نزيهة محي الدين: النسوية المقصية



صفوان قسام
2021 / 6 / 22

في كتابها "ثورة بلا امرأة" تعالج الكاتبة والباحثة التركية "يبرك زهنأوغلو" قصة رائدة نسوية وسباقة في الصراع لأجل المرأة وحقوقها، وكيف انتهى بها المطاف مهمشة ومقصية ومعاقبة بجريمة “الحلم الثوري!” حلم بدولة تنصف المرأة وتساويها بالرجل، وكيف أرادت أن تكون ثائرة مع الثوار فترة الانتقال والتأسيس الجمهوري في تركيا؛ وتفضح "زهنأوغلو" وتعري القوى التي كانت فترة الانقلاب الأتاتوركي وراء تصفية هذه الرائدة سياسيا وفكريا، وإقصائها اجتماعيا، لأنها كانت خارج المجموعة الثورية، وعارضت ممارساتهم وقوانينهم، وشكلت خطرا عليهم بخروج الثوة عن أيديهم وهم من أراد احتكارها وقيادة مسألة المرأة في الجمهورية الجديدة وفق رؤيتهم لها، وكيف تم تولية هذا الموضوع إلى نسوية أخرى، ونسب الفضل كله لها.
ولدت "نزيهة محي الدين" في اسطنبول عام 1889، وتم تعيينها كمفتشة في المدارس بعمر العشرين عاما، رغم من أنها لم تكن ذات تعليم عال. تزوجت مرتين ولذلك تم نشر مقالاتها في الصحف والمجلات بأسماء وألقاب مختلفة لأن المرأة تنسب إلى كنية زوجها عند الزواج في تركيا؛ ولديها عشرون رواية والعديد من المقالات. بعد أن بدأ حياتها المهنية، قامت بأنشطة من أجل حقوق المرأة، ولكن بعد عام 1930 واجهت ضغوطا لإبعادها عن السياسة؛ وقام الكماليون بإخفاء العديد من الروايات والمقالات التي ألفتها بسبب العداء لشخصيتها السياسية. ورغم أنها كانت تحيا حياة مزدحمة بالمعارك والمعارف، إلا أنها توفيت وحيدة في اسطنبول عام 1958 ولم يحضر جنازتها أحد من مجموعتها السياسية.
أرادت حكومة كمال أتاتورك أن تحتكر التحدث باسم "المرأة"، وضبط حدود حقوق المرأة على أساس الجنس، وأن يكون دورها منوطا بشكل أساسي "بالأمومة" ضمن الحدود الأبوية، وإسناد المكاسب في مجال حقوق المرأة للنظام الثوري وتحديدا لزوجة كمال أتاتورك. لكن نزيهة محي الدين، أرادت أن تكون المجموعة التي أسستها والتي أسمتها "امرأة" الوكلاء الاجتماعيين للنظام النسوي الجديد، حيث أعلن السياسيون الكماليون والكتاب الجمهوريون بصوت واحد أنهم لم يجدوا أفعال وأفكار نزيهة وحركتها "جادة" وحاولوا تجاهل نضالات النساء في تأسيس الجمهورية، وتم استبعاد الناشطات. بينما زعمت مجموعة من الرواد الجمهوريين أن المجتمع "غير جاهز" للثورة النسائية، وكانوا يعبرون عن ترددهم بأن يكونوا هم أنفسهم كذكور مستعدون لمثل هذا التحول! تم قمع نضال نزيهة محي الدين ومجموعتها بأساليب سلطوية، من أجل جعل المجتمع والعالم بأسره يقبل الادعاء بأن إصلاحات التحديث لم تتم نتيجة لنضال المرأة، ولكن نتيجة سياسات الإدارة الجمهورية.
كانت محي الدين ترى أن أهم شرط لحياة سعيدة في البلاد ولحدوث التحولات الكبرى هو نهوض المرأة؛ ونهوضها يعني التحسن في أوضاعها، وليس تشابهها مع الرجل أو اختفاء الاختلافات بينهما. وقد طورت الفكرة السائدة التي تقول أن واجب المرأة هو الأمومة والرعية، حيث تعتبر أن النساء اللواتي يربين الرجال المثقفين في المجتمع يجب أن يكن متعلمات أيضا. كما دعت المرأة إلى المشاركة في المجال العام دون إنكار واجبات الأمومة. وكانت كتاباتها ومنشوراتها العامة لا تحتوي على كلمة "نسوية" تجنبا لأي صدام مع المجتمع والسياسيين. وترى أن الأفكار الإبداعية لا ينبغي أن تؤدي إلى الفجور؛ فكانت في نفس الوقت الذي تحارب فيه العوامل المجحفة بحق المرأة في الثقافة التقليدية، تدافع عن العناصر الأخلاقية للثقافة التقليدية باعتبارها الهوية التي تميزهم عن الغرب.
اعتبرت أن القروية عاملة اقتصادية هامة لأنها تشارك في أعمال مساوية لأعمال الرجل، وهذا ما يختلف عن المرأة في المدينة؛ حيث أن المرأة الحضرية غير فاعلة اقتصاديا، بل تعتمد على الرجل، وتهتم بالموضة وتنقل ثروة البلد إلى الأسواق الخارجية. وبذلت محي الدين جهدا من أجل دفع المرأة الحضرية إلى المشاركة في الحياة العملية وانتقدت إدمانها على الموضة. وعملت على قضية المساواة بين دخل وعمل الرجل والمرأة، والمساواة في الأخلاق أيضا؛ فالنساء ما زلن غير قادرات على أن يكن منتجات، ولذلك يلجأن إلى الدعارة؛ حتى أنها طالبت بأن تعمل المرأة كشرطية.
هاجمت الدستور الذي أنكر على المرأة حقها السياسي، وقالت أنه لا يمكن تغيير الدستور إلا إذا حاولنا ذلك، ولا يمكن أن تكون هناك "ثورة بدون امرأة"؛ هذه الجملة التي تعني أن الثورة الأتاتوركية لم تنصف المرأة، أصبحت عنوان الكتاب الذي نتناوله هنا. وقد اعتبرت محي الدين معارضة للنظام الأتاتوركي منذ اليوم الأول لأنها باشرت بتنفيذ نشاطاتها السياسية والفكرية دون إذن حكومي! أما بالنسبة لمصطفى كمال أتاتورك، فكونك معارضا له يعني أنك تسعى إلى تقسيم واغتصاب الوطن. وعندما قام الكتاب الكماليون بتعريف المرأة التركية، ووضعوا لها حدودها السياسية والاجتماعية والأخلاقية، عارضتهم نزيهة محي الدين وعبرت عن رد فعلها على هذه القضية؛ بل عندما قال أتاتورك أن المرأة التركية يجب أن تكون: "مستنيرة، وفاضلة، ورزينة وفخورة"؛ ردت محي الدين أنه: "يجب ألا يعتبر النساء أطفالا فاقدات للوعي، ولا ينبغي أن تكون النساء متفرجات على هذا الوضع بعد الآن".
سعت محي الدين إلى تأسيس "حزب النساء الشعبي" للمطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسة للمرأة التركية عام 1923، لكن لم تسمح الحكومة للنساء "اللواتي لم يكتسبن بعد الحقوق السياسية" أن يقمن بتأسيس حزب! لذا قامت بتأسيس الاتحاد النسائي الشعبي 1924 وأسمت هذا الاتحاد "جمعية المرأة"، وترأسته بانتخابات داخلية. وعلى الرغم من أن الحكومة لم تسمح ببرنامج هذا الاتحاد أيضا، إلا أن نزيهة محي الدين ومجموعتها لم يتخلوا عن مطالبهم بالحقوق السياسية والاجتماعية؛ وأجروا بعض التغييرات في اللائحة الداخلية من أجل إعادة التجربة مرة أخرى، وطالبوا بتعديلات دستورية للسماح للمراة بممارسة السياسة. بل أنهم ذهبوا أبعد من ذلك حينما تحركت مجموعة محي الدين من أجل الحقوق السياسية مطلع 1925 حيث ترشحت محي الدين إلى منصب نائب عن مدينة استنبول، ودخلت في صراع مع الحكومة الكمالية، ومنافسة مع زوجة كمال نفسه. كما قامت من تلقاء نفسها، بواجب الإعلام عن الأنوثة والنسوية باسم الجمهورية الجديدة؛ ورغم أنه لم يتم منح الترخيص لمجلتها التي أنشأتها، تواصلت مع الحركة النسائية العالمية وقامت بنشر معلومات مفصلة عن حالة حقوق المرأة والحركات النسائية في البلدان الأخرى.
بسبب تصرفات نزيهة محي الدين غير القانونية، ووجود مزاعم بفسادها، بناء على تقارير مالية أفادت بأنها تنفق بشكل غير منتظم وتعسفي، وتعتبر نفسها مخولة في جميع الأمور؛ وبسبب مطالبتها بالسلام وموقفها من الثورة التي قامت عام 1925، ومطالبتها بإطلاق سراح الصحفيين وحرية الصحافة.. وبسبب استمرار الشكاوى حتى نهاية صيف عام 1927، تم التوصل من قبل أعضاء "جمعية امرأة" إلى أن ازاحة محي الدين عن رئاسة الجمعية سيكون أفضل لمستقبل الاتحاد. ومنه قررت المجموعة بالاجماع استدعاء الشرطة في 10 أيلول 1927، وتم طرد محي الدين من المجموعة التي أسستها في عام 1927 وتعليق المجلة واصداراتها. ثم قامت الحكومة بإخفاء معظم كتاباتها؛ واقصائها سياسيا واجتماعيا وفكريا. وللمفارقة، بعد أن أقصيت نزيهة عن الرئاسة اتجهت الجمعية للعمل الخيري بهيمنة من الأتاتوركيين، إلى أن انحلت مطلع الثلاثينيات.
كان كتاب نزيهة محي الدين "المرأة التركية"، الذي كتبته بين عامي 1930-1931، عملا هاما للغاية في تأريخ المرأة التركية، وبهذا الكتاب أنهت حياتها السياسية.