الكلجية .. ستة -قرون- بين مجازر المغول وبغاء الانكليز


عدنان يوسف
2020 / 11 / 14

الصابونجية وكوك نزر والكلجية ، ثلاثة اسماء لمحلة واحدة تقع في بغداد قرب ساحة الميدان مقابل وزارة الدفاع .
والكلجية اسم فرقة عسكرية مغولية . اتخذ هولاكو من محلة الميدان مقرا لقيادته ومن هنا عرفت المنطقة بالاسم المغولي ؛ الكلجية . وهو اسم صار فيما بعد يشير ، اينما ذكر الى الدعارة . الكلجية في الاصل مركز ابادة جماعية لسكان بغداد المسلمين تحديدا ، فقد اعفى هولاكو معتنقي الاديان الاخرى من القتل(كان ذلك بطلب من زوجته النسطورية دوقوز خاتون)  وامرهم برفع الاعلام فوق بيوتهم لتمييزهم  وامر بقتل المسلمين جميعا  . وكان هولاكو يجلس بمقصورة في الكلجية يشاهد جنوده وهم يسوقون الالاف من العراقيين الى ساحة قطع الرؤوس ورميها فوق بعض حتى تصير تلالا [يعتقد بعض الباحثين ، يؤيد ذلك العلامة مصطفى جواد ، ان اسم الكلجية وتعني مكان جمع الرؤوس جاء نسبة الى تلك العملية الاجرامية للمغول] .
كان ذلك ابتداء من اليوم العاشر من شباط سنة 1258م حين قتل المغول باربعين يوما فقط 1.8 مليون انسان  حتى ان الدماء كانت تجري انهارا في الطرقات وتسيل من ميازيب الاسطح في البنايات التي جرى فيها الذبح العشوائي للاهالي من الرجال والنساء والاطفال وبمختلف الاعمار، وقد تجمع هذا العدد في بغداد التي كان عدد سكانها لا يزيد على المليون نسمة هربا من مدنهم اعتمادا على فتوى مضللة تستند الى حديث "مزور" يقول ما معناه إن بيضة الاسلام لا تخرج من يد بني العباس الى يوم القيامة . فالتجأ الناس الى بغداد ، عاصمة العباسيين  عند اقتراب المغول من العراق لإحتلاله .
بعد ما يزيد على الستة قرون والعراق يرزح تحت احتلال مستمر لجيوش امبراطوريات ودول وقبائل جاء الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1917 وجاءت معه الدعارة العلنية حيث اصدر المحتلون قانون تنظيم الدعارة وكانت الكلجية هي المركز الرئيس للبغاء في بغداد ، يذكر المحامي امين المميز  في كتابه بغداد كما عرفتها "محلة الميدان (مثلاً) لها شهرتها كمحلة خاصة، تضم زقاق الكلجية الذي اخلاه الانكليز من سكانه مع دخولهم بغداد عام 1917 وحوّلوه موضعاً خاصا بالبغاء"
كانت "درابين" الكلجية تضج بآلاف الرواد يوميا(في احصائية لوزارة الصحة سنة 1939 ذكرت ان عدد "زوار" مبغى كوك نزر وحده لتلك السنة تجاوز  المليون رجل) وكأنهم يحيون ما كان على عهد بابل حين كان البغاء طقسا دينيا يجب ممارسته قبل الزواج . "في بابل بكارة المرأة ملكا للالهة عشتار لا لزوجها المقبل . تهب عذريتها في المعبد وتمارس الجنس المقدس تحت رعاية الالهة قبل ان تلتزم حياة زوجية" (فراس السواح لغز عشتار ص 40)٠أو ما كان يجري في جزيرة العرب في "الجاهلية" من ممارسات جنسية مقابل المال ولم تكن مشينة لمرتكبيها . كانت تتم في العلن حيث تضع العاهرات رايات حمر فوق منازلهن كعلامات دلالة للرجال طالبي المتعة المؤقتة . وكانت تجري "حفلات" جماعية حيث يجتمع عدة رجال على مضاجعة امرأة واحدة بالتناوب ويكون من حقها لو حملت ان تختار أيا منهم ليكون ابا للطفل بعد الولادة . حرم الاسلام الزنى ووضع عقوبات قاسية لمرتكبيه لكنه اعفى النساء المكرهات على البغاء من العقوبة ووعدهن بالرحمة والغفران دون ان يتوعد مكرهيهن على ذلك بأية عقوبة . ورد في الاية 33 من سورة النور " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن اردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد اكراههن غفور رحيم"
ووجد المسلمون بدل الزنى المحرم ، طريقا "شرعيا" لممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج بما يعرف بملك اليمين . احصى هولاكو حريم الخليفة المستعصم بالله ، الذي سقطت الدولة العباسية على يده ، فوجدهن فضلا عن زوجاته ، سبعمائة امرأة يمكن للخليفة مضاجعتهن بملك اليمين اضافة الى الف جارية .
الاسمان الآخران لمحلة الكلجية ؛ الصابونجية وكوك نزر ، تركيان فقد كانت مخازن العلف الخاص بجياد الجيش العثماني "التبن " وهو في اللغة التركية يسمى "صمان " ، موجودة في تلك المنطقة وقد حورت الصمنجية وهو اسم المحلة المرتبط بالصمان الى الصابونجية (يرى باحثون آخرون ان الاسم يرتبط بالصابون الذي كانت مخازن تجاره في تلك المحلة) . اما كوك نزر فهو ايضا اسم تركي محور من كزل نزر ، اسم جامع بناه الوالي العثماني مدحت باشا عند مدخل المحلة وخط على واجهته عبارة كزل نزر وتعني باللغة التركية النظر الجميل . بينما يرى الدكتور معتز محيي عبد الحميد في بحثه عن تاريخ البغاء السري والعلني في بغداد ان تسمية كوك نزر تعود الى لازار القائد الارمني في الجيش العثماني الذي بنى كنيسة للارمن في ذلك الموقع فسميت المحلة بكوك لازار وتعني قطيعة لازار . حور البغداديون الاسم الى كوك نزر .
وكوك نزر او الكلجية ، المبغى الذي انشأه الانكليز المحتلون اقره الحكم الوطني العراقي الذي قام بعد الثورة العراقية الكبرى سنة 1920 ووضع له نظاما  برقم 33 اصدره الوصي على العرش الامير عبد الاله سنة 1943. حدد فيه مواصفات المومسات والقوادين اذ اشترط على القواد للعمل في الكلجية ان يكون حسن السلوك والسيرة وغير محكوم بجناية مخلة بالشرف وفرض النظام عليه غرامة مالية لو ثبت انه استخدم عاهرة لا تملك هوية دعارة او شهادة صحية او يقل عمرها عن عشرين سنة (شرط العمر هذا يشمل الرجال ايضا فمنع الذكر دون سن العشرين من الدخول الى الكلجية) وهي شروط وضعها النظام المذكور لعمل المومسات اضافة لمنعهن من حضانة ابنائهن حين تجاوزهم السنة الثالثة من العمر ، ويجب ايداعهم ، بدل ذلك ، في الملاجئ الحكومية . وفيما يخص المحلة نفسها منع النظام تناول الخمور او المخدرات ومنع المبيت داخل الكلجية محددا اوقات العمل من الساعة الثالثة بعد الظهر الى الحادية عشرة ليلا ووضعت لافتة عند مدخل المحلة تحمل امرا حكوميا يقول "ممنوع دخول السكران".

عام 1938 كان للكلجية دور(وطني) مهم في حماية بغداد من الغرق استحقوا عليه جميعا الشكر والتقدير من امين العاصمة . تعرضت بغداد الى فيضان وكادت تغرق بسبب كسر سدة ناظم باشا في منطقة الوزيرية فذهب ضابط شرطة السراي الى الكلجية بسيارات الشرطة ، ملأها بالمومسات والقوادين وزبائنهم . ملأ الرجال الاكياس بالتراب وقامت النساء بحملها على ظهورهن وتم ردم الكسرة وبذلك انقذت بغداد من الغرق .
ثم دار الزمان دورته فمنع البغاء رسميا عام 1955 حين انضم العراق الى اتفاقية الامم المتحدة بمنع الاتجار بالبشر . وقد نظمت حملات اجتماعية ودينية وسياسية ضد محلات البغاء في بغداد والموصل والبصرة منذ سنة 1943 ابتدأها الشيخ جلال الحنفي وزادت حدتها وتوسعت بانضمام محمد فاضل الجمالي اليها حين كان وزيرا للخارجية سنة 1946 وعندما صار رئيسا للوزراء سنة 1953 امر الجيش بهدم بيوت العاهرات البالغة مائة بيت وازالة محلة الكلجية وتم ذلك بالفعل 
وقد مهدت جمعية الخدمات الدينية والاجتماعية  لهذا الامر باصدارها لكتيب عن احوال العاهرات البالغ عددهن 314 امرأة بينت فيه اصابتهن جميعا بالامراض الزهرية وأن الحي بحالة سيئة جدا ، قذارة المياه الآسنة التي تغمر الازقة وعدم وجود مراحيض عامة فتتبول الناس في الطرقات . 
انتهى عهد البغاء العلني ليعود العهد القديم (البغاء السري) للانتشار في اماكن اخرى