درية شفيق المرأة التى تصدت لعبد الناصر



حسن مدبولى
2021 / 4 / 22

بالرغم من أننا قد غفرنا لأم كلثوم غنائها وتدليلها للملك فاروق،وتجاهلنا قبولها لوسام الكمال منه، وإحتوينا ماضيها الملكى ،حتى صارت نجمة النجوم وكوكب الشرق، ونفس الأمر فعلناه مع عبد الوهاب،فأصبح الفتى المدلل تربية القصور ومطرب البانيوهات، مواطنا ثوريا مناضلا يتحدث عن السلاح والكفاح وحرية أراضينا ؟ إلا أننا وعلى العكس تماما من ذلك، لم ينفع معنا ولم تشفع لدينا كل نضالات السيدة درية شفيق وأدوارها الريادية وتضحياتها من أجل تحرير المرأة المصرية وإستعادة الوطن لكرامته وإستقلاله،كما لم يحرك مشاعرنا مشوار كفاحها و تحريضها المباشرعلى قتال الإنجليز فى عز جبروتهم؟ بل حتى على المستوى الإنسانى لم نعاملها بالمثل كما تعاملت هى ورعت أسر ومصابى الفدائيين بمنطقة القناة، لكن مصر تعاملت معها بإزدراء وإنكار للفضل، فقط لإنها سيدة حرة تصرفت بشجاعة ووعى وتجرأت وأخبرت الحاكم بأنها تراه عاريا غير مستور ؟

فمن هى درية شفيق ؟ درية أحمد شفيق هى مناضلة وكاتبة وشاعرة ومفكرة ومواطنة مصرية حرة ولدت في طنطا يوم 14 ديسمبر 1908، وماتت وحيدة منعزلة في الزمالك يوم 20 سبتمبر 1975،
أمها رتيبة ناصف “بك“، وأبوها أحمد “أفندي” شفيق،،
،حصلت على درجة الدكتوراة من جامعة السوربون فى فرنسا عام 1940،وكان موضوعها عن حقوق المرأة فى الإسلام،وفى رسالتها المقدمة لنيل درجة الدكتوراة أثبتت أن الإسلام منح المرأة حقوقا غير مسبوقة ، تفوق ما حصلت عليه فى أية تشريعات وضعية أو دينية أخرى !
إلتقت في باريس بابن خالتها نور الدين رجائي، الذي كان يدرس القانون في السربون، وتزوجا في أكتوبر 1937، في مقر القنصلية المصرية وهي تكبره بسبع سنوات؟
في 1939 عادت درية شفيق إلى مصر بعد أن أنهت المرحلة الأولى للدراسة بتفوق،و بعد فترة قصيرة إتصل بها وزير التعليم عارضًا عليها العمل كمفتشة للغة الفرنسية في المدارس الثانوية فقبلت، مع أنها كانت تريد تدريس الفلسفة في الجامعة المصرية. وبعد عدة شهور جاءها خطاب من السربون يحدد موعد مناقشة رسالتها الثانية والنهائية، وكان لا بد من إجازة من عملها لتسافر، لكن وكيل وزارة التعليم رفض السماح لها بالسفر، وهددها إن سافرت فستعتبر مفصولة، فأخبرته أن يعتبرها مفصولة، وخرجت من مكتبه لتحجز تذكرة سفر،وسافرت وحصلت على درجتها العلمية بجدارة،وعندما عادت لتحقق حلمها بالتدريس في الجامعة،رفض الدكتور أحمد أمين (1886-1954) تعيينها بحجة أنه لا يستطيع تعيين امرأة جميلة للتدريس في الجامعة؟ حاولت درية الاتصال بوزير التعليم للتوسط لدى أحمد أمين فأخبرها أن أمين قال له “يوم أن تخطو درية شفيق حرم الجامعة، هو اليوم نفسه الذى سأغادرها أنا؟بعد ذلك حاولت الإنضمام للاتحاد النسائي الذي أنشأته هدى شعرواي، لكنها قوبلت بدسائس ومؤامرات متعددة ، كما أن إسلوبها الثورى الوطنى (المتطرف ) لم يرق لشلة هدى شعراوى المحافظة والقريبة من السلطة ؟
لكن درية شفيق مع ذلك لم تيأس و قررت خوض معركتها الكبرى من أجل جلاء المستعمر ، وكذلك حصول المرأة المصرية على حقوقها الطبيعية،حتى ولو قاتلت العالم كله وهى وحيدة بلا سند ،فاتجهت للصحافة لتوصيل صوتها للمجتمع، حيث تولت رئاسة مجلة "المرأة الجديدة" ثم أصدرت مجلة "بنت النيل" وهي أول مجلة نسائية تهدف لتثقيف المرأة وتعريفها بحقوقها، كما قامت بتشكيل حركة إجتماعية تنظيمية للقضاء على الجهل والأمية وبث الروح الوطنية ، كماأنشأت أول مدرسة لمحو الأمية في بولاق أبو العلا بوسط القاهرة ،كما يذكر لها بأنها كان لها فضل السبق فى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، كما تركت ورائها عدة دواوين شعرية،،
في عام 1942 بحثت درية عن مربية لابنتيها عزيزة وجيهان، لتتفرغ لدورها في الحياة العامة، وإنتشرت دعواتها للصفوة من نساء مصر بالتكاتف لمواجهة الفقر والجهل والمرض ، وكان من نتائجها أن أغدقت الكثيرات من سيدات الصفوة الميسورة الأموال والمساعدات من أجل إنشاء جمعيات جديدة تساهم فى العمل الإجتماعى العام ( جمعيات أهلية ) أو توفير الدعم للمنظمات الموجودة فعليا مثل مبرة محمد على،وبالطبع ونظرا لنشاطها الوطنى المكثف، تناثرت الانتقادات حولها بشكل متعمد تشكيكا فى نواياها وانتماءاتها،فإتهمت بأنها تتكلم الفرنسية وتعلمت في فرنسا؟ وهو ما يبدو بأنه كان عوارًا واضحًا في وطنيتها فى ذلك الوقت ؟لكن جاء الرد المناسب منها بإصدارها لمجلة “بنت النيل“باللغة العربية الفصحى ،والتى صدرت بورق مصقول،ومقالات متنوعة تدور حول القضايا النسائية والوطنية ، وأيضا تتضمن نصائح للمرأة بشان تربية الأطفال ، وأقسام للموضة، وقد ظهر العدد الأول في 1 نوفمبر 1945، بخمسة قروش، وفي ساعتين بيعت 5000 نسخة !!
وعلى مدى سنوات عمرها بذلت درية شفيق جهدًا كبيرًا لتغيير القوانين المجحفة بحقوق النساء، فبالإضافة لإنتزاعها حق المرأة في الانتخاب والتصويت ، كانت درية شفيق تسعى لتغيير القوانين التي تحول دون حصول المرأة على عضوية البرلمان نفسه،أما على المستوى الوطنى فقد حوَّلت درية مجلتها من منصة هدفها تحرير المرأة البرجوازية، إلى حركة ثورية تربط عملية تحرير المرأة بالسياسة عمومًا،ولم تكتفى درية بالتوعية عن طريق الكلمة المكتوبة ، لكنها حولت هذا الدور الوطنى الإعلامى ، وكذلك الحركة الإجتماعية النسوية ، إلى حركة كفاح ثورية شعبية خرجت بإحتجاجاتها ومظاهراتها إلى الشارع، ومن ابرز تحركاته الثورية تخطيطها لاقتحام مبنى البرلمان، حيث تحركت من الجامعة الأمريكية إلى مقر البرلمان في شارع قصر العيني، بصحبة 1500 امرأة، واقتحمن بوابة البرلمان، واستمرت التظاهرة لأربع ساعات، حتى إضطر رئيس مجلس النواب لإستقبالها بنفسه في مكتبه، ووعدها بأن ينظر البرلمان في مطالب تلك التظاهرات التى كانت تتركز على السماح للنساء بالاشتراك في الكفاح الوطني ضد المستعمر ، وكذلك إصلاح قانون الأحوال الشخصية، و قوانين الإنتخابات ، وكذلك قوانين العمل التى تتسم بالعنصرية، بعدها بأسبوع قدم النائب الوفدي أحمد الحضري مشروعًا يطالب بمنح النساء حق الانتخاب والترشح للبرلمان، حيث تم إقرار ذلك الحق للمرة الأولى فى تاريخ مصر ،،،
وفي موقف شجاع وثورى وجرئ وغير مسبوق حتى وقتنا هذا ، خرجت درية في 23 يناير 1952 على رأس تظاهرة لفتيات يرتدين( الزي العسكري) حيث ذهبن لمحاصرة بنك باركليز الانجليزى ، وأوقفن نشاطه لمدة 24 ساعة، تعاطفًا مع الفدائيين الذين يقاتلون قوات الاحتلال في الإسماعيلية،
فتم القبض عليها وتقديمها للمحاكمة بتهمة التظاهر ومقاومة الإحتلال، ومحاصرة بنك باركليز البريطانى وتهديد الإقتصاد ؟ لكن لم تستكمل تلك المحاكمة بسبب قيام ثورة يوليو، و التي بدا للجميع في البداية أنها جاءت لتطهير البلاد من السلطة الفاسدة، وأن قادتها لا يريدون سوى تغيير الوزارة وتعيين محمد نجيب قائدًا أعلى، حيث قامت درية شفيق بزيارة محمد نجيب فى مكتبه، وذكرته بأن الثورة لن تكتمل إلا إذا تحررت المرأة، فاستقبلها نجيب بلطف بالغ، لكنه أخبرها أنها قد تستثير القوى المؤيدة للثورة لو بدأت الآن المطالبة بالحقوق السياسية للمرأة، فوعدته بالتزام الهدوء لفترة ، وفي أكتوبر عام 1952 قدمت لوزير الداخلية، جمال عبد الناصر، ما يفيد بتحويل جمعية بنت النيل إلى حزب سياسي، فقبل عبد الناصر طلبها فورا ،وترأست بالتالى أول حزب نسائي مصرى(حزب إتحاد بنت النيل) وبدون شك كان موقف درية شفيق وحزبها مؤيدًا تمامًا للثورة في بدايتها، منتظرًا منها الكثير للنهوض بالحريات والتعليم والحقوق،
ولكن كانت أولى مواجهاتها مع الثورة في 1954؛ حين قررت الدولة وضع دستور جديد، دون أن تضم اللجنة التأسيسية له امرأة واحدة، فقررت درية إعلان الإحتجاج والإضراب عن الطعام في نقابة الصحفيين، وقالت إنها ترفض الخضوع لدستور لم تشارك في صياغته، وبالفعل توجهت لنقابة الصحفيين وانضمت إليها بضع سيدات، كان نصيبهن التشهير والانتقاد، حتى أن طه حسين وصفهن بالعابثات، و استمر الإضراب حتى دخلت درية وكثير من رفيقاتها إلى المستشفى، لكن في اليوم السادس للإضراب أمر رئيس الجمهورية محمد نجيب، محافظ القاهرة محمود نور بأن يزورها ليخبرها بأن الدستور الجديد سيكفل للمرأة الحرية الكاملة،،
وفى عام 1956 أعادت درية شفيق تأسيس الفرقة العسكرية النسائية للمساهمة فى تدريب الفتيات على القتال ضد جنود العدوان الثلاثى ،كذلك لتدريبهن على تقديم الإسعافات للمصابين، وقادت حملات كبيرة للتبرع بالدم، كما قامت بحملة تبرعات لتقديم المساعدات المالية للعمال الذين فقدوا عملهم في منطقة القناة،والاسر التى فقدت عوائلها بسبب العدوان ؟
وفي عام 1957 -وكان عبد الناصر قد أصبح الحاكم الأوحد- وبالتحديد فى يوم 6 فبراير 1957 ، دخلت درية شفيق إلى مبنى السفارة الهندية التى تقع على بُعد خطوات من مسكنها بالزمالك، وأرسلت من هناك بيانًا لعبد الناصر قالت فيه إنه “نظرًا للظروف العصيبة التي تمر بها مصر، قررت بحزم أن أضرب عن الطعام حتى الموت، وأنا كمصرية وكعربية أطالب سلطات مجلس الأمن بإجبار القوات الإسرائيلية على الإنسحاب فورًا من سيناء،كما أطالب السطات المصرية بإعادة الحريات كاملة للمصريين رجالاً ونساءً، ووضع حد للحكم الديكتاتوري الذي سيدفع بلادنا إلى الإفلاس والفوضى،وقد اخترت السفارة الهندية لإن الهند بلد محايد، ولن أتهم بأنني فضلت معسكرًا ما ؟
غضب عبد الناصر غضبًا شديدًا لإن الشرطة المصرية لن تستطيع أن تدخل السفارة الهندية للقبض عليها،كما غضب أيضا لإن الإعلام الغربى نشر الموضوع بتوسع كبير جدا( ترند) نكاية فى عبد الناصر ونظام حكمه، و لكن فجأة وبعد مرور 48 ساعة على الإضراب ، قامت السفارة الهندية بتسليم السيدة درية إلى السلطات المصرية، بعد عدة اتصالات بين نهرو وعبد الناصر ، و انتهى الإضراب بحجة أن حياتها تتعرض للخطر ،كما تم نقلها قسرا إلى أحد المستشفيات لتلقي العلاج،،
بعدها أمر عبد الناصر بتحديد إقامتها في بيتها، وفي 28 فبراير طردها زملاؤها من حزب اتحاد بنت النيل، واتهتمتها بعض زميلاتها بالخيانة، وعينت الحكومة لجنة من خمس سيدات أصدرت قرارًا بإغلاق دار النشر المملوكة لها ، وقضت على كل إصدراتها من المجلات تدريجيًّا، كما تم إغلاق الحزب نفسه ،و كذلك إغلاق مجلة المرأة الجديدة التى كانت الدكتورة درية ترأس تحريرها،وتم فرض العزلة عليها، و منعها من الإشتغال بالعمل العام ،أو إلقاء المحاضرات السياسية أو غير السياسية،أو حضور الندوات،أو التدريس بالجامعة،كما تم منع ذكر إسمها فى أية وسيلة إعلامية نهائيا ؟
و ظلت لعدة سنوات رهن الإقامة الجبرية، و لم يسمح لها بالسفر أو بالخروج من المنزل،والغريب فى الأمر انه ما من أحد من جهابذة التنوير وزملائها الكتاب فى ذلك الوقت قد جرؤ على الدفاع عنها ، أو طالب بحريتها وإطلاق سراحها،او حتى إلتمس لها عفوا سلطويا،فلم يدافع عنها طه حسين الذى كان قد وصفها مع زميلاتها بالعابثات،ولم يكتب عنها توفيق الحكيم ولا إحسان عبد القدوس،ولا العقاد أو نجيب محفوظ أو انيس منصور، أو حتى مصطفى أمين و محمد حسنين هيكل ؟ وظلت السيدة صاحبة الدور التاريخى المجيد، مغيبة مقهورة معزولة مجهلة محاصرة فقيرة لسنوات طويلة،،
حتى جاء يوم 20 سبتمبر 75،حيث تم الإعلان بأنها قد سقطت من الدور السادس لعمارة وديع سعد في الزمالك( كما سقطت سعاد حسنى فى لندن)تاركة في ختام مذكراتها هذه الأبيات للشاعر الفرنسى بول إيلوار:
أيتها الحرية
إليك أهدي قلبي
لولاك ما كانت لي أبدًا حياة؟
ولا تزال درية شفيق و رغم رحيلها عن عالمنا منذ مايقارب النصف قرن،تتعرض للتجاهل والتهميش،فلا فيلم سينمائي يروى قصة حياتها، ولا مسلسل درامى يصف ويصور نضالها ومتاعبها،بالرغم من هوجة المسلسلات والممثلات حولنا ؟؟؟؟