في شهر آذار من يتذكر يارا وأطوار



شوقية عروق منصور
2021 / 3 / 14

غنت فيروز ( يارا جدايلها الشقر ) فكانت اغنية رحبانية تمر كالنسيم في الوجدان ، وتدغدغ روح الطفولة البريئة التي تأخذنا الى الحلم البعيد ، لكن حين أتذكر الصحفية السورية ) يارا عباس( على فضائية الاخبارية السورية وهي تركض وتعد تقاريرها من ميادين القتال بين الجنود والبيوت المدمرة والقناصة والانفاق والموت الذي يترصد الخطوات ، مرتدية السترة الواقية ضد الرصاص والخوذة الحديدية ، تتكلم بطلاقة وشجاعة وجرأة دون خوف ، تسير بين الجنود متحدية المكان والزمان ، حين كنت أراها اقول ( يارا الجديدة أتت) نعم أهمس بيني وبين نفسي ها هي المرأة العربية الحديثة القوية التي أرادوها داخل اكياس العجز والذعر والخوف والاحباط ويقوم الرجل برسم حياتها والهيمنة عليها كأنه عنتر زمانه .
"يارا عباس" وغيرها من النساء اللواتي رفضن أن يتحولن الى سلعة تجارية تحت مسميات عديدة ، فجأة قتلت (يارا عباس) اثناء تغطيتها للمواجهات بين الجيش السوري والمعارضة بالقرب من مطار الضبعة في منطقة القصير ، فقد اطلق عليها احد القناصة الرصاص رغم انها ترتدي السترة التي تؤكد انها صحفية ، بمقتلها اختفت امرأة جريئة واثقة من نفسها ومراسلة عسكرية ذات حس صحفي مميز ، ونعرف أكثر أن مهنة المراسل العسكري كانت حكراً على الرجال ، لكن الصبية " يارا عباس" منحت المرأة العربية طريقاً تستطيع أن تبارز وتنجح فيه ، أن تكون في خندق الرجل تصف وتشرح وتنقل بثقة وجدارة ، لا تخاف ولا ترتعش بل تؤكد للعالم أنها والرجل على خط الشجاعة، ومن يحاول أن يقيس قامتها بميزان الانوثة عليه أولاً أن يتابع تقاريرها من ميدان القتال ليقول أنها تحمل في داخلها صورة المرأة البعيدة عن فتاوى المكعبات الاسمنتية التي يريدون حشرها داخل اسمنت العورات وحديد الاستغلال كي تتجمد وتتحول الى وجوه عابرة في المحيط الذكوري المتحرك .
لكن المخجل ان الذين فرحوا لمقتل الصحفية " يارا عباس" قاموا بتصنيفها في خانة النظام السوري فقط ولم يقوموا بتصنيفها كصحفية شجاعة لها ميزة الجرأة والخروج من مستنقع الخنوع ، وقلائل من قاموا بنعيها من اتحادات صحفية عربية ، ولم تقم الجمعيات النسائية في الوطن العربي بنعيها ، أرادوا معاقبتها لأنها كانت تقوم بتغطية فضائية قريبة من النظام السوري ورئيسها بشار الأسد و تناسوا أنها امرأة !!
لقد ذكرنا مقتل" يارا عباس" بالصحفية العراقية " اطوار بهجت " التي قتلت أيضاً اثناء تغطيتها احداث في مدينة السمراء ، وقد بين الشريط المصور على هاتف جوال حصلت عليه " الصاندي تايمز" كيف تم ذبحها من الوريد الى الوريد ، والمؤسف لم نسمع أي عبارات استنكار لمقتلها بهذه الطريقة البشعة كأننا أصبحنا نحن وحد السكين في حالة صداقة حميمية ، وخسرنا أيضاً أطوار بهجت كصحفية عراقية عربية .
ذات يوم هاجمت رئيسة وزراء اسرائيل غولدا مائير لبنان فرفض رئيس الوزراء اللبناني يومئذ الرد عليها لا احتقارا للعدو ولكن احتقارا لأنها امرأة وقال يومئذ كلمته الشهيرة ( ما بحط عقلي بعقل امرأة ) هكذا ينظرون الى المرأة حتى لو كانت رئيسة وزراء ، ويارا وأطوار صورة كاملة متكاملة لنساء عربيات يحاولن الخروج الى عالم التفرد والتميز وترك حرير الانوثة وارتداء بزة القتال ، ونقل الصورة والحدث من وراء البنادق والدبابات والقنابل والطائرات .
نعترف في الحروب القذرة يسقط كل شيء من القيم إلى الانسانية ،وسابقاً سقط كل شيء في العراق وفي سوريا واليمن وفلسطين وغيرها من الدول العربية ، ومع السقوط سقطت المرأة العربية تحت عجلات التهميش والوجع والتشرد واللجوء والذبح وفي كل مكان هي احدى ضحايا الدمار المطلق ، فالمرأة في الحروب تكون في طليعة القهر والقمع فكيف اذا كانت المرأة العربية في مجتمعات رجولية طاحنة !! قد يقع على عاتقها توفير الحياة وحماية الاسرة وايضاً الندب والنواح والصراخ ، وقد يضاف الى اعمالها توفير الانوثة في زمن الحرب للرجال الذين يشتهون المرأة بين الطلقة والطلقة ، لكن حين تكون المرأة صحفية يقع على عاتقها التفوق على كل المعايير لأن الرسالة تكون أكبر وأوسع تحمل التفاؤل او تحمل الاحباط ، والفضائيات اليوم تواجه الصدق و الشفافية والصراع بينهم ليس صراع الكلام العابر بل صراع الاقناع .
مقتلهن – يارا واطوار – يدخلهن في خانة الصحفيين الذين قتلوا دفاعاً عن الكلمة والموقف ، وقد يكون مقتلهن دفاعاً عن افكار وقضايا آمنوا بها وضحوا من اجلها ،
( يارا عباس ) من منا لا يخجل حين تبث الفضائيات ووسائل الاعلام العربية والغربية الصور والافلام المخيفة - كأنها مسروقة من افلام خيالية - عن الصراع السياسي الحربي الحيواني الذي يجرنا الى بوابات المسالخ حيث نرى جميع ادوات الذبح والطعن وطرق الموت المتعددة ونشعر ان هناك لذة خفية عند هؤلاء الذين يقومون بالذبح حين يرون انهار الدم ، وتتيقن بينك وبين نفسك ان الحقائق غائبة وان شريعة الغاب هي التي تحرك المصالح وان أكبر مصائبنا مصدرها من حكامنا اقزامنا ودبلوماسية العشب التي تحبو فوقها الانظمة العربية .
" لا يحارب البرابرة الا برابرة " عبارة قديمة لكن بربرة الدم العربي وصلت الى الركب، ووجه المرأة العربية يغطس في الدم ليتشكل الوجه الذي يتعرى يومياً امام المجتمعات المستباحة ، واذا كان كل شيء مباح فقل مرحباً للخراب .