كيف أثّرت العادات الاجتماعية المتوارثة في المجتمع السوري على حق المرأة بالتملك؟



رياض علي
2020 / 12 / 20

أتذكّر جيدًا عندما كنت في المرحلة الإعدادية بنهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، كيف اجتمع والدي وأعمامي وعماتي في بيتنا بمدينة القامشلي شمال شرقي سوريا تحضيرًا للذهاب إلى دائرة الكاتب بالعدل، وفهمت حينها أن الهدف من ذلك هو أن يتم التنازل من قبل عماتي لإخوتهم الذكور بخصوص حصتهنّ في تركة جدي المتوفى، وبالفعل ذهبوا جميعًا وتمت عملية التنازل على الوجه المطلوب، وعلمت بعدها أن عقارات جدي وممتلكاته تم توزيعها على الذكور دون الإناث، ولم أشاهد أيًّا من علامات الامتعاض والاستنكار على وجوه عماتي، بل على العكس تمامًا تمت الأمور في جو طبيعي جدًا، بل في جو من الألفة والحميمية، وأتذكر أيضًا أن والدي وأعمامي كانوا في كل موسم حصاد “يتفضّلون” على إخواتهم الإناث بمبلغ زهيد، مقارنة مع حصتهنّ في الميراث، وما كانت ستدر عليهنّ فيما لو تم توزيعها وفقًا للشرع والقانون.

وكان هذا الموضوع بالنسبة لي كما هو حال باقي أبناء المجتمع السوري طبيعيًا جدًا، ولم يخطر ببالي يومًا أن أسأل عن سبب عدم توزيع الميراث وفق ما هو مقرر شرعًا وقانونًا، لأنني لم أكن أعلم ذلك أصلًا، ولكن بعد دراستي للحقوق، وخاصة مادة الأحوال الشخصية التي تتحدث في قسم منها عن قضايا الإرث والتركة، تذكرت القصة التي سردتها للتو، وتساءلت عن سبب القيام بهذا التصرف وحرمان الإناث من حقوقهنّ، ولدى سؤالي لوالدي عن السبب أجابني، “العالم كلهم هيك وما فينا نكون غيرهم”، لم أجادله بالطبع لعلمي أن النقاش لن يغيّر في الأمر شيئًا، ولأن إقناع الشخص بالعدول عن عادات وتقاليد ورثها عن آبائه وأجداده ولا زالت تمارس من قبل أقرانه قد يكون ضربًا من المستحيل، سيّما وإن كانت المبادرة من شخص واحد أو أشخاص معدودين، وما كان يؤكد هذه القناعة لدي أنه حتى بعض المحامين والمحاميات من أبناء وبنات منطقتي، وهم المتبحّرون في القوانين، يمارسون ذات السلوك وإن كانوا هم/هنّ من الورثة أحيانًا، كما أني ومن خلال تنقلي وسكني في العديد من المدن السورية بحكم الدراسة والعمل، لاحظت أن هذا التقليد متبع في الغالبية العظمى من البلدات والمدن السورية، مع بعض الاستثناءات في عدد من المدن الكبرى كدمشق وحلب، تلك الاستثناءات التي لا يمكن أن تكون مقياسًا مادامت الغالبية الساحقة تسير على ذاك النهج غير العادل.

ومناسبة ذكر مثل هذه الحادثة هي أن مشاكلنا كسوريين لا تنحصر فقط في القوانين المدوّنة، مع إقرارنا بوجود الكثير من العلَّات والهنَّات في القوانين السورية، لا سيما تلك الخاصة منها والتي سُنَّتْ بعد تولي “حزب البعث العربي الاشتراكي” للسلطة عام 1963، وليس أيضًا في التطبيق السيئ لتلك القوانين حينًا وعدم تطبيقها أحيانًا أخرى وبقاء الكثير من النصوص حبرًا على أوراق يتم التبجّح بها من قبل السلطة المستبدة عند الحاجة، لكن كانت الكثير من مشاكلنا وحالات الظلم، خاصة بحق المرأة تأتي نتيجة العادات والتقاليد البالية المتوارثة، والتي أصبحت بمثابة القوانين وأقوى منها أحيانًا، كما في حالتنا آنفة الذكر، هذه العادات التي حرمت نساء بلدي من حقوقهنّ في التركة التي هي بالأصل قليلة مقارنة مع حقوق الذكور، إذ أن “للذكر مثل حظ الأنثيين” فيما يخص الأموال المنقولة والعقارات الملك، أي العقارات الداخلة ضمن المخطط التنظيمي المبنية أو المعدة للبناء، أما بخصوص العقارات الأميرية، أي تلك الواقعة خارج المخطط التنظيمي للبلدة، فيتم توزيع التركة فيها وفقًا لقانون انتقال الأموال الأميرية، الذي ينص على المساواة بين الذكر والأنثى في التركة.

فلو تم توزيع التركة وفق ما هو مذكور أعلاه سنجنِّب النساء آفة الذل والسؤال، فالمرأة المتزوجة، لاسيما غير العاملة، مضطرة دومًا إلى مسايرة زوجها بسبب الحاجة المادية، وكذلك الأمر بالنسبة للفتاة العزباء فهي مجبرة على تحمّل تذمر وإهانات إخوتها الذكور، وهو ما ينطبق على المرأة المطلقة أو الأرملة، والأمثلة تطول والحالات كثيرة، ولن ندخل هنا في تفاصيل القضية الإشكالية المتعلقة بتوزيع التركة على أساس أن للذكر حظ الأنثيين، لحساسيتها ولقناعتنا بضرورة تركها لأهل العلم والاختصاص ولأصحاب القرار في حال التوصل إلى سوريا الجديدة التي يسودها القانون وتحكمها المؤسسات، لكن أردنا فقط تسليط الضوء على هذا التقليد المتّبع في سوريا ردحًا من الزمن، والذي يعكس نمطًا من التفكير نحتاج إلى كثير من الوقت والجهد لتغييره والتخلص منه.

وهذا يستلزم تضافر الجهود على كافة المستويات الحقوقية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدني، والعاملين في مجال حقوق الإنسان، والمتخصصين في مجال حقوق النساء، لاسيما المنظمات النسوية الفاعلة بهذا المجال، إذ نادرًا ما يتم التركيز على تلك العادات والتقاليد المتّبعة بخصوص توزيع التركة، بل تكون الجهود مركزة على مسألة ضرورة تغيير القانون وتحقيق المساواة في الحصص الإرثية، وذكرنا أن هذه المسألة بالغة الحساسية، خاصة في المجتمعات الإسلامية كالمجتمع السوري، لذلك سيكون من الأجدى بالوقت الراهن تخصيص تلك الجهود في التوعية بضرورة التخلص من هذا التقليد الذي يحرم النساء من الميراث، لما لهذا الأمر من مخاطر مستقبلية، خاصة وأن السير بموضوع التوعية سيكون يسيرًا، كونه لا يخالف الشرع أو القانون، وبالتالي ستكون حجة القائمين عليه أكثر قبولًا وإقناعًا.