النساء و -سيدي رمضان- حكاية عشق ورقّ



هاجر منصوري
2021 / 5 / 13

يقع النساء في شهر الصيام أسيرات سحر هذا الزّائر الكريم المبارك العظيم سيدي رمضان بحسب الصفات التي تسندها المجتمعات العربيّة إليه، وهنّ مدفوعات بحكم العادة وما ساد في رمضان على العباد من آيات العبادة إلى الاحتفاء به وبحلوله ضيفا مبجّلا على الأسر العربيّة صغيرها قبل كبيرها. وإن ارتبط هذا الشهر في أصل تسميته بوقوعه زمن الحرّ أو بحسب طبيعته التي يكون فيها جوف الصائم رَمِضا أي حارّا من شدة الجوع، فإنّ النساء ارتبطن فيه بتجربتين: حرّ الجوع والصبر عليه، وحرّ القدور وغليانها في التنور استجابة لإطفاء نار الشهوات والرغبات بما لذّ وطاب. أليست النساء هنّ ربّات الخدور، المطعمات، صاحبات الأطباق والأكلات؟ إذ يشمّرن عن سواعدهنّ تشميرا وقد بدت الواحدة منهنّ مثل امرأة تاجر المقامة المضيريّة في مقامات الهمذاني " و الخرقة في وسطها، و هي تدور في الدور من التنّور إلى القدور، ومن القدور إلى التنّور، تنفث بفيها النار، وتدقّ بيديها الأبزار، و لو رأيت الدّخان وقد غبّر في ذلك الوجه الجميل، وأثّر في ذلك الخدّ الصقيل، لرأيت منظرا تحار فيه العيون!".
وهذا الوصف قد ينطبق على معظم نساء الشعوب العربيّة في سيدي رمضان كما يصطلح عليه التونسيّون، إذ تكثر الشهوات والأطايب، وتتكفّل معظم النساء فيه بتحضيرها وتوفيرها. فتتقدّم الزوجات والأمّهات والبنات لهذه المهمّات الجسام بأوصاف امرأة بديع القرن الرابع للهجرة مع شكل حداثي ومعاصر، فتكون الخرقة ميدعة للمطبخ باذخة بألوان الفواكه والغلال، أمّا التنّور فيستحيل فرنا غازيّا أوإلكترونيّا، يكفي أن تضغط على زرّ فيه حتى تشتعل أحد عيونه في هدوء، وتبدأ الأواني والصواني والمقالي في الغليان والفوران، ومنها تنبعث أطيب الروائح بما تجود به أناملهنّ من أفاويه التوابل والفلفل والكمّون إلى الكرَوْياء والقِرْفة، والزنْجَبِيل. فتجد الواحدة منهنّ تدور من الفرن إلى الثلاجة، ومن الثلاجة إلى المجلي، تحيط بها أدوات المطبخ الكهربائيّة والبلاستيكيّة المتنوّعة من خلاّط كهربائي إلى عجّان للكيك والكريمة وخفّاقة البيض وفرّامة اللحم..، فضلا عن الطواقم المختلفة من طقم ملاعق وسكاكين إلى طقم أكواب الشاي وفناجين القهوة وطقم صواني ذات الحوافي المنخفضة لخبز البيتزا والفطيرة وغيرها، ومجموعة أطباق بلاستيكيّة للجبن والمخلّلات، ولمّامة السجّاد والقائمة طويلة وعريضة...
إنّه عالم ماديّ وسحريّ يشدّ النساء إليه شدّا وينسج حكاية غرامهنّ بسيدي رمضان بأدوات تيسّر لهنّ أفانين الطعام على موائد الإفطار. ولكنّه عشق بطعم الرقّ تتوهّم فيه المرأة أنّها ملكة في بيتها وأنّ لها الزعامة المطلقة والحال أنّها مجرّد جارية تمارس أناملها طقوس عبور للبطون لا أكثر ولا أقلّ. أمّا الرّجال فهم محجوبون عن المطابخ والقدور والأماكن الحارّة، لأنّ حرارتهم طبيعيّة لا يحتاجون فيها إلى التنّور ولا إلى البخار والبخور. وتجدهم طوال أشهر السنة يتمتّع غالبيّتهم بسيادة القوامة بعيدا عن الفضاءات المغلقة، وفي شهر الصيام بالذّات يتقاسمون معه سيادة وصل نهارهم بالصيام وليلهم بالتقوى والمجاهدة والعبادة والاعتكاف عبورا إلى المعاني الكامنة والمجرّدة.
وفي المحصلة، ما يزال حجاب الذهنيّة الذكوريّة يقف فاصلا بين الرجال والنساء. وهو يتقوّى في شهر رمضان ويتعزّز ليغذّي عقليّة الاستغلال والاستعباد التي أودعت في عقولنا جميعنا جملة من الصور النمطيّة تعتبر فيها الطهو والمطبخ وكلّ الفضاءات الدّاخليّة من غرف وبيوت معاقل نسائيّة أمّا فعل الأكل وما سوى ذلك من استهلاك ونفع ومنفعة وريادة وزعامة وسيطرة كلّها من دور الرّجال وبحكم العادة أيضا.. وتمّ توارث هذه الأدوار حتّى بعد أن تشارك الجنسان رجلا وامرأة مقاعد الدراسة بجميع مستوياتها، وتقاسما وسائل النقل والشوارع في خطواتهم/ هنّ الحثيثة إلى مراكز أعمالهم/هن. إنّها ذهنّة نسجت حجابا فاصلا ومافتئ القوامون عليها يرمّمونها ويحافظون عليها ويرفعون لواء ذكوريّتها الانتهازيّة والاستعباديّة، وما انفكّوا يتصدّون لإنسانيّتنا التي تقتضي تشاركنا وتعاوننا في خطانا وطقوسنا ومقاصدنا، في بنائنا وحتّى في صراعنا ضدّ القوى التي تكرّس تأخّرنا وتتعمّد تجهيلنا.
ولا تتخيّلوا حينئذ أنّ الأمر بسيط وأنّه لا ضير في أن تواصل النساء في هذا النسق المقدّر لهنّ فالأمر أعقد من ذلك بكثير إنّه بناء نسيجي قاتل لحركة النساء، ويكفي أنّه قد بلغنا تمام شهر رمضان حتّى نرى النساء معظمهنّ منهكات متعبات لكثرة الأعباء المنزليّة التي تتراكم عليهنّ في شهر الصيام. وقد نورد ما يتناقله النساء على شبكات التواصل بعد الاحتفاء برمضان و"دبارات" كلّ نهار، وصور موائدهنّ الموشّات بأحلى الأكلات وأفانين المملّحات والحلويّات حتّى يأتي سجلّ " التعب" في فضاء المطبخ من تحضير وطهو وغسل للأواني، وهو تعب دوري مقيت قد لا يتمثّله الرجال ولكنّه تعب بكلّ المقاييس العلميّة والإنسانيّة في ظل غياب المساعدة والمشاركة من لدن الجنس الموقّر من الذكور سواء كانوا آباء أو أزواجا أو أبناء. ونحن في هذا الصّدد ما نزال نراهن على تغيير الذهنيّة التي حتّمت بحكم العرف والعادة أن يكون النساء جواري والرجال أسياد في زمن كلّ شيء فيه يتحرّك نحو الشراكة نحو التعاون نحو المشاركة، نحو المساواة..
وفي الختام، إننّا ما نزال نعتقد أنّ التربية على المشاركة هي الكفيلة بتغيير ما ينبغي أن يتغيّر. فأن يكون الإنسان أنثى ليس من دوره الثابت أن يتحمّل الأعباء المنزليّة كلّها على عاتقه ويظلّ رقّا لها، بل وفي أحايين كثيرة يتلذّذ هذا الرقّ وكأنّه قدر محتوم. ولا يسعني إلاّ أن أشكر كلّ رجل نزع عنه حجاب الذّكوريّة الانتهازيّة الذّي لم يمنعه حينما يتحاور مع شريكة حياته في الشؤون الاقتصاديّة أن تشاركه مالها، ولكن حينما تستدعيه أعباء المنزل من أن يدلو بدوله نجده لا يجد حرجا من الاستقالة ولا أستثني من داء هذه الذهنيّة كلّ الرّجال من جميع الاختصاصات من مثقّفين ومفكّرين، أطبّاء وأساتذة مهندسين وعمّال إلى العاطلين عن العمل ممّن ينتظرون من زوجاتهم العاملات في الحقول المجاورة أن يؤدن لقمة عيشهم وأجر مسكنهم... أدرك أنّ الأمر يحتاج إلى الكثير من الوقت ومهمّة التربية على الشراكة والمساواة ضروريّة حتّى يكون سيدي رمضان وكلّ سائر أيامنا بشهورها وفصولها خفيفة علينا ونتمتّع فيها جميعنا رجالا ونساء بالوقت الكافي والمتساوي للعمل والبحث والتهجّد والعبادة والكتابة والإبداع وأشياء أخرى مهمّة وضروريّة لكلينا جميعنا بلا استثناء.