس نفسه في غرفته. اتصل والده بالطبيب المحلي على الفور، بعدما شعر بالقلق من تصرفات ابنه. فحص الطبيب٬ الذي كان مشاركاً في المؤامرة، بفحص سوفوكليس ليخبر والده أن ابنه يعاني من مرض نفسي وان "قلبه مكسور"٬ سأل والدَه إن ثمة امرأة يحبها ابنه، اعترف الوالد بوجود الحبيبة، لكنها أكبر منه سناً. نصحه الطبيب ان يزوج ابنه حبيبة قلبه وإلا فإن حالته النفسية قابلة للانهيار وسيفقده إلى الأبد. رضخت العائلة للأمر بعد ذلك وتم الزواج. لكن حياتهما معا لم تدم طويلاً، فالأمر انتهى برحيل زوجها في سن مبكرة نسبياً، وكان على كارنارو تحمل مسؤولية البيت والأطفال والحقل والاشراف على تربية الماشية وحلبها وصنع الأنسجة من صوفها، وهي مسؤوليات كبيرة تحملتها بشجاعة، مثل كل النساء المكافحات اللواتي يملأن الدنيا.
ورغم الصعوبات الكبيرة التي مرت بها خلال منعطفات حياتها٬ غير إنها "كانت في صحبة أهل الخير" وإنها مدينة بحياتها الطويلة إلى الله٬ وإلى صحبة عائلتها، التي امتدت إلى أحفاد أحفادها، وتعدها الثروة الحقيقية.
أما عن سلامة عقلها وبدنها لأعوام طويلة، قالت أنها تعود إلى الغذاء الطبيعي والعمل والنوم المنتظم، وإنها كانت تحب تناول الزبدة والقشدة والجبن والزيوت الحيوانية٬ وتسخر من فكرة الحميات الغذائية٬ لكنها بالمقابل كانت تتناول الخضروات والفاكهة٬ وكل ما تنتجه الأرض٬ إلى جانب زيت الزيتون.
وعندما سئلت عما ستقوله لشباب اليوم٬ أجابت ببساطة: "إذا كنت شخصاً جيداً فسيحبك الجميع٬ وإن لم تكن كذلك، فلن يرغب بك أحد، وهذا سر تعاسة أي إنسان".
في هذا المقام اتذكر أمي (نواره) يرحمها الله، التي اصبحت أرملة في زمن مبكر٬ تركها أبي عشر سنوات كاملة، لتؤدي دور الأم والأب معا. ربتنا (ستة من الذكور وثلاث من الإناث) تجهز كل شيء بيديها المتعبتين، تغسل ملابسنا بالصابون الأخضر الصلب" السوسي" قبل اختراع الغسالة، وتغسل الصحون بمسحوق غالبا ما يترك أثره على الكفين. تطهو طعامنا باستخدام "بابور الجاز" متحايلة علينا بإعداد كل ما نحبه. تطحن الدقيق في الرحاية، وتبرم حبات الكسكس بيديها قبل توفر الكسكس الجاهز، وتضيف الكسبر المطحون الى قهوة "الرجريجي". تعجن الخبز بيديها ثم يحمله أحدنا إلى فرن الصالحين في شارع قصر حمد.
في أيام الشتاء كانت تجهز كانون النار للتدفئة، وتعد القهوة والسحلب والشاي٬ مع ما يتوفر من الكاكاوية واللوز مترافقة مع حكايات شعبية لا تزال عالقة في الذاكرة.
هكذا كانت حياة أمهاتنا في الماضي، توزعت بين العمل والشقاء والتضحية والعطاء بلا حدود.. قدمن أفضل ما لديهن للأبناء ليغدووا مصدر فخرهن وعزتهن.