المرأة في المدينة المباركة ---أرباب الحضارة ج10



سلطان الرفاعي
2006 / 8 / 8

نجد في الهيئة الاجتماعية المثقفة في الرها، كما نتوقع، موقفاً متفتحاً
تجاه المرأة. و تظهر النساء في أوضاع مهندمة في حلقة العائلة في صور الفسيفساء
و النقوش البارزة على الحجر في الأضرحة الكهفية، و العديد من النصوص التذكارية
مدونة للنساء. و ظاهر أن تماثيل النساء كانت شائعة. و كذلك فإن التمثالين
المستقلين اللذين بقيا في أورفة هما تمثالا امرأتين. و البرج الضريحي في بيرثا
على ضفة نهر الفرات من إقليم الرها كان من أجل (سيدة البيت) كما كان للمالك و
أولاده. و في حالتين اثنتين، علاوة على ذلك، جُهز ضريح قرب الرها لذكرى امرأة.
ومن الواضح أن أحدهما قدمه ابن لأخي المرأة المتوفاة. و يحمل الآخر نصاً
مطولاً لذكرى المرأة المرحومة، بينما هناك عبارة مقتضبة على الجانب لذكرى
الرجل الذي، إذا حكمنا من اسمه، قد يكون والد المرأة.

فالنساء إذن، تمتعن بالاحترام في الرها و حُزْن على مركز مبجل في
العائلة. و كان لعفتهن اعتبار كبير لدرجة أن أية امرأة رهاوية إذا ما اقترفت
الزنا لم يكن يحكم عليها بالموت و حسب بل إنه إذا ما وجهت إليها تهمة الزنا
فإنها كانت تنال عقاباً سريعاً. و لكن مع ذلك، علينا ألا نظن بأنهن كن مساويات
للرجال في نظر القانون. كان للنساء الحق في ما يملكن و لكن كانت تتبع الممارسة
الإغريقية الشرعية التي تطلبت منهن أن يمثلهن وصيّ في عملية رسمية. و إذا ما
تزوجت امرأة كان الوصي زوجها. و لذلك نرى في وثيقة سنة 243 م التي تبيع فيها
امرأة رهاوية جارية توقيع زوجها إلى جانب توقيعها. و إذا كنا نرى النساء في
حلقات العائلة في صور الفسيفساء و في المنحوتات البارزة في الأضرحة الكهفية
غير محجبات، هذا لا يعني أن الحجاب لم يكن مستعملاً في هذا الزمن، لأن هذه
الصور كانت تقتضي التعريف بتقاطيعهن. و نلاحظ أيضاً في هذه اللوحات أن زوجة
صاحب الضريح ( ما عدا في صورة فسيفساء واحدة هي حماة المتوفى ) تظهر على
يساره. و لاشك في أن الجانب الأيمن كان يعتبر أكثر منزلة و شرفاً. فكان يقف
هنا أولاد الميت، و هكذا نرى أيضاً في صورة (العائلة) الفسيفسائية تقف الابنة
مع أشقائها إلى يمين والدها، و لكنها تقف بعد إخوتها. و مما تجدر الإشارة إليه
أنه في الصورة الفسيفسائية المسماة ب (الركيزة الثلاثية) فقط و التي أقامتها
عائلة متواضعة نسبياً نرى النساء، زوجة و ابنة تحملان مغزلاً كتذكار
لواجباتهما البيتية. لعل باستطاعتنا الاستنتاج أنه كلما علت مكانة العائلة في
السلم الاجتماعي كان موقفها أكثر سخاء و تسامحاً تجاه المرأة.

الزي و اللباس:

إننا نحصل من الصورة الفسيفسائية، و من المنحوتات بنسبة أقل، على صورة واضحة
فريدة عن لباس المرأة في الرها في هذه الفترة من التاريخ.
و تعرض صورة ( العائلة ) الفسيفسائية غير المؤرخة أسرة من المواطنين الموسري
الحال. و فيها تلبس النساء البالغات حلة فضفاضة مزركشة زركشة كثيفة على طول
الأكمام، و على الصدر أيضاً إذا كانت المرأة والدة الأسرة، و فوق الحلة تلبس
رداء طويلاً مختلف اللون يُضم بدبوس فوق الكتف الأيسر. أما شعرهن فمجدول في
ضفائر، و في أقدامهن خف مدبب الرأس. و في الصورة الفسيفسائية للأسرة المحتشمة
المسماة (الأريكة الجنائزية) (المؤرخة سنة 278م ) نرى زوجة المتوفى جالسة على
كرسي ذي ذراعين و قدماها على كرسي واطئ صغير بجانب أريكة زوجها و لها زي مشابه
و لكنه أقل زخرفة، بينما حلة ابنتها هي أكثر بساطة. و هكذا أيضاً اللوحة
الفسيفسائية (الركيزة الثلاثية) التي وجدت في منطقة المقبرة الشمالية خارج
المدينة – اللوحتان الفسيفسائيتان الأخريان هما من منطقة المقبرة الجنوبية –
تظهر امرأة يافعة في زي بسيط و شعرها متساقط في خصل ملتوية طويلة، و الفتيات
الشابات في كل من صورة (العائلة) و صورة (الركيزة الثلاثية) الفسيفسائيتين لا
يلبسن رداءً. و حللهن الفضفاضة ممنطقة بحزام عريض. إن الأزياء بأكملها ملونة
تلويناً مبهجاً، و النساء يلبسن مجوهرات و أساور ذهبية و إبزيماً ذهبياً
لتثبيت الحلة الخارجية. و تظهر التماثيل النساء لابسات عقداً إما من خرز على
شكل أسنان أو قطع من الذهب.

إن أعظم ما يجلب الانتباه في النساء الرهاويات هو لباس رأسهن كما تصوره
اللوحات الفسيفسائية و التماثيل. ففي لوحة العائلة الفسيفسائية تلبس النساء
اليافعات قبعات عالية مستدقة قليلاً عند قمتها. و القبعات ذات أربعة صفوف
مختلفة الألوان، أو، الأكثر احتمالاً، لها عصابتان من القماش من ألوان أخرى
ملتفتان حول وسط القبعة، و فوق هذه القبعة وضع الرداء الخارجي لينسدل على
الجانبين كالخمار. و نفس لباس الرأس هذا يظهر في اللوحات الفسيفسائية الأخرى و
في التمثال الكامل في أورفا، و في الولائم الجنائزية من الصور النافرة على
الحجر في أورفا و قرة كوبرو. و مهما يكن فإن الأم في الأسرة الأقل ازدهاراً
في لوحة (الركيزة الثلاثية) الفسيفسائية نرى قبعتها أكثر اتساعاً و أقل علواً
و لها عُصابة واحدة فقط حولها. و في التمثال النصفي الذي وجد في أورفا نرى
لتمثال الابنة المصغّر نفس القبعة العالية في اللوحات الفسيفسائية. و لكن
والدتها شلمات،و ربما أكثر تماشياً مع الطراز السائد، لها قبعة أقل انخفاضاً و
بعصابة واحدة حولها و مكسوة بوشاح و عليها حلية بروش من الأمام. ففي سنة 1844
رسم المستر بادجر الارسالي رسماً لامرأة بقبعة شبيهة بقبعة شلمات و لكنها
مصنوعة من صفيحة فضة- و هي بالمناسبة تلبس أيضاً قلادة من الخرز على شكل
الأسنان المستعملة في صور الفسيفساء و التماثيل العائدة إلى القرن الثالث في
الرها.

أما الفتيات فقد كن يلبسن لباساً للرأس أقل إتقاناً ممن يكبرهن. ففي
اللوحة الفسيفسائية (الأريكة الجنائزية) هناك فتاة لا قبعة لها و لكن رداءها
ملتف ببساطة حول رأسها. و في لوحة الركيزة الثلاثية هناك فتاة أخرى لها قبعة
فريجية كأخيها، و في اللوحة الفسيفسائية للعائلة السائرة على الطراز السائد
هناك حفيدة واقفة في الخلفية لها ثلاثة أمشاط مستديرة في شعرها. و هذا طراز
يظهر أيضاً في لوحة رهاوية أخرى و لكنها تلفت الآن.

منزلة المرأة في المدينة المباركة

كنا قد ألمحنا بإيجاز إلى منزلة المرأة في الرها تحت حكم الملوك في فصل
سابق، و من الواضح أنه حدث تغيير طفيف في هذا الخصوص في الفترة التي تلت
الملكية. كانت المرأة خاضعة للقوانين السارية في المناطق الأخرى من
الإمبراطورية البيزنطية. فالفتيات اليتيمات كن تحت رعاية وصيّ يكون عادة شقيق
والدهن المتوفّى حتى يبلغن الثانية عشرة. و كنّ يصلن سن البلوغ في الخامسة
عشرة. و كان بالإمكان أن تخطب الفتاة في سن العاشرة، في القرى على الأقل، و
لكنها كانت تصان بكل عناية من الغرباء حتى يوم خطوبتها. و كانت الخطوبة تتميز
بعقد كتابي على مقدار البائنة. و نعلم من نصوص قوانين القرن الرابع و مستهل
القرن الخامس أنه كثيراً ما كان يستعاض عن هذا باحتفال شعبي تتوج فيه العروس و
تتلى الأناشيد تعظيماً للبكارة و تقوم النساء المهللات بخفر العروس من بيت
والديها.
كانت النساء بعد الزواج ينشغلن بواجبات البيت و من ضمنها الحياكة، أما
الرجل من ناحية أخرى فقد كان يتزوج (من أجل سلامة البيت) و لقد قررت نصوص
الشرائع المحلية أن باستطاعة الرجل أن يطلق زوجته بسبب الزنا أو بسبب ذهابها
إلى بيت ليس بيتها دون رضى زوجها. و كذلك إذا ذهبت إلى المسرح لتشاهد مناظر
غير محتشمة. و الزوجة أيضاً كان باستطاعتها أن تطلق زوجها إذا شهد معها شاهدان
أو ثلاثة بأن الزوج سرق أو استعمل السحر أو أنه أشهر عليها سلاحاً حديدياً، أو
إذا أتى بإحدى المومسات إلى بيتها. و كانت الزوجة تحل من واجباتها الزوجية إذا
هجرها زوجها دون أن يقدم لها أودها مدة سبع سنوات –(أو عشر سنين إذا كان
سجيناً)، أو أنه قدم لها أودها و لكنه هجرها مدة خمس عشرة سنة. و كانت البنات
يرثن كالبنين إذا مات الأب دون أن يكتب وصيته. و إذا كن جميعهن بنات يكن عندئذ
الوارثات الوحيدات. و من المفروض أن ترث كل ابنة ثلاثة من اثني عشر جزءاً من
التركة، و عندما لا يكون هناك ذرية أو زوجة لرجل مات دون أن يكتب وصيته، تكون
الأولوية للذكور قبل الإناث من الوراثة.
كانت النساء يخرجن محجبات – و خروج المرأة دون حجاب يجعلها تبدو ( و كأنها
امرأة مجنونة)، ففي سنة 359 اتصلت زوجة رجل مرموق من نصيبين بملك الفرس(و هي
محجبة حتى شفتيها بحجاب أسود). و لم تكن يوفيميا الآمدية في القرن السادس
تعتني بالمرضى و المقعدين (إلا إذا كان رأسها مكسواً). أما عن المرأة التي
كانت تشتغل بأجر فهناك حكاية المرأة الفقيرة في منطقة آمد التي كانت تعلم
الرسم للنساء الأخريات فبرعت اثنتان من تلميذاتها في هذا الفن على يدها و
لكنهما رفضتا أن تدفعا لها نقوداً عن دروسهما. فالتجأت المرأة إلى رجل تقي
فضربهما بمرض و لم يشفهما إلا بعد أن دفعتا ما عليهما من دين.
لقد تكلف الرهبان في إظهار الاحتقار للمرأة. و بإمكاننا أن نلاحظ نغمة
القديس أفرام في تعليقه على الحادث الذي وقع معه، بموجب ما كتب عنه كاتب سيرة
حياته، عندما وصل مدينة الرها لأول مرة رأى النساء و هن يغسلن الثياب على شاطئ
نهر ديصان فنظرت إليه إحداهن نظرة طويلة فوبخها مار أفرام على وقاحتها.
و لكنها أجابته.... (عليك أن تنظر إلى الأرض لأنك أخذت منها و علي أن أنظر
إليك لأنني أخذت منك) فدهش لهذا الجواب و اعترف بحكمة المرأة... و قال( إذا
كانت نساء المدينة بهذه الدرجة من الحكمة، فكم يكون رجالها، بل و حتى أبناؤها،
أعقل و أكثر حكمة).
و لكن المجاهد الكبير شمعون الأرشمي لم يعتبر الأمر غير لائق بأن يطلب من
الإمبراطورة تيودورا أن تتدخل لصالح أبناء كنيسته بالكتابة إلى ملكة فارس! و
لقد أعطت المسيحية المرأة، و الحق يقال، درجة من الثقة و تحقيق الذات، فكانت
ابنة الشهيد شمونا بين الذين خرجوا ليندبوا عليه، و اشتكت النساء مع الرجال
بالاحتفال في دفنه. و هكذا أيضاً حضر الذين يعطفون على الشهيد حبيب من النساء
و الرجال يوم تنفيذ الإعدام فيه. و كان المطران رابولا قد تأثر تأثراً عظيماً
بأمه المسيحية. و كذلك مارا الذي كان حاكماً و وكيلاً للخرج و بعد ذلك أسقفاً
لآمد كان قد تثقف على أيدي أختيه غير المتزوجتين. أما أفرام الآمدي، البطريرك
الأنطاكي البارع، فقد مال إلى عقيدة الملكيين بسبب تأثير الكتب التي تخص
والدته. و كان المونوفيسيون الرهاويون الذين قاموا بحماة ضد مطرانهم هيبا في
سنة 449 راغبين في السماح للنساء بأن يُعدوا من ضمنهم.
إن النساء الثريات اللواتي كن من أصل نبيل تأثرن قليلاً بصنعة المرأة في
الشرائع المحلية. فكانت أخت ملك الحيرة شهيرة في سخائها و سعة حلمها في
رعايتها للنساطرة. و كان هذا الملك نفسه قد شجعته كلمات زوجته الجريئة ليواجه
عداء ملك الفرس بقولها (من الأفضل أن تموت و أنت حامل اسم ملك). و كانت جدة
يوحنا بن باسيل، النبيل الرهاوي، باستطاعتها الاستغناء عن ألفي رطل من الفضة.
و كانت زوجة ايوانيس روسبايه السيدة الأنوف، سيدة على أعمالها في قصرها. و
عندما استضاف ايوانيس الملك خسرو الثاني، كما رأينا سابقاً، و أقام له وليمة
سخية في قصره في الرها، نادى الملك مضيفه قائلاً:
" لقد شرفتمونا شرفاً عظيماً، و لكن هناك عادة في فارس تقضي بأنه عندما
يتنازل الملك و يدخل بيت أحد الأمراء يجب على زوجة الأمير أن تتقدم و تملأ
كأساً فيشربه الملك من يدها..... فإذا كنت ترغب في أن تكمل الشرف الذي شرفتني
به فأكمله بهذه الطريقة....." و عندما سمع ايوانيس هذا اضطرب جداً و لم يشأ أن
يجيب خسرو أو أن يمس مشاعره، فترك الأمر لزوجته لتبت فيه لأنه كان يثق
بحكمتها. فأرسل كلمة مع فتاة تعلمها بما قال خسرو... فاحتقرت الزوجة خسرو في
فكرها، و لكنها أجابته : " أنت عظيم في أعيننا أيها الملك، و لكن العادة
السائدة و السارية بين البيزنطيين لا تسمح لامرأة نبيلة بتقديم الخمر لرجل". و
لزم خسر الصمت عندما سمع هذا.
و بعد انتهاء الوليمة ... اغتيبت زوجة روسبايه أمام خسرو و افتري عليها، و
زعم بأنها قالت: " كيف لي أن أخرج و أقابل هذا الجلف الذي طرد من بلده؟" ...
فأقسم خسرو عندئذ بآلهته " أنني إذا ما استرجعت حكمي على هذا البلد لن أترك
هذه المرأة في سلام لهذه الإهانة التي وصمتني بها، و سأجعلها غريبة عن بلدها و
سأجعل لحمها طعاماً للقمل". و هكذا عندما استرجع حكمه على الرها ألقى القبض
عليها و أرسلها إلى فارس مع ابنها سرجيوس الذي كان الوارث الوحيد الباقي لآل
روسبايه. و ألقى بالمرأة في غياهب السجن و أمر بمنع الماء عنها كي لا تستحم و
لا تغسل ثيابها أو تبدلها، و تعطى الماء و الخبز كفافاً لتبقى على قيد الحياة
فقط. و هكذا عذبت هذه المرأة النبيلة المحترمة بأن نهش القمل جسدها و ماتت
بقسوة."

مركز الشرق للدراسات الليبرالية وحقوق الأقليات
حضارتي السريانية
عن كتاب: الرها المدينة المباركة
تأليف: ج.ب. سيغال
ترجمة: يوسف إبراهيم جبرا