ازدواجية النسوية في العالم العربي



عبدالله محمد ابو شحاتة
2021 / 5 / 13

لا شك أن جرائم الشرف وما شابهها من تجاوزات في حق المرأة هي من الآفات المجتمعية التي يجب أن يضيق بها أي مجتمع حديث، ولكن علينا كذلك حينما نعالج تلك الظواهر أن نبحثها من كافة الوجوه وبشكل علمي، وهو ما تفتقر له النسوية العربية، فالنسوية العربية تفتقر كثيراً للنظرة العلمية السيسيولوجية كما تفتقر للحيادية العلمية، وتعالج الأمور دائماً وفقًا لنظرة أحادية تفتقر للموضوعية. ونرى هذا الأمر جلي في الخطاب الطفولي المزعج الذي يصور المرأة العربية والرجل العربي كطرفي صراع، أما الواقع العلمي فلا يعرف تلك السذاجة، فالأمر في إطاره الصحيح هو صراع ثقافي بين قيم ثقافية متعارضة، والصراعات الثقافية تخص المجتمع بأسره وقضاياها ليس لها علاقة بالنوع والجنس؛ فضلاً عن أن تلك الصراعات لا تتجزأ؛ فصراع المساواة وحقوق المرأة مرتبط بطبيعة الحال بصراع العلمانية والدولة الدينية وبصراع الحرية الفردية والحداثة مقابل سطوة العرف والتقاليد، فالمقصود هنا أن الصراع الثقافي صراع شامل ومترابط وعملية التغير الثقافي هي عملية مجتمعية تخص الرجال والنساء.
ومن هنا يظهر لنا تهافت هذا الخطاب النسوي الذي يضع الرجل كمسؤول عن انتهاك حقوق المرأة، متغافلاً عن أن الهدر قادم من أنماط ثقافية تخص المجتمع ككل بنسائه ورجاله؛ وبتحليل اجتماعي بسيط بعيداً عن التحيز الصبياني سنجد أن المرأة لها نصيب لا يقل بأي شكل من الأشكال عن نصيب الرجل في سيادة تلك الأنماط التقليدية المُحافظة، فمثلاً في الريف المصري ستجد أن الختان مُبَاركاً من قبل الأمهات والجدات أكثر نظائرهم من الآباء والأجداد، وهذا الأمر معروف لكل باحث اجتماعي أجرى بحثاً أو استبياناً حول هذا الموضوع، مما يجعل إعفاء المرأة من مسؤولية تلك الممارسات وإلصاقها بالرجال أمراً في غاية الغرابة. ولا أبالغ إذا قلت أن المرأة تلعب دوراً في غرس تلك القيم الثقافية الرجعية أكثر من الرجل، فلا أشك عندي في أن الأم لها أثر تربوي على أبنائها من الذكور والإناث أكبر الأب، ومن الملاحظات المهمة أيضاً أن أغلب المسؤولين عن مراحل رياض الأطفال والمرحلة الإبتدائية في مصر وبعض الدول العربية هم عادة من النساء، أي أن الطفل من سن رياض الأطفال وحتى سن أثنى عشر عاماً يتلقى تعليمه الرسمي في الغالب على يد نساء، ما يدعم رأيي السابق في أن للمرأة في بعض المجتمعات العربية دوراً في التربية والتنميط الثقافي أكبر من دور الرجل. فإني أتذكر على سبيل المثال أني حتى نهاية المرحلة الإبتدائية لم اتلقى تعليماً إلا على يد نساء، وأتذكر أيضاً أن معظمهم كان من فئة (الناس اللطفاء ) التي تحدث عنهم راسل ساخراً في مقالته المُعنونة بذات الاسم، أي أنهم من الأمهات التقليديات إلي أبعد الحدود أو النساء اللاتي لم يسبق لهن الزواج والذين يعانون من اختلال نفسي ناتج عن تنميط المجتمع لهم بقالب ( العنوسة)، وقد أدت تلك الفئات في الواقع دورها على أكمل وجه في الزود عن كافة القيم الرجعية والتنميط الثقافي للأطفال ، و لا داعي كذلك لذكر ما اتسم به سلوكهم من سادية مُبالغ فيها خلقت عندي عقده من المدارس الرسمية رافقتني حتى إنهائي لمراحل التعليم بأكملها تمثلت في تعمدي الغياب المتكرر طوال مراحل الإعدادية والثانوية ولم تنكشح تقريباً إلا مع دخولي للجامعة.

وبعد أن شرحنا كيف أن الأمر متعلق بصراع ثقافي وليس صراع جنسين كما تتصوره بعض النسويات وحتى بعض خصوم الحركات النسوية بشكل كوميدي، علينا أن نتقصى كذلك الأصل الثقافي لتلك الأنماط الثقافية، فماذا يعني على سبيل المثال الشرف الأنثوي أو مفهوم الشرف الشرقي الشهير ؟ وما هو أصله ؟ وهل هو بالفعل أمراً تم فرضه على النساء عنوة أم أنه نمط ثقافي ناتج في أساسه عن تبادل اجتماعي أو عقد غير مكتوب !؟ ولا أجد في الحقيقة إجابة لتلك التساؤلات أفضل من إجابة شوبينهاور في بحثه عن مفاهيم الشرف في كتابه " فن العيش الحكيم". فالشرف الأنثوي عنده هو بمثابة عقد غير مكتوب بين المرأة والرجل، يعمل الرجل ويكد وينفق على المرأة وفي المقابل يتملك المرأة جنسياً بشكل حصري، وتصبح وفقاً لذلك أي علاقة برجل غريب هي بمثابة خيانة للرجل المسؤول عنها. أي أن حق السلطة للرجل على حياة المرأة الجنسية لم ينشأ في أساسه كحق تعسفي كما تتصور بعض النسويات؛ بل هو في الواقع مبادلة اجتماعية، ومن المعروف لدى مختصي الأنثربيولوجيا أن المجتمعات البدائية التي كانت تشارك المرأة بها في العمل لم تعرف تلك الأشكال المتطرفة لمفاهيم الشرف.
ومن التقرير السابق يتضح لنا أن استقلالية المرأة القانونية والفكرية والجنسية مشروطة لا محالة باستقلالها المالي، وهو ما يدفع بعض النساء ممن يعشقن التبطل ولا يحبذن فكرة العمل على الدفاع عن مفاهيم الشرف، وهذا لكونهم داخل لاوعيهن الجمعي يعلمن أن انهيارها يعني انهيار مبادئ وجوب كفالة الرجل للمرأة، والكثيرات منهم على غير استعداد للتنازل عن أماني الفارس الذي يغدق عليها الذهب والفضة ويخطفها على الحصان الأبيض أو ربما الBMW حتى نكون أكثر دقة.

فمن الأخطاء التي تقع فيها النسوية العربية هو إغفالها عن غير فهم وأحياناً عن تحيز لتلك العملية التبادلية، مما يجعل الرجل العربي موضوعاً في إطار غريب وفقاً لهذا الفهم، فهو من جهة مطالب بالتنازل لصالح المرأة عن حقوقه التي أقرها العرف الاجتماعي، ومن جهة أخرى فهو لايزال مطالب أمام المرأة بالوجبات المقررة وفقاً لذات العرف؛ أي أنه مطالب في الغالب بالتنازل من طرف واحد، وهذا الأمر بالطبع على درجة كبيرة من اللامعقولية؛ ففض الالتزام يجب أن يكون من الطرفين وليس من طرف دون الآخر.
فالخطأ الشائع الذي يقع فيه الخطاب النسوي العربي هو رؤيته للواقع من منظور أحادي، فستجده مثلا يتحدث عن الظلم المالي الذي تتعرض له المرأة بموجب القانون في مسألة الإرث، فالقانون يعامل المرأة كناقصة للأهلية المالية وبناءً عليه يعطيها نصف حصة الرجل من الميراث، ولكنهم في نفس الوقت يتغافلون عن أن ذات القانون وبناءً على ذات المبدأ ( أي نقص أهلية المرأة المالية ) فإنه يعطيها حقوقاً مالية على درجة بالغة من التميز؛ فالقانون المصري على سبيل المثال يعطي المرأة حق طلب النفقة قانونياً من أقرب ذكر لها في العائلة، كما يعطيها أيضاً حق وراثة معاش الأب بعد وفاته في حال كانت غير متزوجة، وهي ميزات مالية كبيرة جداً تتفرد بها المرأة دون الرجل، فمن المنطقي هنا أن المساواة في الإرث يجب أن يرافقها إلغاء كامل لتلك القوانين مادمنا سنعامل المرأة على قدم المساواة مع الرجل في الجانب المالي.
ولكن من الغريب أن تجد كثيراً من صاحبات الخطاب النسوي متمسكات بحقهن في المساواة فيما يخص الحقوق فقط دون الواجبات، فهي نسوية جداً.. ولكن فقط إلى أن يحين وقت دفع الحساب أو تحصيل الفواتير، فوقتها سترى أنه من المفترض أن تُحاسب عنها فقط لكونك ذكر، ولقد تعرضت كثيراً وبشكل شخصي لمواقف مشابهة من تلك الفئة. فعلى تلك الفئات أخيراً أن تتوقف عن مغالطة التفكير الأحادي الجانب.

وفي النهاية وقبل أن تُفهم تلك المقالة بشكل خاطئ، خاصة وأن أننا كعرب لنا باع في تحميل الآراء ما لا تحتمل، فإني أوضح أني مؤيد قلباً وقالباً للمساواة بين الرجل والمرأة، وأن ما أقوله هنا هو على سبيل النقد الذاتي الذي يجب أن يقوم به أي فكر أراد إن يُكتب له يوماً ما النجاح.