النوع الاجتماعي ومشكلة العلاقة بين الانوثة والذكورة



احمد شحيمط
2020 / 11 / 12

تقديم:
يرمي هذا الموضوع للتأمل في مرامي الخطاب الدائر عن المرأة واختلال العلاقة بين الذكورة والأنوثة . في مجالات عدة من الحياة الاجتماعية، وفي التاريخ البعيد والقريب الذي تحولت فيه الإرادة العامة والمشتركة في صناعة الحياة واستقامة العلاقة بين المرأة والرجل نحو تبادل الأدوار إلى مشكلة فعلية في اختلال التوازن بين الجنسين، تحقيق أهداف منها، ترسيخ العلاقة التفاعلية بدون مركب نقص، وعدم النزوع نحو خطاب راديكالي ينتقص من المرأة وأدوارها أو يقلل من قيمة الرجل ومكانته . فالخطاب النسائي في العالم يعتبر أن التحالف بين القوى الفاعلة في المجتمعات الإنسانية ظل يميل لكفة الرجل في نزعة ذكورية استعلائية . التي ساهمت في تحديد أدوار المرأة بناء على رؤية أحادية . غير محددة في الجانب البيولوجي. بل في العوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي شلت حركة المرأة. وقلصت من أدوارها ووظائفها. وبذلك جاء الخطاب النسائي في العالم كرد فعل سلمي لإعادة العلاقة إلى طبيعتها في تمكين المرأة من حقها الوجودي.وبذلك اكتسب الخطاب دلالة حقوقية لانتزاع ما هو مشروع من السيادة على الذات، والتعبير بصوت خافت عن القهر والحيف الذي لحق المرأة ومكانتها في المجتمع . تعالت أصوات النساء في حركات مدنية راديكالية للتمرد على الرجل والقيم المدافعة عنه لإنزاله من عرشه. وإرغامه في قبول قواعد جديدة تملي عليه احترام المرأة، وتقاسم المهام والأدوار. وفي العالم العربي يميل الخطاب النسائي بأشكاله. الإسلامي والعلماني الحداثي في إعادة النظر لكل ما يتعلق بوظائف المرأة في الحل الوسطي المسالم للرجل. أو في الرفض ومحاولة خلخلة الترسبات العالقة في الوعي الجمعي . من منطلق المرجعيات الحقوقية المدافعة عن حق المرأة في الوجود،والتعبير عن ذاتها وصيانة حقوقها . وفي ظل تباين المرجعيات يسود في العالم اليوم موجة أخرى من الخطاب الميال للرفض والتمرد على القيم الاجتماعية . من منطلق عدم الإنصاف للمرأة . الجندر أو النوع الاجتماعي نماذج من الأصوات في العالم تتعالى وتدعو للحقوق الكاملة، وتبادل الأدوار في مجتمع ديمقراطي مبني على المساواة في الحقوق والواجبات . مجتمع خال من الأصفاد والسلاسل التي كانت من الأسباب في إعاقة المرأة، وشللها النهائي عن العطاء . وإبراز ذاتها ككيان بكل الإمكانيات والطاقات الذهنية . ليست المرأة ناقصة عقل، والفروق البيولوجية ليست مقياسا لاختلال العلاقة بين الذكورة والأنوثة. وبالتالي يطرح الموضوع مجالا للتأمل في مرامي وغايات الخطاب عن المرأة والرجل، وما يحمله الجندر من أفكار ومواقف تحمل المسؤولية للرجل الذي صنع القيم واستولى على العقول والقلوب وجعل المرأة في تبعية عمياء .

أولا :في مفهوم النوع الاجتماعي
يرتبط مفهوم النوع الاجتماعي أو الجندر بالحركات النسائية في نضال المرأة للحرية والتحرر من ترسبات التقاليد والعادات، والقيم الذكورية التي هيمنت على الحياة الثقافية والاجتماعية . فاستخدم مفهوم الجندر في أوائل السبعينات ليشير إلى المنظومة الثقافية التي تشكل الأنوثة والذكورة في مقابل الفروق البيولوجية بين الجنسين . في العادة يضمن مفهوم الجنسانية، الهويات والرغبات والممارسات الحسية باعتبارها مفهوما مميزا ومغايرا للجندر(1). فالنوع الاجتماعي موجة جديدة في عالم ينادي بالمساواة وتبادل الأدوار. وإعادة تشكيل ثقافة جديدة تنصب على التوازن بين الذكورة والأنوثة . وتستند الرؤى في الموجة الجديدة على تراكمات النضال للحركات النسائية . واستيعاب انتاجات فكر ما بعد الحداثة . في ميل واضح نحو التفكيك والخلخلة للفكر الذكوري . وكل أشكال الهيمنة والقهر، وإعادة الاعتبار للمنسي واللامفكر فيه . فمن أوليات الفكر الجديد الذي تبلورت معالمه في فلسفة ميشيل فوكو وجاك دريدا وفي جوهر الفلسفة الوجودية . تتبع مسار الاختلال الذي قاد الحركات النسائية في العالم الغربي إلى الفكر الفلسفي القديم والحديث .والفكر الديني، وحمولة القيم السائدة في المجتمعات التي تغذي الفعل والسلوك .وتساهم في النظرة الدونية والاستعلائية للمرأة. الأنثى ذكر مشوه عند أرسطو، ومرتبة المرأة إلى جانب العبيد والحرفيين، ودورها مساعدة الرجل في الوصول إلى الخير الأسمى .وعند ديكارت فقد ربط العقل بالذكورة والمادة بالأنوثة . وعند الغزالي ليست المرأة سوى أداة في الإكثار من النسل وإطفاء الغريزة، فتنة على الرجال . فالمرأة هي الغواية والشر. الخيانة والحذر. حرباء في الأساطير، والحكايات الشعبية . تتلون ولا تستقر على حال. إنها فكرة توحي باختلال العلاقة بين الجنسين . قوة النظام الذكوري تتراءى فيه أمرا يستغني عن التبرير . ذلك أن الرؤية مركزية الذكورة تفرض نفسها كأنها محايدة . وأنها ليست بحاجة إلى أن تعلن عن نفسها في خطب تهدف إلى شرعنتها باعتبارها آلية رمزية هائلة. تصبو إلى المصادقة على الهيمنة الذكورية التي يتأسس عليها (2). عند التأمل في الخطاب المهيمن تلوح في الأفق مرامي المجتمع في تقسيم الأدوار. وتحديد الوظائف في إرادة الأقوى، وفي التعبير عن القيم الثابتة التي تستهدف مراقبة الرجل والمرأة من قبل وصايا وتقاليد المجتمع، الشرف والكبرياء والانتقام، ومكانة الرجل وسمعته تلزمه أن يتصرف وفق القواعد المرسومة في الواقع دون القدرة على نقدها . فالتقسيم الجنسي للعمل يعتمد من البداية على تصنيفات بيولوجية وقدرات نفسية واجتماعية . السوق للرجال والمنزل للنساء. والتكليف بالمهام لا ينبني على التشارك والتعاون في العمل، وفي تربية الأبناء، وتوزيع الأدوار بالمناصفة . هذا التقسيم الجنساني الخاص بالعمل بين الجنسين من أولويات الخطاب النسائي لأجل تحرير النساء، وإلغاء الفروق الاجتماعية والثقافية التي وضعت الرجل في مكانة اعتبارية . وعلاقات الإنتاج في تقسيم لا متكافئ في العمل والإنتاج . حيث ساهم في إنتاج علاقة السيد بالعبد، وعلاقة المالك لوسائل الإنتاج والعمال في المنطق الماركسي .النشاط في الخارج ينتج عملا وقيمة، والعمل داخل المنزل لا يكون ملموسا ومرئيا إلا بالنسبة للنتائج على مستوى الأسرة . فالحركات النسوية على تعدد مكوناتها وأهدافها . تعبر بصيحة عالية عن الوضع السيئ المتسم بالتبعية للرجل، اللامساواة ظاهرة في العلاقة، وتماطل الرجل وتحايله في صناعة القوانين هي بالفعل ضد الرجل والمرأة معا. فمادامت فكرة اللامساواة بين الجنسين متأصلة الجذور في مشاعر الناس، فان الحجة ضدها يزيدها رسوخا بدلا من أن يزعزعها (3)، إذن لا يمكن للعلاقة بين الأنوثة والذكورة أن تستقيم وتتوازن إلا بالفصل التام بين التقليد الذي رسخ الأفكار الجاهزة . وإقامة وعي جديد يؤسس للعلاقة المنتظمة بدون مركب نقص، يعني قدرة المرأة في القيادة والرئاسة، في تحمل المسؤولية، وتبادل الأدوار. الإنسان قبل كل شيء، قبل أن يصير رجلا أو امرأة ، وعندما تعود الحركة النسوية للماضي في الحضارات القديمة الشرقية والغربية ظلت المرأة قريبة من الرجل، بل حتى في الدراسات الانثروبوجية للمجتمعات البدائية، تبدو مكانة المرأة معقولة، تلك مجتمعات تعيش في أحضان الطبيعة وتنمو ثقافتها من بنية داخلية قوامها التماسك بين البنيات الأساسية وفي تفاعل مستمر، وبذلك، فالنوع الاجتماعي أو الجندر انعكاس مباشر لاختلال الواقع المادي في انقلاب العلاقة التي كانت في صالح الرجل وفق رؤية الحركة النسوية . الجنس الآخر بتعبير سيمون دوبوفوار، الفيلسوفة الوجودية التي استلهمت أعمالها الحركات النسوية في العالم الغربي، فاعتبرت أفكارها عن غرائز المرأة، ورغباتها وتفكيرها نوع من التحريض الايجابي، ويقظة وعي للنضال وانتزاع الحق المشروع . كتبت فكرتها الشهيرة" لا نولد نساء بل نصبح كذلك" يعني اختيارنا للجنس لا دخل للرجل والمرأة فيه. ذلك أن فكرة الوجودية الأساسية أن الوجود سابق على الماهية . والإنسان قدف به إلى العالم، ولم يختر الوجود في هذا العالم . فالوجود لذاته يعني إمكانية الاختيار بقناعة وحرية . أي الاختيار لأنماط الوجود كفكر ووعي، ومبادئ ممكنة في ظل الإكراهات والحتميات، وقدرة الإنسان على التجاوز . من يدرك معالم الفلسفة الوجودية ومبادئها، يقتنع بفكرة الحرية التي تعتبر جوهر الكائن .المرأة هنا صيرورة ينبغي مقاربتها مع الرجل في صيرورته . ليس المجتمع نوعا من الأنواع . ففي المجتمع يحقق النوع نفسه كوجود، ويجاوز ذاته نحو العالم والمستقبل، وأن أخلاق المجتمع لا تستنتج من البيولوجيا . والأشخاص ليسوا متروكين لطبيعتهم . بل يخضعون لطبيعة ثابتة هي العرف .والتي تنعكس فيها رغبات ومخاوف تعبر عن وضعهم البشري (4). علاقة الناس بعضهم البعض لا تستند على دلالة بيولوجية أصيلة في الإنسان، من المفروض تحليل الاختلاف الثقافي والاجتماعي. في مجال الطبقات الاجتماعية، تبدو الحقيقة واقعية من نزعة الصراع وإرادة الأقوى .

الخطاب النسائي يحمل المسؤولية لاختلال العلاقة بين الأنوثة والذكورة، وتصاعد موجات المد الراديكالي إلى النظام الرأسمالي، ومخاوف البورجوازية من المساواة . وللنظام الأبوي والتحالفات التاريخية بين السياسة والاقتصاد والثقافة. إضافة للأديان بأنواعها، الإنسانية بالمنطق المادي في الماركسية واقع مادي تاريخي يؤدي للعلاقات المضطربة بين قوى الإنتاج والعلاقات الإنتاجية، وبين البنية التحتية والبنية الفوقية، والنهوض بالمرأة ككيان ينطلق من تقويض النظام الرأسمالي وانخراط المرأة في الحركة العمالية الدافعة للتغيير وبناء منظومة اشتراكية لإعادة الاعتبار للإنسان، وتحقيق المساواة، فأسوأ ما في الملكية أن يمتلك الإنسان أخيه الإنسان، حيازة الشيء، وتملكه بدعوى الحق والتقاليد . أفكار ترفضها الحركات النسوية المحسوبة على اليسار أو اليمين من منطلقات إيديولوجية، تفند فكرة التشيئ، وتقليص نفوذ المرأة في أعمال روتينية . فاليسار مستمر بالعمل وفق ذهنية الاختزال الطبقي التي تنخر بقدرته على تطوير ذلك النوع من التحليل الثقافي الذي يحتاجه الفرد لفهم وظيفة " الإيديولوجية الجندرية" في تنظيم القوى العمالية، وبالتالي نجد غالبية النشطاء النسويين، والذين هم على ما اعتقد ليبراليون غالبا، ينحصر تركيزهم على الطبقات العليا من النساء العاملات، فيما ينحصر تركيز اليساريين على طبقة لا تختلف كثيرا، لتبقى غالبية النسوة العاملات مهمشة(5)، مقياس الحق والمساواة في المجتمع البديل من منظور اليسار، والحق والقانون والثبات على مبادئ النظام الرأسمالي والانخراط في النضال من قلب المجتمع المدني من منظور اليمين، هكذا نلمس تعدد الخطاب النسوي في العالم وفق مرجعيات متنوعة، وفق الأهداف والغايات المرسومة في النضال، الموجة الأولى بدأت من أصوات نسوية في العالم الغربي. فالاختلاف البيولوجي حتمي، والمشكلة هنا في الثقافة ومنظومة القيم العالمية،والفكر الذكوري المهيمن على القرار والفعل، والموجة الثانية في صيحة المرأة نحو انتزاع الحقوق، أما الموجة الثالثة، فهي النسوية المتمردة والمتطرفة في أصوات تدعو للصيحة الفكرية للمرأة، والكف عن الممارسة الجنسية مع العدو (الرجل )، رافعة الحقوق إلى أعلى سقف من المطالب، وداعية للرفض المطلق لاستعمار الأجساد واستلاب العقول .كما تشبعت الحركات النسوية بثقافة الاختلاف والنقد، أي ثقافة ما بعد الحداثة في تفكيك النزعة الذكورية والهيمنة بأشكالها، وتقويض مركزية المركز ومنطق الفحولة، والعناية بالهامش والمنسي .

النقد النسوي يؤكد وجود إبداع نسائي وآخر ذكوري . ولكل منهما هويته الخاصة. وعلاقته بجذور ثقافة المبدع وموروثه الاجتماعي والثقافي،وتجاربه الخاصة من نفسية وفكرية تؤثر في فهمه من حوله، والمرحلة التاريخية التي يعيشها(6). ويتسع النقد النسوي للعلاقة بين الأنوثة والذكورة في التغلغل داخل القيم الاجتماعية التي ساهمت في تشكيل المخيال الاجتماعي، والنظرة الراسخة عن صورة المرأة كذات حاملة للفكر، إضافة لكل ما يكتب عن المرأة في الأدب والفلسفة والشعر والرواية، هذا الفكر المسكون بلغة ذكورية تعتبره المرأة انتقاصا في حقها . وتبقى في الهامش والدونية علما ان أدوارها في المجتمع تمنحها القدرة في إعادة تربية الرجل وتهذيبه من الطفولة . فالأدوار الجندرية للمرأة على تنوعها من الدور الإنجابي، الدور الإنتاجي، الدور الاجتماعي إلى الدور التشاركي، تلزم الكل على احترام نشاطها ووجودها في قلب المجتمع والإنتاج . هنا تبلور مفهوم الجندر أو النوع الاجتماعي الذي يتجلى في الأدوار الاجتماعية التي يتم تشكيلها ثقافيا في إطار مجتمع ما، كانت أن أوكلي annoaklay 1972 من أوائل من ميزن بين الجنس الذي نولد به، والجندر الذي نكسبه . ولم تخترع أوكلي التمييز بين الجنس والجندر . وإنما استعاراته من روبرت ستولرrobert stoller، وهو معالج نفسي عمل مع الأفراد الذين ولدوا بأعضاء جنسية غير محددة(7)، هذا المصطلح كان في الولايات المتحدة الأمريكية . وأدخل في حقل الدراسات النسائية، ويشير الجندر بالمعنى الجديد للفوارق غير البيولوجية، من أجل وضع المرأة في مكانها الطبيعي، فنحن لا نملك الاختيار في تحديد الهوية الجنسية، بل نملك القدرة في اختيار القناعات والمبادئ وفق ما ترسمه الفلسفة الوجودية، وبذلك فالعلاقة بين الأنوثة والذكورة تسند على أسباب إيديولوجية، وعوامل موجودة في التقاليد والقيم، والخطاب المحدد بالسلطة والقوة ، من مهمة الباحث في مجال الدراسات الاجتماعية والثقافية، السعي في تتبع العلاقة بين الجنسين، وتحديد مكامن الخلل في النفاد لما هو ثقافي وقيمي في الثقافة العالمية والمحلية

ثانيا : الأنوثة والذكورة في الثقافة العربية
اختلال العلاقة بين الأنوثة والذكورة في الثقافة العربية تجابه دائما بالرفض، وعدم التقبل عند التيارات المحافظة التي تعتبر أن الدين كرم المرأة، وعمل على صيانة حقوقها الكاملة في تبادل للأدوار والوظائف، أو لنقل التأويل الفقهي للدين ومرامي الفقهاء في التأويل من دون الاستناد على الفكر الدخيل من الثقافة الغربية المحملة بالهدم والتقويض لأسس الأسرة في العالم الإسلامي . لكن في غمار التحليل نعثر كثيرا على دراسات عن اختلال العلاقة بين الرجل والمرأة في منطق التقاليد والعادات، وفي الثقافة الشعبية ، في كتاب "ألف ليلة وليلة " وحكاية شهريار وشهرزاد . القتل الذي يطال الأنثى دون كوابح اجتماعية، غير ما يراه شهريار المريض والعنيف من الحق لإبادة للنساء في عطش للقتل . حكاية من التاريخ التي تغدي المخيال الشعبي للرجل في تكوين صورة نمطية عن النساء، هموم المرأة ومعاناة النساء في المجتمعات المنغلقة، الوضع الاجتماعي للمرأة العربية المتسم بالتبعية للرجل، مجتمعاتنا قيدت المرأة بسلاسل من القيم الموروثة من الماضي،أما الطبيعة فهي بريئة، وحقائق العلم تثبت ذكائها وقوتها في التحمل، من الإنجاب إلى الأعباء المنزلية، وأدوار أخرى غير متكافئة في المجتمع . إن سلبية المرأة ليست صفة طبيعية في المرأة، ولكنها صفة غير طبيعية نتجت عن ضغوط المجتمع وكبته لنموها. وكذلك أيضا جميع الصفات الأخرى التي ألصقها المجتمع بالمرأة والأنوثة . وكلها صفات غير طبيعية دخيلة على طبيعة المرأة السوية(8)، المجتمع بقيمه وتقاليده من يفرض ألوانا من الأفكار المترسبة من الماضي أو أفكار مصطنعة وليدة قوانين غير منصفة، والتي تؤدي لاختلال العلاقة بين الرجل والمرأة، من المجتمع القبائلي بالجزائر قام عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو" بالدراسة عن الجنسين ، وتوصل للكثير من النتائج عن تقسيم العمل والنظام الاجتماعي والأخلاقي . فالرجال يمارسون أعمالا من قبيل الفلاحة والحصاد والحرب، وللنساء قطف الزيتون وجمع الحطب . والشرف من القيم وسمعة الرجل في المجتمع . هذا النوع من العنف الرمزي الذي يمارس على المرأة، ويساهم في الهيمنة الذكورية بدافع القيم الاجتماعية، وعلاقة الوقائع بالوعي الذاتي والموضوعي الذي ينعكس مباشرة على الفعل والسلوك، ويؤدي لاختلال العلاقة بين الرجل والمرأة .

الامتياز الذكوري هو فخ أيضا، يجد نقيضه في التوتر، وتركيز الانتباه الدائمين اللذين يفرض الواجب على كل رجل لتأكيد رجولته في كل الظروف(9). وبذلك يعمل الرجل وفق ما تمليه القبيلة والثقافة في وضع نفسه داخل إطار ضيق من المراقبة والمعاقبة لكل فعل خارج نطاق القيم السائدة، إعادة إنتاج منظومة القيم الخاصة بالرأسمال المادي والرمزي ويزيد الأمر في دهاء ومكر المرأة على المغامرة والانفلات من الرقابة، وتحييد الرجل في سلطته المادية، وينعكس الأمر كذلك على العلاقة المتوازنة بين الأنوثة والذكورة، كأن تلجأ المرأة للحيل، كالشعوذة وممارسة السحر لإرغام الرجل أو إسكاته، أو تنتهي العلاقة بينهما للنفور الجنسي، والكراهية المتبادلة . فالبنت تولد طبيعية تم تتعلم لحظة ولادتها كيف تصبح أنثى، وكذلك الولد يتعلم كيف يصبح ذكرا . كما قالت "مرجريت ميد"، أن الفتاة تتعلم أن تجلس وتضم ساقيها وتحافظ على بكارتها، وتخجل من جسمها، ثم تنتظر دورها السلبي في الحياة كامرأة، أما الولد فيحرك ساقيه بحرية ويفخر بجسده (10)، الأدوار الجندرية محددة سلفا في القيم الاجتماعية، والسؤال الذي يطرح ذاته، من صنع هذه القيم؟ للبحث عن الحقيقة ودلالة السؤال يجب العودة للأصل، نحتاج جينيالوجيا نيتشه. وأركيولوجيا فوكو للتنقيب والنبش في حيثيات الثقافة، وترسبات الفكر والقيم التي وضعها الناس في المجتمع، الذكورية القضيبية ممتدة في كل المجالات وحاضرة بقوة في الكتب المكتوبة والتراث المسموع . ومتشعبة في ميدان التربية والسياسة . في موضوع المرأة بالذات . وفي مجتمعاتنا العربية بالذات . يشعر الباحث أو الباحثة العلمية، أنه يسير في أرض مليئة بالألغام، وأنه في كل خطوة من خطواته يصطدم بالأسلاك الكهربائية العارية، والمقدمات الحساسة في المجتمع (11). قضية المرأة هنا سياسية بالدرجة الأولى، وليست نابعة من الفكر الشعبي الذي ينتقص من المرأة في أدوارها ووظائفها، لا بد من خلخلة قيم المفاضلة بين المرأة والرجل . أن يقتنع الرجل أن الاختلافات البيولوجية لا نقاش فيها، وبالتالي يدور السجال عن جدارة المرأة في عدة وظائف لازالت حكرا على الرجل في السياسة والتدبير، في الكتابة والتعبير، وفي الإبداع الفكري والعلمي . فالعامل البيولوجي والاقتصادي ليسا من العوامل المحددة للأدوار في المجتمع، بل هناك عوامل مركبة، وفكر مستنبت في الوعي الاجتماعي، ومنطق الرجل، وما نلاحظه هو تردد النسوية العربية في الغالب بين طرحين لقضية المرأة : طرح إنساني يلح على الاشتراك في المنزلة الإنسانية، وهو الطرح الذي ظهر منذ كتابات سيمون دوبوفوار عن "الجنس الآخر "، وطرح اختلافي يلح على الاختلاف، وهو قد يفضي إلى تفضيل المرأة على الرجل(12)، مجتمعاتنا في غالب الأحيان تخفي الأسباب المادية من وراء القيم، ويعلل القضية بدافع الشرف والفضيلة والعفة والاستقامة، وينتج عن ذلك حق الرجل في التعدد والطلاق والطاعة .

كتبت المرأة العربية من شجون وهموم الذات، ومن سلطة شهريار. وذكورية المجتمع عن قضايا واقعية، من التحرش الجنسي والاستغلال بأنواعه . نوال السعداوي وسنوات الكتابة، عن الاختلال السافر في العالم بين المرأة والرجل . كتبت عن الوجه العاري للمرأة العربية، عن الرجل والجنس، وعن الحجاب والشرف، وقالت أن الأنثى هي الأصل، ودافعت عن حضور المرأة ككيان يحمل فكرا ووعيا . وكتبت مي غصوب عن المرأة العربية وذكورية الأصالة، ومن تونس كتبت رجاء بن سلامة عن المؤنث والمذكر، وعن الفحولة، ومشكلة اختلال التوازن بين الرجل والمرأة في مجتمع ذكوري، ذو نزعة قضيبية استقوائية . كما كتبت ليلى بعلبكي عن الحرية ضد القيود الحديدية في مجتمع الرقابة والمنع، كتبت الروائية المغربية فاتحة مرشيد عن شهرزاد وهمساتها، وحكايات من الذات في مجرى الصراع بين المرأة والواقع المعاش، وكتبت فاطمة المرنيسي عن الجنس كهندسة اجتماعية، وعن النسوية الإسلامية من عمق التقاليد والعادات المغربية، وفي الإبداعات السينمائية حاولت المرأة العربية المبدعة إيصال صوتها، عند تكييف الحكاية حتى تلامس عمق الوعي الاجتماعي، في خلخلة ترسبات الأفكار الجاهزة عن المرأة . ثلاثية نجيب محفوظ وعلاقة الرجل العربي بالمرأة من زمن الأمس، أحمد عبد الجواد والزوجة أمينة وليالي السهر والمجون، وحكاية الرجل العربي الانفصامي بين الخطاب الخارجي في تلميع الصورة وخطاب الداخل للأسرة . كتبت المرأة العربية لإزالة ترسبات ألف ليلة وليلة، وترسبات الزجل الخاص عن المرأة (عبد الرحمان المجذوب وحكايات عن المرأة في المجتمع المغربي )، وصورة الجنية في الحكايات المغربية "عائشة قنديشة " قاهرة الرجال، وكل ما يتعلق بالكتب التراثية والحكايات الشعبية .حقيقة المرأة في العالم، من هيمنة النظام الرأسمالي والفكر الذكوري، والحقيقة أن الذي عقد طريق المرأة إلى الأنوثة هو "سيغموند فرويد" نفسه بنظريته المعقدة، عن أن البنت الطبيعية حين تولد تحسد أخاها الولد بسبب امتلاكه عضو الذكر، وأنها تقترب إلى أبيها بأمل الحصول على طفل يعوضها عن فقدانها عضو الذكر(13). كلام لا ينبغي أخده مسلمة وحقيقة بدليل أن الأبحاث النفسية لفرويد كانت نتاج تشخيص للوقائع والحالات في عينها، ولن تكون حقائق قصوى في تحليل مكامن الخلل في اختلال التوازن بين الأنوثة والذكورة، فالأمر هنا يتعلق باليات التحليل، والأدوات الجديدة المنتقاة من تيارات الفكر الغربي المعاصر، من البنيوية واللسانيات المعاصرة، وتيارات ما بعد الحداثة، في محاول لفهم جذور المشكلة، والعمل على حل العقدة. فالرجال الذين صاغوا القوانين ووضعوا القيم والمثل هم الذين يحكمون هذا العالم، والمرأة عندما تريد إزالة هذه القيود نحو التحرر من خطاب المفاضلة والفوارق الثقافية والاجتماعية بين الجنسين نحو إقامة مجتمعات ديمقراطية تصاب بالدهشة عندما تعيد المرأة إنتاج الفكر ذاته للرجل ولذلك تحتاج المرأة للوعي بحقوقها، وإدراك أن العالم لا يستقيم إلا بالعلاقة المتوازنة بين الذكورة والأنوثة ، مقياس العلاقة تبادل الأدوار في مجتمع ديمقراطي تعددي .
خاتمة :
تحاول الحركات النسائية في العالم إيصال صوتها، واثبات مصداقية الخطاب الذي يستند على حق المرأة كانسان في العيش بكرامة، وحقها في الحرية الكاملة في مجتمعات ذكورية هيمنت على القرار والسلطة . وأنتجت الهيمنة معالم ثقافة غير متوازنة بين الأنوثة والذكورة، وفي عالمنا العربي تبقى المرأة تراوح ذاتها في خطاب حقوقي، يحاول انتزاع الأساسي من الرجل في أمل تغيير القيم الراسخة في العقول والتي ترسبت بفعل هيمنة إرادة الرجل ، سلاح المرأة تربية الطفل على المساواة ، وغرس القيم المتوازنة في الثقافة .


الهوامش :

(1)هالة كمال وأية سامي " النسوية والجنسانية " ترجمة عايدة سيف الدولة ، سلسلة ترجمات نسوية العدد 7 -2016 ص95
(2) بيير بورديو "الهيمنة الذكورية " ترجمة سامي قعفراني . مركز دراسات الوحدة العربية ،الطبعة الأولى بيروت 2009 ص 27
(3)جون ستيوارت مل " استعباد النساء " ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ، الناشر مكتبة مدبولي الطبعة الأولى 1998 ص35
(4)سيمون دوبوفوار " الجنس الآخر " ترجمة محمد قدري عمارة (سلسلة العلوم الاجتماعية . مكتبة الأسرة 2006)
(5) ليندا مارتن ألكوف " النسوية واليسار " حوار – المصدر : حكمة، إعداد مكتبة التنوير ص07
(6) حفناوي بعلي " مدخل في نظرية النقد النسوي وما بعد النسوية " منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 2009 ص31
(7) هالة كمال وآية سامي" النسوية والجنسانية ص 97
(8) نوال السعداوي " دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي " المؤسسة العربية للدراسات والنشر . الطبعة الثانية 1990 ص 38
(09) بيير بورديو " الهيمنة الذكورية " ص83
(10) نوال السعداوي " المرأة والجنس " دار ومطابع المستقبل الإسكندرية، الطبعة الرابعة 1990 ص53
(11) نوال السعداوي " الأنثى هي الأصل " مؤسسة هنداوي ،2017 ص19
(12) رجاء بن سلامة " بنيان الفحولة أبحاث في المذكر والمؤنث " دار بترا للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2005 ص140
(13) نوال السعداوي " الأنثى هي الأصل " ص67