علامات انسداد الأفق



امال قرامي
2021 / 6 / 29


غابت الخطابات المؤسسة للحوار المجتمعيّ والفكريّ البنّاء وتوارت الخطابات الاستشرافية التي تنمّ عن وعي بالسياقات المتحوّلة، وقُدرة على تسيير مختلف المؤسسات والهياكل وإدراك حقيقيّ لعمليّة صياغة السياسات في مقابل ظهور خطابات التفاهة والشعبوية والفوضى والتشويش الاصطلاحي ومأسسة الجهل.
وعندما يغيب السياسيّ المحنّك والمتوقّد الذهن والزعيم وصاحب الشخصية الكارزماتية القادر على التفاعل مع متطلبّات الواقع بجديّة ودراية وخبرة يهيمن الخطاب القانوني وكأنّه لا إمكانية لفهم الإشكالات التي يتخبّط فيها التونسيون إلاّ من زاوية القواعد والأسس النظريّة القانونية والتجارب المقارنية فقط وكأنّ دراسة البنى الذهنيّة لمن يملكون التصرّف في القانون وتوظيفه لا أهميّة لها. وهنا يُثار سؤال حول الأسباب التي أدّت إلى مركزيّة الطرح القانونيّ في تونس بالرغم من وجود سياق عالميّ انفتحت فيه العلوم السياسية والقانونية على علوم أخرى ومقاربات جديدة (أنتربولوجيا القانون وعلم الاجتماع السياسي والأنتربولوجيا السياسية، وعلم النفس السياسي والمقاربة الثقافية للقانون، ...) أثبتت مدى أهميّة توسيع دائرة النظر والتفاعل بين مختلف المقاربات.
أمّا واقع الكتل المشكّلة للمعارضة فإنّه لا ينبئ بخير، ولعلّ الأمر مرتبط بانحسار الفعل السياسي عموما ذلك أنّ العلاقة عضوية بين الأحزاب الحاكمة والأحزاب المعارضة، فمتى كان أداء الحزب الحاكم رديئا انعكس ذلك على المشهد السياسيّ برمّته ... إنّ «المعارضة» تعيش اليوم، حالة من التشذرم والخمول باستثناء المعارضة التي يمثّلها الحزب الدستوري الذي قطع مع الممارسات القديمة وأسس طقوسا جديدة وحقّق أداء مختلفا ونجح في تجييش الجموع الغاضبة من الوضع، والجموع الناقمة على النهضة باعتبارها المتسبّبة في حالة السقوط. ولكن هل تتأسّس المعارضة على تجييش العواطف وتحريك الأهواء ضدّ الأعداء فقط؟
ونذهب إلى أنّه ما كان للحكومة أن تنزاح عن المسار الديمقراطي فتعبث بالقوانين وتتلاعب بها، وتمارس التمييز بين التونسيين، وتتساهل مع لوبيات الفساد، وتتولّى أجهزتها ومؤسساتها قمع فئات من الناس لولا ضعف أحزاب المعارضة أو اضمحلالها وهنا نتساءل: ما هي أسباب ضمور الأحزاب المعارضة ؟ ولم أضحى الحزب الدستوري الممثّل الأوّل للمعارضة في مجلس الشعب؟ ولم عزّ تشكيل كتلة معارضة جديدة خارج البرلمان بفاعلين جدد يلتقون حول برنامج تحديث آليات العمل والتصوّرات وأشكال التنظّم والفعل في الواقع من أجل تغييره؟ ثمّ أليس من الضروريّ اليوم، إعادة النظر في مفهوم الحزب المعارض، ومفهوم المعارضة وتموقعها..؟
وفي ظلّ عدم توحيد الصفوف وتفكّك نسيج المجتمع المدنيّ وعسر ولادة القوى الجديدة، أي الفراغ تطلّ المنظومة القديمة بممارساتها وخطاباتها وآليات اشتغالها لتتجذّر في تربة لم تستطع أن تستوعب الجديد ولسان حالها إنّ الرجوع إلى المنظومة القديمة «فضيلة».
وفي سياق أزمة «كورونا» تتأرجح حكومتنا الحالية بين سياسات ردعية وزجرية تستهدف من لا سند له، ومن لا ولاء له، ومن لا انتماء طبقي تفاضليّ له، ... فتكون بذلك مستأسدة بسلطة البوليس والقضاء ومستقويّة بأهل الأعمال والإعلام و...وبين سياسات ليّنة قائمة على غضّ الطرف والتساهل والبحث عن المخارج والحيل وتبرير الإفلات من العقاب والتعنّت في الدفاع عن أصحاب الامتيازات، وعلى هذا الأساس تكون حكومة «الشدّة واللين» وفي منزلة «بَينِية» ولذلك تفقد مصداقيتها وتصبح قراراتها غير مجدية. ولعلّ عدم خضوع أغلبهم للاجراءات الصحيّة معبّر عن ردّ فعل على حكومة «مشيشيّة» تمييزيّة بامتياز، لا تؤمن بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين التونسيين في القانون وأمامه، ولا تبالي بالروح التي حكمت دستور 2014 ولا بمطالب الراغبين في التغيير.
وعندما يصل الأمر إلى التنكّر لحقّ المواطن/ة في الصحّة، وتنتهك حرمة جسده وكرامته وإنسانيّته، وترتجل السياسات وتصدر القرارات وفق ضغوط أرباب المال والسياسة لا وفق المصلحة العامّة فلا تستغرب ما يحصل من عمليات فرز بين المصابين/ات والجثث فمن له المال يحظى بالرعاية والعلاج وبالقبر اللائق وليذهب الآخرون إلى الجحيم.