نساء ضد النساء



حسن مدن
2021 / 1 / 10

هلْ تفضِّلُ المرأةُ الموظَّفةُ في شركةٍ أو مصلحةٍ حكوميةٍ أنْ يكونَ مديرُها في العملِ رجلًا أوْ امرأةً؟!

إذا كنتنَّ نساءً، وفي الآنِ ذاتِه موظفاتٍ أو عاملاتٍ، حاولْنَ الإجابةَ عنْ هذا السُّؤالِ بمنتهى الصَّراحةِ. هلْ تكونُ المرأةُ المديرةُ بالنِّسبةِ لمرؤوستِها المرأةِ أسهلَ في التَّعاملِ وأكثرَ تفهُّمًا لنفسيتِها، كونَ الاثنتين منْ جنسٍ واحدٍ، أمْ أنَّ العكسَ هو الصَّحيحُ، حيثُ يبدو المديرُ الرَّجلُ أكثرَ مقدرةً على تفهُّمِ مرؤوستِه المرأةِ، وأكثرَ وعيًا بالطَّريقةِ الأنسبِ في التَّعاملِ معها.

إجابةٌ، أو ما يشبهُ على هذا السُّؤالَ نجدُها في قصَّةٍ لكاتبةٍ إيرانيَّةٍ اسمها (ناهيد طبأطبايي) التي ترصدُ يومياتِ إمرأةٍ عاملةٍ في إحدى المصالحِ الحكوميَّةِ في إيرانَ المعاصرةِ. تبدأُ القصَّةُ بكلامٍ توجِّهُه هذه المرأةُ إلى مديرتِها الجديدةِ إذْ تقولُ لها: "خلالَ السَّنواتِ العشرِ التي مارستُ فيها العملَ الإداريَّ أنتِ الرَّئيسُ السّابعُ لي، أو ربَّما الثّامنُ. لا أذيعُ سرًّا إذا قلتُ إنَّ العملَ مع الرِّجالِ بالنَّسبةِ لي أفضلُ من النِّساءِ؛ لأنَّ النِّساءَ – حاشاكِ - لهنَّ طبيعةٌ خاصَّةٌ، مع أنّي امرأةٌ، لكنِّي لا أطيقُ النِّساءَ مطلقًا، أستميحُكِ عذرًا بالطَّبعِ، فأنا لا أعنيكِ وأقسمُ عليكِ بالله ألّا تعتبري كلامي موجهًا إليك".

بعدَ ذلكَ تواصلُ هذه العاملةُ سردَ وقائعِ تجربتِها مع المدراءِ السّابقين الذين مرّوا عليها، سواءَ أكانوا رجالًا أم نساءً، معدِّدةً المفارقاتِ الطَّريفةَ التي يمرُّ بها أيُّ موظَّفٍ طوالَ سنواتٍ، لا منْ زاويةِ العلاقةِ مع المدراءِ فحسبُ، وإنَّما أيضًا في التَّعاملِ مع الضَّغائنِ الشَّخصيَّةِ الصَّغيرةِ والمكائدِ وأوجهِ التَّنافسِ والحسدِ والغيرةِ وسواها من عاهاتٍ لا تخلو منها أيُّ مؤسَّسةٍ أو مصلحةٍ حكوميَّةٍ، أو غيرِ حكوميَّةٍ، تضمُّ عددًا من الموظَّفين والعاملين مختلفي الأمزجةِ والتَّكوينِ والميولِ والبيئاتِ التي أتوْا منها. بلْ إنَّ كاتبةَ القصَّةِ المذكورةِ تقدِّمُ لقصَّتِها هذه التي تحملُ اسمَ: "يجبُ أنْ نكونَ كالصَّخرِ" بالقولِ إنَّ سنواتٍ من العملِ الإداريِّ ومعايشةِ حياةِ النِّساءِ الموظَّفاتِ عنْ قربٍ والتَّعرُّفِ على دوافعِهن وسلوكِهن وردودِ أفعالِهن إزاءَ التَّحدياتِ الإداريَّةِ والخاصَّةِ، وَضعتْ في متناولِ يديْها عالمًا من الشَّخصيّاتِ والمواضيعِ والمواقعِ، إذا فتحنا عليه نافذةً اكتشفْنا زوايا وخبايا جديدةً من قضايا وهمومِ المرأةِ في البيئةِ الوظيفيَّةِ وإسقاطاتِها على حياتِها، عالمًا حافلًا بالمثابرةِ والتَّوتُّرِ والإرهاقِ وكثيرٍ من الجمودِ، بحيثُ تكونُ العلاقاتُ المهنيَّةُ والرَّوابطُ الإنسانيَّةُ غايةً في التَّعقيدِ، وتتعاملُ أحيانًا مع بعضِها منْ بابِ التَّضادِ لتخلقَ بنفسِها حكاياتٍ جديدةً، بينها حكايةُ المرأةِ في القصَّةِ التي نحن بصددِها.

هذه القصَّةُ تحكي مجموعةَ حكاياتٍ وقعتْ لهذه المرأةِ العاملةِ على مدارِ سنواتِ عملِها العشرِ، وهي تُظهرُ ذلك التَّنوُّعَ في حيواتِ ومصائرِ البشرِ، وهي بالمناسبةِ ليستْ أكثرَ منْ قصَّةٍ واحدةٍ منْ مجموعِ سبعِ قصصٍ لسبعِ كاتباتٍ منْ إيرانَ، جرى اختيارُ نماذجَ منْ أعمالِهن التي جُمعتْ وتُرجمتْ إلى العربيّةِ، وصدرتْ في كتابٍ بعنوانِ: "سبعُ نساءٍ .. سبعُ قصصٍ" ترجمَها سمير أرشدي وراجعتها زبيدة أشكناني، وصدرتْ ضمنَ سلسلةِ : "إبداعاتٍ عالميَّةٍ" عن المجلسِ الوطنيِّ للثّقافةِ والفنونِ والآدابِ، وهي قصصٌ لا تقدِّمُ فقط فكرةً عن الإبداعِ السَّرديِّ النِّسائيِّ في إيرانَ اليومَ، إنَّما ترفدنا بعوالمَ شيَّقةٍ عن المرأةِ في عالمٍ شديدِ التَّعقيدِ وغريبِ التَّحوُّلِ مثلَ إيرانَ، لكنَّها أيضًا تقدِّم لنا عالمَ المرأةِ عامَّةً بكلِّ ما فيه منْ رحابةٍ ومعاناةٍ.

ولو وسعنا دائرةَ النِّقاشِ حولَ ما يشي به عنوانُ هذه المقالةِ، عنْ كونِ النِّساءِ يقفنَ ضدَّ النِّساءِ، لا لكونهنَّ يفضِّلْنَ أنْ يكونَ مديرُهنَ في العملِ رجلًا، لا إمرأةً، لنتناولَ السُّؤالَ الذي يُثارُ دائمًا بعدَ كلِّ انتخاباتٍ نيابيَّةٍ أو بلديَّةٍ في البلدانِ العربيَّةِ عنْ أسبابِ إخفاقِ النِّساءِ المترشِّحاتِ في الظَّفرِ بمقاعدَ في المجالسِ المنتخبةِ.

هذه الظَّاهرةُ بحاجةٍ لمعالجةٍ أشملَ؛ إذ لا يمكنُ أنْ تُؤخذَ بمعزلٍ عنْ آلياتِ وخصائصِ التَّحوُّلِ الاجتماعيِّ - السِّياسيِّ التي طبعتْ تطوُّرَ المجتمعاتِ العربيَّةِ الأخرى في العقودِ القليلةِ الماضيةِ التي شملتْ - ضمنَ ما شملتْ - تراجعَ مكانةِ التَّياراتِ المتنوِّرةِ على أطيافِها وتراجعِ الوعيِ بأهميَّةِ مشاركةِ المرأةِ في الحياةِ العامَّةِ، وفي الحياةِ السَّياسيَّةِ خاصَّةً.

علينا أنْ نأخذَ الظَّاهرةَ في أبعادِها المختلفةِ؛ لأنَّنا لوْ نظرْنا إلى الأمورِ بشموليَّةٍ أكبرَ للاحظْنا أنَّه على الرَّغمِ منْ عدمِ فوزِ النِّساءِ بالمقاعدِ في الانتخاباتِ، ألَّا أنَّ هناكَ ظاهرةً لا يمكنُ التَّقليلُ منْ شأنِها، هي حقيقةُ أنَّ هؤلاءِ النِّساءَ بالذّاتِ صرْنَ يذهبْنَ بكثافةٍ أكبرَ من الرِّجالِ إلى صناديقِ الاقتراعِ. طبعًا لا يمكنُ إغفالُ دورِ التِّياراتِ الإسلاميَّةِ في حشدِ النِّساءِ نحوَ المشاركةِ في الانتخاباتِ طمعًا في أصواتِهن التي كثيرًا ما تكونُ مرجِّحةً في فوزِ ممثِّلي هذه التَّياراتِ كما تدلُّ تجاربُ عديدةٌ بينَها تجربتُنا في البحرين، ولا يمكنُ كذلك إغفالُ ازدواجيَّةِ مواقفِ بعضِ التَّياراتِ السِّياسيَّةِ، التي لمْ تعارضْ علنًا اشتراكَ المرأةِ في الانتخاباتِ بلْ أيَّدتْه، لكنَّها في الممارسةِ أعاقتْ فوزَ النِّساءِ في الانتخاباتِ.

هذا بالذّاتِ يجبُ ألّا يثيرَ كبيرَ دهشةٍ؛ لأنَّ النِّساءَ لا يحققْنَ نجاحاتٍ لافتةً، شأنهنَ في ذلك شأنُ ممثلي التَّياراتِ الحديثة والتقدمية من الرِّجالِ. ولا يبدو ذلكَ غريبًا أو مدهشًا إذا ما وسَّع المرءُ منْ أفقِ النَّظرةِ ورأى الأمرَ في إطارِه العربيِّ الأشملِ، حيثُ تعاني هذه التَّياراتُ منْ تراجعٍ وانحسارٍ تحتَ تأثيرِ عواملَ مختلفةٍ ليسَ أقلُّها أهميةَ أنَّ السُّلطاتِ في غيرِ بلدٍ عربيٍّ أنهكتْ هذه القوى على مدارِ عقودٍ طويلةٍ بالقمعِ والتَّنكيلِ والمطاردةِ، وتغاضتْ، لا بلْ ودعمتْ، لأسبابٍ مختلفةٍ نشاطَ القوى البديلةِ التي استشرى نفوذُها واستحوذتْ على مساحاتٍ واسعةٍ من التَّأثيرِ، فضلًا عمّا باتَ في أياديها منْ إمكاناتٍ ماديَّةٍ هائلةٍ.

أمرٌ حسنٌ - منْ وجهةِ نظرٍ معيَّنةٍ - أنْ يستنفرَ المجتمعُ قواه لدراسةِ وتحليلِ نتائجَ ما يحدثُ، وأنْ يطرحَ مسألةَ تغييبِ المرأةِ أو عدمِ استطاعتِها الوصولَ إلى بعضِ مقاعدِ المجالسِ المنتخبةِ، لكنْ أنْ يكونَ موضوعُ المرأةِ بالذّاتِ هو مركزَ الثِّقلِ في هذه المناقشةِ، وتصديرَه كما لوْ كانَ كارثةً مُحدقةً لا سبيلَ لاتِّقاءِ آثارِها فإنَّ ذلكَ تسطيحٌ للأمورِ. لقدْ قلْنا إنَّ النِّساءَ يذهبْنَ بكثافةٍ أكبرَ لصناديقِ الاقتراعِ من الرِّجالِ، وهذا يعني إلى حدودٍ كبيرةٍ أنهنَّ يصوتْنَ ضدَّ النِّساءِ ويفضلْنَ عليهنَّ المرَشَّحين من الرِّجال، وهو أمرٌ لا نسوقُه على سبيلِ الطُّرفةِ أو الدُّعابةِ، وإنِّما لنقولَ أنَّ تراجعَ وعيِ المرأةِ بقضيَّتها ظاهرةٌ عربيَّةٌ عامَّةٌ، تندرجُ في سياقٍ أشملَ يتَّصلُ بتعثُّرِ مسارِ الحداثةِ في بلدانِنا، والتَّراجعِ عنْ مكتسباتٍ سابقةٍ حقَّقتْها الأجيالُ الأسبقُ للدَّرجةِ التي تجعلُنا نطرحُ السُّؤالَ: لماذا تبدو الأمهاتُ أو حتَّى بعضُ الجدّاتِ أوسعَ أفقًا وأكثرَ تفتُّحًا منْ بناتِهن أو حتَّى حفيداتِهن؟