الثعبان الأحمر



فرات إسبر
2021 / 3 / 8

لستُ ربة القمر ،لكن الله ،منحني طاقة على الركض في الحقول. ليست حقولاً ،بمعنى الأرض أو البساتين وإّنما طريق الحياة التي يسلكها المتصوفة . طرق عالية وعرة وكنت أرتفع بها وفيها عن الناس والمادة ، وخيّل لي أني قد أ كون ربة القمر ، بعد أن نجيت من حادثة الثعبان الأحمر.
في صيف تموزي ، كنت في طاقة خلاقة للركض في أرض ليست لي ، وفي بساتين شُجرت لغيري ، وفجأةً يظهر لي ثعبان أحمر، عندما شعر بي غير طريقه ليتعقبني.
وبقوة الطاقة الروحية تحولتُ إلى غزال ٍ أدركَ بكل براءته بعدم الجدوى من العناية بأرض ٍلا ينتمي إليها إلا الذكور.
لم أفكر بخطورة ما كنت قد تعرضتُ له مع الثعبان الأحمر . تعددت الروايات بالحديث عنه ، منهم من قال: لا يعض ُ، ومنهم من قال ، أنه يضربُ بذيله فيكسر القدم َ أو يقطعها ، ومنهم من يقول ،أنه يلاحقُ ويطاردُ على مسافات طويلة حتى يتمكن من الضرب أو اللدغ .
شعرتُ حينها بأني تحولتُ إلى روح ٍ مقدسة ٍ، لأنه من النادر
أن ينجو أي شخص من لدغة الثعبان الأحمر ،كونه لا يتراجع ولا ينهزم ،يُطارد ُ بقوة ، لكن قوتي وإرادتي في النجاة كانت أقوى منه حيث كنت أراه بين قدمي ّ وأنا أقفزُ في الهواء مثل ساحرة ٍمنحها الرب طاقةً لا أحد يُقدرها غيرها.
بعد نجاتي من موت محتٍم، بدأت ْ حملةُ البحثِ عن الثعبان الأحمر ، لقتله ، حيث أعلنَ الجميع ،بأن لدغته لا نجاة منها .! لكن أمي أصرتْ بعدم البحث عنه ، كونه لم يلدغني.!
فكرت كثيرا بفكرة أمي ، وأخذت أربط بين فكرتها والأساطير القديمة ، حيث كانت الثعابين ُتعبد وُتنقش ُعلى الجدران والأواني و تمنح ُالمعرفة والحكمة الواسعة لمن يلمسها.
الثعبان الأحمرالذي طاردني ، كنت أجهلُ فيما إ ذا كان ذكرا ً أو أنثى ، ولكن قدرته على الالتفاف والدوران والقفز تؤكد لي بأنها كانت ذكراً وليست أنثى.
فما يُعرف عن الأفاعي وخطورتها ، درجات متفاوتة فهناك السوداء والبيضاء التي هي أكثر ُسميّة ، حيث من المتعارف عليه أن الأفعى السوداء لا تُقتَل أينّما وجد ت بعكس البيضاء أو الحمراء.
يبدو إنها كانت رسالة إلى قراءة العالم بطريقة مختلفة تماماً عما يراه الغير .
مضتْ أيامٌ طويلةٌ وأنا أراها تنام ُ معي في سريري بين رعبٍ آمن أو وهم ٍ آمن ، كنت أغمض عيني ّ دون أي شعور بالخوف أو عدمه ، إلى هذه اللحظة أذكرها تماماً بين أقدامي تلعبُ ، ليتراءى لي العالم صغير الحجم بقدر لدغة ثعبان ،حيث تتحول الحياة إلى موت محتوم ، كما يتحول النور إلى ظلام.
مرت أشهر طويلة وأنا أعيش كابوس الثعبان الأحمر ، لأرى نفسي أتنقل ُ بين الأساطير وأقنعها بمد ى صحتها، فلا شئ يأتي من العدم وهذا الثعبان الأحمر الذي طاردني لمسافة طويلة في صيف تموز أعادني إلى افعى كلجامش حيث كان من الممكن أن أموتَ في دقائق أو ثوان معدودة حيث القرية لا طيبب فيها ولا مراكز صحية والمدينة بعيدة ، ليست قريبة ، بأن تترك مسافةً للدغة افعى ،دون أن يسري السمَ في الجسد الذي لدغته ، وحسب الروايات أن هنالك العديد من الضحايا في فصل الصيف بسبب لدغات الأفاعي ، اذ لا أمصال في المشافي والمستشفيات الكبيرة، بسبب الحصار والحرب التي لم تنتهِ منذ سنوات.
ساعدتني أمي بالخروج من فكرة الرعب والموت إلى فكرة الحياة والأنبعاث.
أمي ذكورية في حبها لكنها خافت وبكتْ من أجلي ،كوني أنا ضيفتها القادمة من بعيد . قطعت ُ البحار والمحيطات لأزورها في مرضها ، فهي لا تريدني أن أموت ، ستشعُر بالذنب المضاعف كوني أنا ابنتها وضيفتها.
بدأت بتحليل العلاقة الفريدة بين أفعى جلجامش والثعبان الأحمر الذي لم أعرف جنسه إلى اليوم ، هل كان ذكراً أم أنثى ؟
قُدر لي بأن أعيش، وأن لا أموت بسم أفعى ، فهذه الأفعى لم تسرق مني شئياً ،بل منحتني حياة جديدة لا أدري كيف ومتى تنتهي، فأحسستُ بنشوة الانتصار على جلجامش ، أفعى تسرق ُمنه عشبة الحياة وأفعى تمنحني الحياة ، مقارنة ليست سهلة ، لكنها فكرةُ عزاء لموت لم يأت ِمبكرا أو قد تكون اشارات و رموز لأصيغها بقوالب مختلفة لفهم الحياة التي نعيشها.
لم أمتْ بلدغة أفعى ، ولا بالقذائف التي كنت أراها تتساقط فوق الوديان كنا نتراكض في كل الجهات ، بعضنا يختبيء من الخوف الآخرُ يسرع ُ إلى تصوير القذائف والصواريخ وهي تنفجر في الفضاء بفعل الراجمات الروسية .كان عليّ أن اركض إلى أقرب مساحة للصوت ، كي أرى وأسمع أصوات الانفجارات المدوية في أجواء القرى والمدن التي كُتب عليها أن تدفع ضرائب عالية من كل شيء.
لم أشهد الحرب ، كما شهدها غيري ولكنني كنت من أسرع الناس إلى جهات الصوت والانفجارات ربما لأشعر بما كان يشعره أهل البلاد.
الثعبان الأحمر ، نبهني إلى أشياء كثيرة في هذا العالم وزادني معرفة ً بما يحيط بي ، لقد رأيت السماء أ قرب إلى الأرض من سابق عهدها ، والأرض اكثر تصحرا ً رغم أخضرارها ، والناس اكثر قربا ً رغم تفرقهم حتى أني استطيع أن أقرأ وجه كل نجمة قريبة كانت أو بعيدة ، بذات الضياء ، فعودتي الأخيرة لا تشبه وداع بوذا لمدينته، هو الذي لم يستطع النظر إليها بعد أن ترك ولده وزوجه فيها وعبَر النهر َبقوة عشرة جياد.ٍ
اليوم، أراها بعين أخرى وصورة أخرى وبما معناه أن الله قريب منها ويبسط كل جماله فوقها.
انظر الى التلال التي تحيط ببيتنا ، عندما أقول" بيتنا " لا اشكك دقيقة واحدة في مفهومي وفهمي لكلمة "بيت " و هي ما أقصده تماما أنه البيت الذي ولدت ُفيه . يلتبسُ الأمر على أمي وأبي ومن يسمعني ، ليذهب الظن بهم إلى أنه البيت الذي أسكنه حاليا حيث أعيش وليس البيت الذي ولدت ُفيه.
البيت الذي ولدتُ فيه هو بالنسبة لي بيتٌ الفطرة والانتماء و الجنسية والهوية والملامح التي انتمي إليها ، البيت الذي لا يمكن فصله عن الجسد والروح مهما التبس المعنى والتفسير إلى أي بيت أقصد أو أشير ، وكان عليّ دائما في معرض حديثي أن أوضحَ لمستمعي سواء كان أبي أو أمي واخوتي أو الغرباء ، أن البيت الذي اقصده بيتنا هو" بيتكم"- بيت أهلي .
؟ كيف لي أ ن أشرح وأوضح علاقتي "بالبيت "
كما ذكرت ، كنت ُلا احب القرية ولا ارغب في العودة إليها ، كنت أخشى أ ن تكون مرآة ًلحياتي التي عشتها وقاومتها ،في البحث عن هوية ، انتمي إليها ، في اثبات وجودي على هذه الأرض وكنت اعزي نفسي بابن عربي وأردد ُ معه " كل ما لا يؤنث لا يعول عليه " ولكن لماذا الذكورية ؟
لماذا يعوّل ُ عليها ؟
لماذا المراهنات ،على أن الأرض لا تعطي ثمارها بدون الذكر ؟
كنت_ في زيارة إلى "بيتنا "إلى بيت أهلي " اقصد "._ قد تراهنت مع ابي على فكرة ٍ نفاها وقاطعني بها ، قائلا لي وبكل ثقة أن البذور َ التي بذرتُها في الأرض لن تثمر وأنني أتعب في هذا بدون جدوى .
درجات الالم تزاداد مع المعرفة
أقول: ربما حياتي البعيدة ، هي التي جعلت مني فتاة عاطفية ، قادتها عاطفتها إلى عالم لم تكن تتصوره على الأطلاق ولا حتى التفكير به ولو على بُعد سنوات ضوئية ، انها شرارة الحب ، التي توهمنا بأننا أبطال ، وعلينا التضحية في سبيل هذا الحب.
الحب نوع من أنواع الوطنية ، يمنح ُ الأمان والاستقرار والانتماء ولكن كل هذا لم اجده ولم يمنحني اي انتماء انتمي إليه وهكذا فقدت هويتي الوطنية وأولادي لا ينتمون إلى أية هوية فقد ضاع انتمائهم بين أم لا يعطيها القانون حق منح هويتها وجنسيتها إلى أولادها .
كان علي ّ أن اثبت أني بطلة ، لأفقد كل انتماءاتي واردد مع ابن عربي "لا دين إلا دين الحب "
الألم يصعد درجات بالإنسان . أنا أومن بهذا الصعود ، هو ما جعل مني امراة قوية ، صلبة ، شجرة عنيدة في بستان الحياة.
الألم ُ يشبهُ الهواء َ النقي ، يحرر الرئة من تلوث الحياة والقوانين و الأقارب. حتى أنني اشعر بفلسفة الألم وأفهمها كما يتحدث عنها "كيريجاد القبيح "، لقد رفعه الألم درجات ، كما كان يتحدث إلى أمه.
ارتفعت بألمي عن القوانين و الأنظمة والهوّيات الملعونة ، في جحيم عالم عربي نتن .لا يؤمن بالحب ولا بالإنسانية ، مع أنه يبكي على أطلال الماضي ، حيث وضع قيس ابن الملوح قبلته الأولى على جدار ليلى ، وحيث المتنبي ، كان يمدح ويرثي ويهجو من أجل المال والمناصب ولكنه بقي خالدا في ذاكرة العرب على انه تراث وأدب وفكر ، لا يقدم ولا يؤخر للانسانية من شئ ، أما الهويّة فلا تمنح إلى اليوم ومنذ فجر العرب واسلامهم لأمرأة.