نور مكي: طفلةٌ بين المسئولية والعبقرية



السيد إبراهيم أحمد
2021 / 2 / 27

لا تكمن عبقرية الطفلة نور مكي في كونها تجيد الحساب وتتوصل بالجمع والطرح إلى معرفة نواتج المسائل الحسابية، ولا في كونها تحفظ القرآن الكريم وتعرف أرقام صفحاته بالأجزاء والأحزاب، وأرقام الآيات ومواقعها من السور، وشرح أعضاء جسد الإنسان الذي درسته فسيولوجيا بلغتها العربية والإنجليزية أيضا..

أن نور مكي الطفلة التي تخطى عمرها الأربع سنوات بشهور، بنت محافظة الشرقية التي تحمل قسمات وجهها الملامح العربية، المصرية، الريفية في براءة طفولية وهاجة، وبريق من العينين ساطع بالدلالة على العبقرية، واليقظة في التلقي والإلقاء، والتأهب والتهيؤ للتعلم الدائم، والإقبال على النهل من المعرفة أيا كانت أراضيها ومراميها ومجالاتها.. تكمن عبقريتها في مسئوليتها!

كم من أطفال في كثير من دول العلم نبغوا في طفولتهم وتألقوا في سنواتهم الأولى بما يبهر العقل ويأخذ بألباب العلماء في فنون وآداب، غير أن القليل منهم بل النادر من سمعنا أنه كان مسئولا. من هنا تتبدى عبقرية نور وإعجازها الحقيقي في كونها لم تكتفِ بأن تكون وعاء للعبقرية بل مصدرة لها في محيطها البيئي والمجتمعي، في كونها امتلكت زمام الفهم بما منحه الله من أدوات وآيات لم يمنحها لسواها خضوعا للفروق الفردية واحترامها بين بني البشر؛ فرأت أن توظفها توظيفا يتصل بما تعايشه ويعيش فيها.

لقد رأت من واقع مسئوليتها أن أطلقت مبادرتها المعنونة: "اسألني عن جيش مصر"، واتخذتها مدخلا لتوعية الأطفال المصريين من حولها ببطولات الجيش المصري الذي تفخر به، وهي الطفلة التي كانت تحبو نحو الرابعة من عمرها.

كم من أمٍ خافتْ على أطفالها وأب ضرب التحصينات حولهم درءًا لهم وحماية من أن تمتد إليهم يد "الكورونا" التي تصل ـ بأمر الله ـ للكبار والصغار، ومنهم من يصاب ثم يُعالج فيبرأ، ومنهم من تهلكه الجائحة ويسارع الأهل بدفنه.

كم من أطفال يعيشون في زمن الجائحة من شرق وغرب، التزم أهلهم بالتوعية الصحية والطبية في ضرورة ارتداء الكمامة، وكافة النصائح الإرشادية الخاصة بالحماية من كورونا، فهل سمعنا من أو عن طفل فكر أن يواجه كورونا بالحديث عنها دون الاختباء منها في شتى أصقاع الأرض؟!

وحدها الطفلة المعجزة العبقرية نور مكي التي كتبت كتابا عن الجائحة بأنامل كفها الصغير، وعنونته: "نهاية كورونا.. والغد المشرق"، وأجمل ما في مقدمة كتابها أنها صورت حالها قبل نزول الجائحة في عالمها الصغير: (قبل ظهور جائحة كورونا كنتُ أعيش كعصفورةٍ في سماء واسعة.. ولا أستطيع أن أحصر حجمها؛ فتعودتُ على اللعب بحرية).

ثم تصف حالها بعد أن غزت كورونا عالمها وفرضت نفسها عليها: (وعندما ظهرت كورونا.. فجأة .. أجد نفسي محرومة بل سجينة بسبب العزل والتباعد الاجتماعي الذي فرضته الإجراءات الصحية. كنتُ أتمنى أن أحظى ولو بلحظةٍ ألعب فيها خارج البيت.. ولكن بلا جدوى، وقتها ناداني الخوف أن يكون هذا هو هو الواقع والمستقبل المرير لكل طفل في العالم).

يتحرك نداء المسئولية في قلب وعقل نور التي تتحدث كعالمة باحثة: (وقتها فكرتُ أنه يجب على الجميع أن يتَّحِدوا من أجل التخلص من هذه الجائحة. وبحثتُ في نفسي: ما الذي أستطيع أن أقدمه كمثل أي شخص في العالم يحب وطنه وأهله؟ فوجدتُ أنني لا أستطيع سوى أن أقرأ ثم أبحث ثم أكتب شيئا يفيد جميع الناس.. وفي النهاية أستطيع أن أقدم بين أيديكم كتاب: "نهاية كورونا.. والغد المشرق).

أجمل ما في العنوان والمقدمة سريان نور الأمل استشفافا من روحها المتفائلة التي تتلمس في القريب نهاية الجائحة في واقعنا اليوم، وأنها لن تمتد إلى الغد الذي سيكون مشرقا بدون جائحة، ومشرقا بما يحمله من أقدار طيبة، أنها البشارة التي تطلقها "نور" لتطمئن ليس كل الأطفال فحسب بل كل الأشخاص الذين يحبون أوطانهم ويخافون عليها.

يقول الدكتور مصطفى سويف في تعريفه للعباقرة: (إن ثروة الإنسانية من العباقرة محدودة جدا، إذا قارنا عدد العباقرة بعدد أفراد الإنسانية في أية فترة تاريخية...أن العبقري بحكم تعريفه هو الذي يحرز للإنسانية انتصارا في اتجاه ما لم تحرز مثله الغالبية العظمى من أبناء المجتمع، ومعنى ذلك أن العبقري بحكم تعريفه ظاهرة نادرة في حياة المجتمع).

وبموجب هذا التعريف تنطبق العبقرية على الطفلة نور والتي ـ ربما ، أو ـ من المؤكد ـ أنها ستحز إنجازا في مجتمعها المصري والعربي، وبموجب عبقريتها التي تعترف نور بأنها تحملها كتكليف وليس كتشريف قامت بمسئوليتها تجاه المجتمع، فهل قام المجتمع بمسئوليته نحوها؟

يقول الدكتور مصطفى سويف: (إن العبقري مهما قيل: من أنه يعبر حدود مجتمعه، أو يسبق عصره، لا يستطيع أن ينتج إلا ما يتناسب مع ما تلقاه من فرص في مجتمعه لتغذية عبقريته وتنميتها، إنه يأخذ ليستطيع أن يعطي، فإذا غلب على مجتمعه العطاء زادت فرصة الخصوبة أمامه، أما إذا غلب على مجتمعه الشح والجدب فستُدفن الإمكانيات تحت التراب).

لقد وضعت الدكتورة لويس بورتر كتابها: "دليل المعلم/المعلمة والأسرة في رعاية الأطفال الموهوبين" بهدف تسليط الضوء على كيفية التعامل تربويا وتعليميا من المعلم والمعلمة والأسرة مع الطفل الموهوب، كما اهتمت الدول بهم باعتبارهم ثروة وطنية قومية لا تعوض، فأعدت لهم المناهج والمعلمين لأنهم استثمار المستقبل، ولقد قامت أسرة نور بتربيتها وتنشئتها تنشئة اجتماعية آتت ثمارها حتى الآن، لكن لا يجب أن نكتفي بتكريم "نور" عبر العديد من الفعاليات الرسمية وغير الرسمية، وتصويرها مع العديد من أعلام العلماء، وإظهارها إعلاميا عبر برامج التوك شو بل يجب أن تقوم الدولة بمسئوليتها تجاه تلك الطفلة الموهوبة العبقرية حتى لا تضيع كغيرها من المواهب العبقرية العربية نتيجة لتساهلنا العميق في الالتفاف حولها وحولهم والالتفات لها ولهم بجدية.


لقد قذف الله في قلب والديها استشفافا عند مولدها فأسمياها "نور" ليقذف الله في قلبها نور القرآن الكريم، ونور العلم، ونور حب المعرفة، ونور حب الإنسانية، ونور القيام بمسئولية هذه العبقرية في هذه السن الصغيرة، والتي سنرى منها ومن عبقريتها أنوارا أكثر في المستقبل القريب أو كما وصفته وبشَّرت به الغد المشرق