الصداقة بين الرجل والمرأة .. هل هي حقيقية؟



رسلان جادالله عامر
2021 / 6 / 30

في بداية الحديث في هذه المسألة، لا بد من التنويه إلى أن مناقشتها مهمة لأن هذه المسألة بحد ذاتها هي جانب من جوانب العلاقة بين الجنسين، الذي يجب إيلاؤه الاهتمام الصحيح ومراجعته في ضوء ما وصل إليه العالم الحديث من تطور، كما أنها مهمة أيضا لأنها باتت سؤالا واقعيا في الواقع العربي الراهن الذي حقق قدرا من الانفتاح والتحرر- رغم أنه مايزال كبير البعد عن المطلوب- وأصبح الاختلاط فيه أمرا واقعا، وأصبحت فكرة الصداقة بين الجنسين نفسها مطروحة وممكنة القبول، وصارت مثل هذه العلاقة تحدث.
فهل هذه العلاقة صداقة حقيقية أم وهمية أم مصطنعة؟

من وجهة نظر الذهنية التقليدية المنغلقة.. الجواب بالنفي عن هذا السؤال هو أمر محسوم، وبرأيها هذه الصداقة -المرفوضة- إما واهمة أو كاذبة، وهي دوما إما مبطنة بالجنس أو مهددة بالجنس.
فهذه الذهنية وثقافتها وكل من يحملها أو ينتمي إليها لا يمكنهم أن يروا العلاقة بين الرجل والمرأة إلا كعلاقة بين ذكر وأنثى، وبالتالي فهي لا يمكنها إلا أن تكون "علاقة جنس"، ومصطلح "جنس" (Sex) هنا يحمل المدلول الشائع الذي يدل فيه على العلاقة بين الرجل والمرأة كقطبين جنسيين متقابلين تتولد بينهما دوافع مختلفة ترتبط بهذه القطبية، وتولد بدورها نشاطات لها نفس هذه الطبيعة القطبية، وبالتالي فحيث هناك رجل وامرأة، تعمل الذكورة والأنوثة عملهما وتتولد الجاذبية الجنسية والحب الجنسي والرغبة الجنسية وسواها من النشاطات التي يحركها الجنس نحو الجنس الآخر ويستجيب لها قادمة من الجنس الآخر.

كل ذلك صحيح تماما، ولا يمكن إنكاره، فكما توجد الرؤية البصرية حيث يكون ثمة ضوء وعين سليمة، يكون هناك إمكانية لنشاط جنسي حيث يكون ثمة جنوسة وأشخاص أصحاء جنسيا.
مع ذلك فكل هذا لا ينفي إمكانية أن تقوم صداقة بين الرجل والمرأة، صداقة تختلف عن النشاطات والتعالقات المرتبطة بالرغبة أو العاطفة الجنسيتين أو أي محرك جنسي آخر.
فإذا ما نظرنا إلى الصداقة بين رجلين، أو الصداقة بين امرأتين، فسنجد أن الدوافع الجنسية هنا ليس لها أي حضور أو فعل في هذه الصداقات، فالرجل لا يصادق رجلا آخرا لأنه فيها لا ينجذب كذكر إلى الآخر كذكر، ولا المرأة تصادق الأخرى لأن جاذبية أنثوية متبادلة تقوم بينهما أو تدفعهما إلى ذلك.
مثل هذه الدوافع والجاذبيات الجنسية لا يكون لها أي محل أو أي فعل في هذه الصداقات اللاجنسية ضمن نفس الجنس، وهي لا توجد عند الأشخاص العاديين من الرجال والنساء.
وهكذا يمكننا القول أن الصداقة بين رجلين أو الصداقة بين امرأتين تقومان على عوامل إنسانية فقط، فالطبيعة الإنسانية والمشترك الإنساني هما من يجعل هذه الصداقات ممكنة، فالرجل ليس ذكرا وحسب، ولكنه إنسان متكامل، ولذا فهو يصادق رجلا آخرا، ويصادقه لأنه إنسان وعلى أسس إنسانية، وبنفس الشكل تتصادق النساء في ما بينهن، فإنسانية المرأة وحاجاتها الإنسانية هي التي تدفعها لصداقة المرأة الأخرى.

ما تقدم يقودنا إلى القول بأنه إذا كانت الصداقة، سواء كانت صداقة رجلين أو صداقة امرأتين، تقوم على أساس إنساني، فحيث يكون هناك إنسانية يكون هناك من حيث المبدأ إمكانية لقيام صداقة، فما هو المانع إذا من أن تقوم صداقة بين رجل وامرأة؟ ففي حضور مشترك وتعامل مشترك بين الرجل والمرأة، يبقى كل منهما إنسانا، ولا يفقدان إنسانيتيهما، ويتحولان إلى مجرد أنثى وذكر، فلا يكون ولا ينشأ بينهما إلا الجنس.

هذا من حيث المبدأ، ولكن من حيث الواقع هذه العلاقة الممكنة مبدئيا أو نظريا تواجه عمليا التحديات القوية التالية:
1- التحدي الوعيوي:
فلا يمكن لأي شيء أن يحدث دون أن يتوفر الوعي الكافي به وله، فمثلا وعلى الصعيد السياسي لا يمكن أن تقوم ديمقراطية في مجتمع بدون وجود وعي ديمقراطي عند الشعب فيه، ولذا لا يمكن أن تقوم صداقة بين الجنسين المختلفين، إذا لم يكن هناك ثقافة مجتمعية وشخصية تفهم وتتفهم هذه الصداقة وتعترف بها وتقبلها وتسمح بقيامها.
2- تحدي الجنس:
فحيث يكون هناك رجل وامرأة، ولاسيما إن كانا جذابين، وبالأخص في ظروف كبت جنسي، فالجاذبية والدفع الجنسيين سيعملان بقوة، وستتحرك العواطف والرغبات، وهنا ستخلط الصداقة بغيرها من الحراكات، ولن تعود نظرة كل من الصديقين إلى بعضهما البعض نظرة صداقة وحسب، بل ويمكن أن تكون الصداقة من أساسها زائفة بشكل واع أو غير واع، فيما هي في حقيقتها تـَقرّب تعويضي عن النقص الجنسي عند الشخص المكبوت جنسيا أو غير الملبّى جنسيا، وعندها تكون الصداقة مجرد قناع.
3- تحدي الهوية:
عند الحديث عن صداقة الرجل للرجل، والمرأة للمرأة، لا بد وأن نتوقف عند أمر ذي أهمية كبيرة، وهو أنه في هذه الصداقات لا يصادق الرجلُ الطفلَ الذكر، أو تصادق المرأة الطفلةَ الأنثى، فالرجل البالغ يصادق رجلا بالغا مثله، وكذلك تصادق المرأة البالغة امرأة بالغة مثلها، ولا يتوقف الأمر هنا وحسب، فحتى بين البالغين من الجنسين يتصادق الشباب في ما بينهم، وكذلك الكهول والشيوخ، وهذا يعني أن التماثل أمر جد هام في الصداقة، حيث يسعى كل شخص لمصادقة شخص يشبهه، وبالتالي تصبح الصداقة بين رجل وامرأة صعبة بقدر ما هي صعبة صداقة شيخ وفتى بسبب اختلاف الطبائع.

تلك أيضا حقائق واقعية وشديدة الأهمية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، فكيف إذا تكون الصداقة بين الجنسين ممكنة؟

في ما يتعلق بالوعي على المستويين العام والخاص معا، هو شرط لازم لا يمكن بدونه الحديث عن أية صداقة، فحيث لا يوجد الوعي اللازم لا يمكن لأية علاقة أو نشاط أو عمل يقتضي وجود هذا الوعي أن يوجد أو يتم.
والوعي المرتبط بالصداقة بين الجنسين، هو حالة جزئية من حالة وعي إنساني أعم، تجعل الإنسان ناميا وثريا بإنسانيته، وقادرا على رؤية النماء والثراء الإنساني في الآخر والتفاعل معه على مستويات نمائه وثرائه الإنساني، وهكذا يكون لدى كل من الرجال والنساء من ذوي الوعي الإنساني الرفيع شخصيات نامية وثرية إنسانيا وقادرة على إبصار وإدراك إنسانية أمثالها الرفيعة، فيصبح هؤلاء الرجال والنساء المالكين للثقافة الإنسانية الثرية والبصيرة الإنسانية الجلية قادرين على الصداقة الإنسانية في ما بينهم.
أما الأشخاص الأميون وعيويا وثقافيا فهم يكونون -من ناحية- فقراء إنسانيا، ويكون إدراكهم بدوره محدودا أيضا من ناحية أخرى، ولا يمكنهم بالتالي رؤية الآخر من الجنس الآخر إلا في إطار جنسه الآخر، ولا يمكنهم التحرك نحوه إلا بدافع الجنس.
ذاك على المستوى الشخصي، أما على المستوى المجتمعي، فحيث تسود ذهنية تقليدية منغلقة، فهذه الذهنية لا تقبل ولا تعترف من الناحية الموقفية بالصداقة بين الجنسين، ولا ترى العلاقة بينهما إلا علاقة ذات طبيعة جنسية، فترفضها، وهذا ما تربي عليه هذه الذهنية أبناءها عادة؛ ذاك من الناحية الثقافية، ومن الناحية العملية، فبقدر ما تكون الثقافة منغلقة ومتشددة فهي أيضا لا تسمح بالاختلاط بين الجنسين، وبالتالي تصبح الإمكانية العملية لقيام الصداقة بين الجنسين غير متاحة ومفقودة، وهكذا تكون البيئة التي تسودها مثل هذه الذهنية قد صنعت منعا شاملا ثنائي البعد للصداقة بين الجنسين على الصعيدين النظري والتطبيقي.

أما في ما يتعلق بالتحدي الجنسي ودوافعه وتحركاته، وبإمكان الخداع الناتج عن الكبت أو النقص الجنسيين، فعندما يكون هناك بيئة اجتماعية صحية بما يكفي على صعدها المختلفة، فالتلبية الجنسية ستتوفر بالقدر المطلوب والشكل الصحيح، ويضمحل الكبت والعوز الجنسيان، وبالنسبة لأبناء هذه البيئة الذين لا يعانون جنسيا من الكبت والنقص، فسيكون لديهم عموما عدا عن ذلك شخصيات إنسانية نامية ذات سويات عالية من الوعي والإرادة تمكنهم من ضبط الدوافع الجنسية والتحكم بها، والحفاظ على الصداقة حيث يراد أو يجب أن تبقى الصداقة صداقة، ولكن حتى في البيئات المكبوتة، هناك دائما أشخاص يتمكنون من كسر حدود التربية المتزمة التقليدية والكبت، ويطورون شخصياتهم النامية القادرة على وعي الصداقة بين الجنسين والقيام بها إن أتيحت الفرصة.

وبالنسبة لتحدي الهوية، فيمكن القول أنه حيث يكون الشخص فقيرا إنسانيا، تكون شخصيته ضعيفة ومتشنجة، وهويته ضيقة الحدود ومتصلبة، ولكنه بقدر ما يثرى وينمو إنسانيا تصبح شخصيته أكثر قوة ومرونة وتفاعلية، كما تصبح هويته واسعة الحدود ومنفتحة، ويصبح المشترك الإنساني بينه وبين غيره من ذوي الثراء والنماء الإنساني واسعا وعميقا ومتنوعا بما يجعل قدرته على تخطي حواجز الهوية والتماثل التقليدية كبيرة، فيتمكن من مصادقة من هم من جيل آخر أو قوم آخر أو جنس آخر وهلم جرى، وبالتالي تصبح الصداقة بين الرجل والمرأة ممكنة على مستوى إنساني مشترك أشمل وأكبر من المستوى المشترك في نطاق نفس الجنس.

عدا عما تقدم، فالواقع المعاش نفسه يثبت ببساطة أن الدوافع الجنسية حتى في حالات الاختلاط بين الجنسين لا تنشط بوتيرة أو نمطية واحدة أو ثابتة، فمثلا قد يوجد رجل في وسط العديد من النساء، فيغرم بواحدة منهن فقط أو لا يغرم بأي منهن، وهو لا يعشقهن كلهن بالطبع، ونفس الكلام يمكن قوله عن الرغبة الجنسية، وذات الكلام بمجمله أيضا يمكن قوله عن المرأة ونشاطها كأنثى تجاه الرجال، وفي مثل هذه الحالة التي تكون فيها الدوافع الجنسية محدودة أو حتى غير فاعلة، تبقى للصداقة بين الجنسين استقلاليتها وفرصتها الخاصتين، ويمكن أن تقوم بينهما إن توافرت لها الشروط اللازمة.

وهكذا يمكننا القول أن الصداقة بين المرأة والرجل هي ممكنة وحقيقية، ولكنها تحتاج إلى بيئة إنسانية يتوفر فيها النماء الإنساني الكافي، لكي تتمكن صداقة مثلها من القيام، كما تحتاج بنفس القدر إلى ثقافة شخصية راقية هي الأخرى لكي تقوم، أما حيث لا توجد مثل البيئة الاجتماعية المناسبة فلن يتمكن حتى رجل وامرأة راقيين بما يكفي ومؤهلين لمثل هذه الصداقة من الصداقة لأن البيئة الرافضة لن تسمح لها بذلك، والعكس بالعكس، فحتى في مجتمع راق إنسانيا بما يكفي فشخصان مختلفان جنسيا يفتقران إلى رقي الوعي والثقافة سيمنعهما افتقارهما هذا من إمكانية إقامة مثل الصداقة.
وعليه فتطور البيئة ونماء الشخصية هما شرطا الارتقاء الظروفي العامّان اللازمان لقيام علاقة راقية كالصداقة بين الرجل والمرأة.