عرىّ الجسد.. بين النظرة الجمالية والشهوانية



أحمد هيكل
2021 / 6 / 20

من القضايا التى شغلت الفكر الإنسانىّ فى عصرنا : قضية تعرى الجسد، وهل الجسد العارى هو محل الشهوة وسبب الهوس الدائم؟ وهل هناك ارتباط عضوى بين الجسد والنهم الجنسى؟
لم تكن البشرية تعرف هذا الربط إلا عندما بدأت تظهر النظم الاجتماعية وتتحدد أدوار الرجل والمرأة، ووظيفة كل منهما، فالعرىّ هو الحالة الأولى الطبيعية التى كانت عليها الإنسانية فى البدء قبل اكتشاف الحضارة، ثم بدأ الإنسان يغطى جسده بالملابس كى تحميه من البرد وظروف الطبيعة القاسية، وفيما بعدُ اكتشف الإنسان أن الملابس تخلق حالة من الخيال الجنسىّ وتضفى مزيدًا من الإثارة على الجسد !! فعندما تخفى جزءًا من الجسد، فإن هذا يدعو للتطلع إلى ما وراء هذا الجزء المخفىّ، فهو خلق لجوّ من الإثارة والغموض حول الجسد. وظهور الملابس كان مصاحبا لتلك الرغبة فى إحاطة الجسد بهذا الهوس وتلك الإثارة، فقد وجد الإنسان أن الجسد المكشوف لا يمنحه الإثارة كما لو كان مُغطَّى أو جزء منه مغطى, إذ تخلق تغطيته عالما من الشهوة المستمرة المستعرة يستدعيه في خياله وتفكيره. وقد استقرَّ هذا الاعتقاد عند معظم الشعوب والحضارات، حيث لعبت الأديان دورا مهما فى ترسيخ هذا الجانب بحرصها على الحجب. وكلما كانت المعتقدات الدينية شديدة فى تعنتها مع الجسد، محاولة أن تحجب أكثر جزء فيه، فهي تكون بالضرورة خالقة لجوٍّ من الهوس الجنسِىّ الدائم، مولدة فى أذهان تابعيها حالة من الشبق الجنسي المستعر.
إن قضية الجسد العارى هى ارتداد لحالة الإنسانية الأولى بدون رتوش ولا إضافات, وبدون أن تتحول المرأة إلى سلعة يراد لها أن تباع , وبدون تدخل من القوادين الذين يتفننون في جعل كتلة من اللحم والعظام سلعة معروضة فى سوق النخاسة. وأصحاب الحجب التام هم أكثر البشر انغماسا فى الهم الجنسي وإن اعتقدوا عكس ذلك, فأجسادنا عندما تتعرى سيفقد الجسد حينها تابوهاته وألغازه وأوهامه والأحلام والخيالات المنسوجة حوله, وسيفقد القوادون والنخاسون والمتاجرون بأجساد النساء أعمالهم الدنيئة .
وهنا يقفز إلى السطح سؤال: فهل سنفتقد الشهوة والرغبة فى الجنس عندما نكون عراة؟ أرى أن الجنس سيتحول إلى احتياج طبيعي يمارسه الإنسان وَفقا لحاجاته الطبيعية، وستتحول الشهوة إلى درجة عالية من الرقىِّ الإنسانيّ، حيث ستكون الشهوة فى عيوننا وكلامِنا الهامس وحبِّنا للآخر، ولن تتمثل الشهوة كما هى حاليا فى قمصان نوم مثيرة تغطى أجزاء وتكشف أجزاء بخطوط وألوان تلهب خيالنا المستعر الراغب فى رؤية أجزاء مكوَّرة ومدوَّرة تمنحنا هذا الشبق والهوس الجنسي. وفي حالة عالم عارٍ متجرد من الثياب، لن يتم ممارسة الجنس إلا تحت وطأة احتياج طبيعي شأنه شأن تناول الطعام, ولكن مع عالم مكسوٍّ بالثياب سيشكل الجنس حالة من الهوس والجنون تشغل كل تفكيرك حتى تمنحك شعورًا باللذة الرابضة خلف أسوار الفضول والطقوس.
وبالنظر إلى واقع الفن فى عصرنا الحديث، نرى أنَّ هذه الرؤية قد انعكست على بعض الاتجاهات الفنية التى سلطت الضوء على مواطن الجمال فى الجسد الإنسانى، حيث يذهب كثير من رُوَّاد الفن التشكيلى فى عصرنا إلى تمجيد عرىّ الجسد، ويرون أن تصوير الجسد عاريًا هو من الإبداعات الفنية الرَّاقية التى تبيِّن إبداع الخلق الإلهى، وسار على هذا النهج فنانون غربيون كثيرون.
وقد كان من نتائج هذا الاتجاه الفنى إثارة التساؤل حول ما إذا كانت جمالية الجسد العارى تنحصر فقط على إبرازه ضمن عمل فنى أم أن الجسد ذاته بمعزل عن العمل الفنى يعدُّ جماليًّا أيضاً ؟ بمعنى آخر: هل جمالية الجسد عندئذ تقف عند حد الرؤية الفنية الإبداعية أم تنسحب على الجسد ذاته ؟
وفى الحقيقة، يعتبر الجسد في حد ذاته لوحة فنية، إن في الحقيقة والواقع أو في التصوير الفنى؛ فالعمل الفنى العارى ما هو إلا صورة تنطبع في خيال ووجدان الرسام لجمالية الجسد الحقيقى المرئىّ، ولولا جمال المصدر الذى أخذ منه الفنان عمله واستقى منه فنه لما أبدع لنا لوحاته العارية وتماثيله المجردة. الجسد ذاته يحمل مواصفات فنية وجمالية، وما عمل الفنان إلا إظهار ملامح هذا الفن والجمال. صحيح أن بعض الفنانين قد يضفون على أعمالهم الفنية كثيرًا من الرتوش والزيادات من أجل إظهار الجسد في صورة بديعة، لكن تظل حقيقة أن الجسد ذاته يستقل بجماليته وإبداعه. وهذا رد على أولئك الذين يعدون ظهور الجسد عاريا في غير العمل الفنى مدعاة للشهوة وإثارة للجنس ويجردونه من أى جمالية أو إبداع فنى، لأنهم قصروا جماليته -جمالية الجسد- على فنيته واستخدامه ضمن إطار أو قالب فنى. فالجسد لا يحتاج إلى الفن من أجل ألا ننزع عنه جماليته؛ هو لوحة فنية كاملة قائمة بذاتها!
ومن الناحية العملية، لن تتغير على الأرجح نظرة عموم البشر إلى الجسد، لأن أغلب البشر ليست لديهم نظرات فنية ولم يوهبوا مواهب أدبية تمكنهم من اكتشاف الجمال الكامن فى المخلوقات، هذا الجمال المنزه عن الشهوة البريء من الإغواء، بل هم ماديون، يأخذون بظاهر الأشياء، ولا يميلون إلى التعمق فى حقيقتها، ولا يرمون إلى المقصد من الفكرة أىِّ فكرة، وهذا ما يجعلهم ينظرون هذه النظرة التى تختزل المرأة فى جسد مُدنَّس بالشهوة. وستظل هذه الشهوانية قائمة وحاضرة فى وعى الأمم والشعوب طالما بقيت الحضارة المادية القائمة على تسليع كل شىء، وطالما ظلَّت الذهنية العامة مكبلة بمفاهيم وأفكار تنتمى إلى حقب وعصور سابقة، كان الاعتقاد السائد فيها أن المرأة ما خلقت إلا للمتعة والإنجاب!