الحراك النسوي التونسي وسياسة الاغتيال الناعم



هاجر منصوري
2020 / 12 / 28

بعيدا عن كلّ احتفاليّة بِعِيدِ النساء وقريبا جدّا من واقعنا التونسي والعربي المرير..لا يخفى على كلّ متابع للمشهد النسوي التونسي بعد ثورة الشغل والكرامة، أن يلاحظ السياسة الممنهجة لتشظية حراكه حتّى يفقد نواته الناظمة لنضاله وبوصلته الدقيقة في تكريس مفهوم المواطنة والمساواة التامة بين الجنسين في الحقوق والواجبات في جميع المجالات. وقد وجددت التونسيات اليوم أنفسهنّ في مواجهة جبهتين لا تقلّ الواحدة منهما خطورة عن الأخرى.
أوّلا: جبهة العولمة المتوحّشة التي تأكل " عرق " غالبيّة العاملات في المصانع وتمتصّ رحيق الحياة من "أرواح" الفلاحات المتناثرة على طول المسالك الوعرة في حقول جندوبة، والقيروان وسيدى بوزيد...، في حين ينبعث "شذى" عطور البعض منهنّ، ومن حقّهنّ فــ"الأنوف تعشق قبل العين أحيانا" ويستكمل شريط العشق في تسخير " أجسادهنّ " في عروض كرنفاليّة توشّيهنّ بما هو أثمن من عقولهنّ وتختصر وجودهنّ في ثرثرة جوفاء تعمّق تشويه مسار الحراك المجتمعي والنضالي للمرأة التونسيّة، وقد تكفّل المال الفاسد ولوبيات المافيا الإعلاميّة الخاصّة في تونس بهذه المهمّة. فخصّصت برامج هامّة للنساء تختصر وجودهنّ كلّه في برامج التجميل والتخسيس و" relooking " أو مطابخ الأستوديوهات لـ" التصنيف" والتنويع في كلّ ما لذّ وطاب والشعب التونسي ما يزال محتارا في" دبارة النهار" وكأنّ الوجود النسائي لا غاية له إلاّ " هذا" أو" ذاك". ودون أن نتسرّع في التقويم فثمّت أيضا " هناك" الموزع في جميع " البلاتوهات " وفيه حدّث ولا حرج عن ظاهرة الكرنيكورات « chroniqueures » والإسفاف المبتذل وقد تبدّى في صورة "إناث" لا علاقة لهنّ بمسار النساء والحراك النسوي، إناث لا يردن باختصار الخروج إلى فضاء الإنسانيّة، والقائمة تطول في أسماء إناث الخدور، فما النموذج الذي سيتمثّله بناتنا حينئذ ؟ إمّا الموت "تحت العجلات" أو الحياة بين" الردهات " ومقايضة " خذ وهات"، وآخرها لعبة "هزي ساقيك باش تاكل"، ودائما نحن "لاباس" في برامجنا التي تستنسخ الماسخ وتمسخ الراسخ.
وثانيا: جبهة الإسلامويّات الناعمة التي تهادن الرّأسماليّة المتوحّشة باتفاقيّاتها الاقتصاديّة مع حلفاء الماضي والغد وبعد الغد، وقد يعمد أصحاب هذا الحلف القويم بين الحين والآخر إلى التنفيس "الاستراتيجي". وأخيرا وليس آخر هذه "التنفيسات" ما أورده علينا النائب عن كتلة ائتلاف الكرامة في البرلمان محمّد العفاس من خطاب فيه جسّ للنبض وتهيئة الأرضيّة لإمكانيّة استعادة السياسة المنهوبة منهم منذ الاستقلال، وقد أعادتهم الثورة للأرض الموعودة ولهم الحقّ في ذلك، ولكنّهم عادوا إليها بنفس المفاهيم التي أسّسها الإخوان من مقولات سيّد قطب وحسن البنّا في تربية البنات. والنائب محمد العفاس طبيب الصحة العمومية ورئيس تحرير مجلة شباب الغد، وناشط في المجتمع المدني وله شهائد في فنون التواصل والقيادة. وحتما هو يقود شباب الغد بالثنائيّة التي تحدّث عنها في خطابه بتاريخ 3 ديسمبر 2020 بين الـ"هم" والــ"نحن" الذي زجّ فيه كلّ مكاسب المرأة بأخضرها ويابسها في سلّة واحدة اعتبرها النائب وائتلافه " حريّة الوصول إلى المرأة". فطوبى لك أيّتها المرأة التونسيّة بالمنقذين القدامى الجدد الذين يقدّمون أنفسهم ببراءة لا لبس فيها، فصدقهم ربّاني، وإيمانهم عميق لا تزعزعه أيّة شائبة. يكفي أنّهم يستشهدون بالآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة حتّى تميل لهم القلوب وتميد عمّا تلبّس بها من ترّاهات وشجون. فيتداخل الواقعي بالمقدّس المتعالي، يستهلّون خطابهم باسم الله والحمد لله ويختمونه بالسحق لغيرهم ثمّ يعرّجون على سرديّة الغربة والتصديق، فآمييين يا ربّي آميين.
وهكذا تظلّ النساء وما أدراك ما النساء في موروثنا التونسي مجرّد " عرائس القصب" في الإعلام التونسي دون التعميم طبعا والدرّة المصونة في متخيّل أهل الخلافة والحاكميّة المطلقة. فالــ" إعلام" عوض أن يعرّي واقع الاستغلال الذي تتعرّض له النساء وحقيقة العنف اليومي الذي تتعرّض له شريحة هامّة من التونسيات وخاصّة زمن الكورونا نجده يعرّيهنّ بالعنى اللغوي الصرف ويجرّدنا أجمعين من القيم التي ناضلت لأجلها نساء تونس في أن يكون لهنّ صوت وصورة لا صورة فقط تغيب معها الكادحات في الحقول والمصانع والمجتهدات في الجامعات والمخابر والقائدات في الشركات والمؤسّسات. أمّا الساسة المتنفّذون اليوم عوض أن يتّعظوا من دروس التاريخ ويؤمنوا بأنّ الحقوق والواجبات لا يجزّئها الجنس ولا العرق ولا الدين فإنّهم ما يزالون في حالة اجترار لأطروحات فنّدها الواقع المرير بل ويستميتون من أجل المواصلة في رسم هويّة منغلقة وقاتلة في الآن ذاته...
ومن المؤكّد في كلّ هذا الخضمّ أن يتعطّل الحراك النسوي التونسي وتتعطّل دورته في تحقيق مكاسب أخرى بل نجده راهنا مطالبا بالدفاع عن المكاسب التي حقّقها عوضا أن ينطلق في تحقيق مكاسب أخرى وما فشل إلغاء كلّ أشكال التمييز بين الجنسين إلاّ دليل على تعثّر هذا الحراك .. وما ينبغي له أن يتعطّل وإنّما عليه أن يمتدّ إلى المشهد السياسي والإعلامي على حدّ السواء حتّى لا يغتال هذا الحراك فنسمع خطاب " أختاه احذري" أو خطاب "هزي ساقيك باش تاكل"....وكان من الأولى أن نسمع خطاب " أنت مواطنة لك حقوقك وواجباتك وأنت أيضا مسؤولة"...وكلّنا مسؤولون/ مسؤولات عن أوطاننا فلا فكر بالوكالة ولا مكان للجواري وسوق النخاسة...