ما الذي يعيق مساهمة العاملات الزراعيات في المسار الثوري في تونس ؟



مرتضى العبيدي
2021 / 3 / 6

في خضمّ الحراك الثوري الذي شهدته تونس خلال سنة 2011 وما تلاها، أشاد المراقبون والصحافيون الذين توافدوا بالمئات على البلاد لكسب السبق الصحفي بالدور الريادي الذي لعبته نساء تونس اللاتي وقفن وقفة الندّ للندّ مع رجالها ولم يتخلفن عن أي معركة من المعارك في سبيل كنس مخلفات النظام البائد، وكذلك في التصدّي للمشاريع الظلامية للحكام الجدد. فالجميع يذكر هبةّ نساء تونس اللاتي خرجن بعشرات الآلاف يوم الثالث عشر من أغسطس 2013 للتنديد بمسعى حركة النهضة لتمرير دستور رجعي يتراجع على القليل من المكاسب التي تحققت بالنضالات إبان حكم حزب الدستور، وخاصة منها المتعلقة بالأحوال الشخصية.
لكن مثل هذه المعارك كانت تدور رحاها في المدن الكبرى وخاصة منها عاصمة البلاد، وقد تركزت بالخصوص أمام قبة المجلس التأسيسي وحوله، وشاركت فيها شرائح من النساء من مختلف الأعمار والانتماءات الطبقية، بما فيها الحضور اللافت للعاملات في المؤسسات الصناعية المنتشرة في منطقة تونس الكبرى. إلا أنه من الصعب جدّا أن نجد من بينهن عاملات الزراعة أو النساء الريفيات عموما، رغم ما أبدينه من شجاعة وروح للمقاومة الفائقة في شهر الثورة التي انطلقت شرارتها من دواخل البلاد وامتد لهيبها إلى أريافها التي لم تسلم من القمع الوحشي والبطش والترهيب، وتصدّر شبابها قائمات شهداء الثورة وجرحاها.
الإرث الثقيل للحكم الاستبدادي
لقد تميزت وضعية المرأة الريفية في العهدين السابقين بالتهميش الممنهج والإهمال، فلم ينلها إلا القليل القليل مما نال مثيلاتها من سكان المدن، خاصة في مجالات التعليم والصحة والتشغيل، إذ لم تعمّق السياسات المتعاقبة الفوارق الطبقية فحسب، بل وكذلك الفوارق بين جهات البلاد وخاصة بين المدينة والريف بكل استتباعاتها. فالمرأة الريفية لم تكن تجد لها مكانة إلا في البرامج الرخيصة لإعلام التعليمات التي ما انفكت تشيد على مدى عقود بحرص الدولة على تحسين وضعية النساء الريفيات وعن تطوير المنظومات القانونية لحماية عاملات الزراعة. ففي العهد البورقيبي السعيد، عاشت نساء الأرياف على وقع برامج "التنمية الريفية" التي لم يكن لها من هدف سوى تلميع صورة "المجاهد الأكبر"، الأب الحنون الذي لا يرفّ له جفن إلا متى اطمأن على كامل أفراد الرعية بمن فيهم المنسيات في أعماق أرياف تونس. وقد سار خلفه الجنرال بن علي على دربه، فأحدث "جائزة رئيس الجمهورية للنهوض بالمرأة الريفية" التي تواصل إسنادها سنويا على امتداد حكمه. لذلك يحقّ لنا أن نتساءل إلى أي مدى ساهمت تلك البرامج المزعومة في النهوض فعلا بالمرأة الريفية، وهل تحسّن حالها طبقا للأرقام الخيالية التي كان يُعلن عن رصدها لهذا البرنامج أو ذاك؟ قطعا لا، لذلك وجدنا النساء في الصفوف الأمامية في جميع الحركات التي شهدتها أرياف تونس قبيل الثورة وخلالها وبعدها، أملا في أن تشهد أوضاعهن تحسنا مع العهد الجديد.
تدهور أوضاع عاملات الأرياف خلال العشرية الأخيرة
إلا أن العكس تماما هو الذي حصل، إذ أن حالها ازداد سوءا عاما بعد عام حتى أن أخبارها التي أصبحت تتصدّر الصحف لا تكاد تتعلق إلا بحوادث الطرقات التي تتعرّض لها نساء الأرياف عند نقلهن للعمل في ما اصطلح على تسميته خلال السنوات الأخيرة بـ "شاحنات الموت". إذ تشير الأرقام أنه خلال السنوات الأربعة الأخيرة توفيت أربعون عاملة وأحصيت أكثر من 500 جريحة خلال تلك الحوادث، رغم أن حوالي نصف العاملات (47℅) تتنقلن على الأقدام للوصول إلى مكان العمل، فيما تستقل 38 ℅ فقط منهن شاحنات الموت. وهو ما حدا بالأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية وجمعيات المجتمع المدني إلى إيلاء هذه المسألة عناية خاصة. فتعدّدت الدراسات الميدانية التي كشفت عن حقيقة الأوضاع المزرية التي تعيشها هذه الفئة. فالعاملة الزراعية، ورغم أنها أصبحت تمثل ما يقارب 60℅ من اليد العاملة الفلاحية، إلا أن وضعها يتميّز بالهشاشة واللامساواة. فنسبة العاملات القارات لا تتجاوز 8 ℅، فيما تظل البقية موسميات. وحتى عند إمضاء بعضهن لعقود عمل، فإنهن لا يحصلن على نسخ منها وقد أمضي معظمها بعد سنة 2011. كما تقدّر العاملات أن الفارق بين أجورهن وأجور العمال الفلاحيين يمكن أن يصل إلى 50 ℅. كما تشير عديد التحقيقات الميدانية والدراسات أن العاملات تشتغلن في ظروف قاسية وخطيرة ودون وسائل وقاية كافية. فهنّ في ملامسة لصيقة بالمبيدات التي تستعمل لمقاومة الأعشاب الطفيلية، إذ تتكفلن بمعالجة 75 ℅ من الأعشاب الطفيلية بدون أي حماية. كما تتكفلن بمعالجة الحيوانات دون وقاية. وحسب تصريحات متواترة للمشغلين، فإنه لا يوجد غير النساء على استعداد للقيام بمثل هذه الأعمال. كما لا تتمتع 97 ℅ منهن بأي تغطية صحية واجتماعية.
وفي المقابل تساهم النساء في أرياف تونس المنسية بـ57.9 ℅ من دخل العائلات، في الوقت الذي تجبرهن التقاليد وتخلف بعض النصوص القانونية على التخلي عن حصصهن في إرث الأراضي لصالح الأشقاء الذكور، وهو ما يفوّت عليهن فرصة بعث مشاريع فلاحية والحصول على قروض تمويل من البنوك التي تعطي الأولوية لمالكي الأراضي، مما يؤبد وضعيتهن كـ"أجيرات".
أين تكمن الحلقة المفقودة في نضال عاملات الأرياف؟
ما العمل إذن أمام هذه الوضعية المزرية التي تكبّل جزءا هاما من اليد العاملة في قطاع استراتيجي يقف عليه نهوض الأمم؟ لا شيء غير التنظم والتنظم ومزيد التنظم. إن صنوف القهر والاستغلال المسلّط على العاملات الزراعيات لا يمكن الحدّ منها إلا متى تمكّن هؤلاء من إسماع صوتهنّ وبلورة مطالبهن العاجلة والآجلة والاستعداد للنضال من أجلها. ونحن نعلم من التجارب المشابهة التي حصلت في أصقاع عديدة من العالم أن ذلك ممكن التحقيق متى توفر لهذا الصنف من العاملات الحدّ الأدنى من التنظيم مهما كانت طبيعته. ولعل التنظيم النقابي هو الذي بإمكانه الاستجابة الى أوضاعهم المستعجلة اليوم. ولنا في التاريخ النقابي النضالي في تونس سابقة يمكن البناء عليها والاستفادة منها شهدتها واحات الجريد بالجنوب التونسي في ثمانينات القرن الماضي حيث تمكن عمال فلاحيون كانت تحكمهم علاقات إنتاج ما قبل رأسمالية (ما يعرف لدينا بنظام الخماسة) من جمع شملهم وتوحيد صفوفهم وتأسيس نقابات فاوضت باسمهم ملاكي الأراضي وافتكت منهم بعض المكاسب ليس أقلها التغطية الاجتماعية والرعاية الصحية والانخراط في منظومة التقاعد. وهذا التمشي لن تأتيه البيروقراطيات المتنفذة على رأس النقابات، بل وحدهم النقابيون الثوريون هم من يجرأ على طرق أبواب السماء من أجل تحرّر الطبقة العاملة بكل شرائحها.