بلاد لا تحب النساء



داليا شمس
2021 / 3 / 22

ماذا لو أضربت النساء؟ لو قررن الهرب أو الانسحاب المفاجئ من المجال العام؟ هذه الفكرة ظلت تراودنى خلال الأسبوع مع تواتر الأنباء السيئة ودعوات بعض الجمعيات النسوية بإعلان الخميس الماضى يوم حداد، حزنا واعتراضا على قتل داليا «شهيدة السلام» لمجرد أن رجلا زارها فى المنزل وهى بمفردها، وبسبب اعتبار بعض مواد مشروع قانون الأحوال الشخصية أن المرأة لا تتمتع بأهلية كاملة ولا تصلح لأن تكون ولية على نفسها وعلى أبنائها. تذكرت أن ذلك حدث بالفعل فى المكسيك قبل عام، حين اتشحت المكسيكيات بالسواد فى التاسع من مارس ولم يظهرن فى الشارع أو على وسائل التواصل الاجتماعى للإعراب عن استيائهن من انتشار جرائم العنف والقتل ضدهن دون رادع. هل يجب أن نذهب للعيش فى «بلاد صديقة للمرأة» مثل دول الشمال: آيسلندا والسويد وفنلندا والنرويج، كى لا تلام سيدة على أنها نشرت فيديو لأحد الرجال وهو يتحرش بطفلة وندخل فى مهاترات حول الفرق بين الستر والتستر؟
ازداد فى الأيام الأخيرة وقع التناقض بين وصول المرأة فى مصر لأعلى المناصب، فصار لدينا العديد من الوزيرات والنائبات والقاضيات والمحافظات، لكن فى الوقت ذاته كانت الأنباء الغريبة تقع علينا كالصاعقة وتجعلنا نشعر أن الفارق كبير بين المجالين العام والخاص، بين ما يسمح لها من حريات وحقوق شخصية وما تصل له فى العمل مثلا وفى مؤتمرات «التمكين». وهذا التضاد هو بالطبع من تجليات أزمة مجتمع، لم يحل مشاكله، ويشعر بغصة من فشله السياسى والاقتصادى المتكرر، ولا يجد وسيلة فى التعبير عن هذا الفشل إلا بتوجيه جل حنقه نحو الحلقة الأضعف، هذه المرأة التى ينظر إليها، فى كثير من الأحيان، منذ قيام الدولة الحديثة على أنها مثل الوردة فى عروة الجاكيت، أى عنصر للتزيين والأناقة.
***
كانت هناك دوما علاقة نسبة وتناسب بين درجة رقى المجتمع وحداثة الدولة وحقوق المرأة. وانشغل الناس بالجسد وكأنه حلبة الصراع التى سيعلن من خلالها عن المنتصر، ما الذى يجب أن تكشف عنه أو تخفيه؟ الوجه، الشعر،... وفى كل مرة كانت تقوم ثورة تتدافع الأسئلة والنقاشات. تلعب المرأة دورا هاما فى خضم الأحداث السياسية وتبرز كإحدى مكونات الأُمة، وبالتالى تنتظر أن يترجم ذلك إلى حقوق ومكتسبات. وبعد أن ينفض المولد تبدأ العركة.
خلال ثورة 1919، دعت هدى شعراوى إلى خروج النساء والمشاركة فى المظاهرات بعد القبض على سعد زغلول ورفاقه، وكشفت عن وجهها متمردة على الحجاب بوصفه لباسا فرضه العثمانيون ومعبرة عن حقها فى الاستقلال، ومن بعدها استمرت مساعى تحرير المرأة ودارت الصراعات خلال العشرينيات والثلاثينيات بين أنصار السفور والاختلاط من ناحية والمحافظين من ناحية أخرى، الذين أرادوا الإبقاء على الوضع القديم تحت شعار «الحفاظ على قيم الأسرة المصرية». ومع احتدام النقاشات والمعارك تأتى بالضرورة بعض المكتسبات وتحدث حلحلة للأوضاع القائمة، حتى لو بخلع الضرس كما نقول.
***
فى الأربعينيات ظهر تيار جديد فى الحركة النسائية سعى إلى ربط مطالب المرأة بتحرر المجتمع من جميع أشكال الاستغلال والاستعمار. أما بعد ثورة 23 يوليو، فقد حصلت المرأة على الحق فى التصويت والمشاركة السياسية وخطت خطوة واسعة نحو المساواة من خلال دستور 1956، الذى كان فريدا من نوعه فى المنطقة. صارت وزيرة وتبوأت مناصب لم تصل إليها من قبل فى «دولة الاشتراكية»، وظهرت بصورة مختلفة فى أفلام مثل «أنا حرة» و«الباب المفتوح» و«مراتى مدير عام»، لكن فى نفس عام صدور الدستور «التقدمى» قررت الدولة إحكام سيطرتها على المجتمع المدنى وأغلقت مؤسسات العمل الأهلى وتم حل الاتحاد النسائى واستبدل بكيان آخر خاضع للإشراف الحكومى. ورغم وجود وزيرات للشئون الاجتماعية بمستوى الدكتورة حكمت أبوزيد والدكتورة عائشة راتب فيما بعد إلا أن كل مساعى تغيير قانون الأحوال الشخصية، بشكل يتماشى مع روح العصر، باءت بالفشل واصطدمت دوما مع المدافعين عن الشريعة وجماعة «الحفاظ على قيم الأسرة المصرية»، وهو الشعار الذى يُطوع غالبا لأهداف سياسية ويُستخدم لإبقاء الأوضاع على ما هى عليه. لكن فى كل مرة مع احتدام النقاش المجتمعى، يحدث حراك، سواء صعودا أو هبوطا، ينقلب أحيانا النقاش إلى «خناقة شوارع» أو إلى مستوى أعلى من الصراع، ما يسفر مجددا عن حلحلة الأوضاع ويفضى فى النهاية إلى تغيير، وهو ما نعيشه الآن بعد عشر سنوات من ثورة يناير.
تناقض بين ما وصلت إليه المرأة من مناصب فى المجال العام، ورغبة فى جعلها دائما تحت السيطرة فى المجال الخاص، وكأنها لن تصل أبدا إلى سن الرشد، رغم كل المحاولات والمعارك. تناقض عبرت عنه بشكل مختلف إحدى السيدات المشاركات فى حملة «الولاية حقى» على الفيسبوك عندما وجهت كلامها للرجل قائلة: «ح تتنادى باسم أمك يوم القيامة، بس أمك ما تقدرش تسجل اسمك فى السجلات الرسمية».